ضحية وجلّاد

غادر حسن الماحي البيت إذن، متجها إلى ما بدا عمله المعتاد، كسائق عربة نقل جماعي، من دون “إيماءة وداع”. ولأول مرة، ومنذ فترة طويلة جدا، لم يكن يحمل، في يده، أحد تلك الكتب، التي رأت زوجته شامة الجعيلة أنّها جعلته لا يتحدث مثل سائر النّاس، بل كإمام مسجدٍ في “لِباس خواجة”، تحسّ خاصّة من هيئته والطريقة التي ظلّ يعوّج بها لسانه أنّه يقول شيئا خارقا، لكنك بصورة ما لا تفهمه، على الرغم من وضوح بعض عباراته أحيانا، مثل “أنا أعتقد جازما”. إلا أن ذلك لم يكن بمثابة سوء الفهم الوحيد، الذي أخذ ينهض بينهما، في تلك الأيام، كحائط. وقد ضاق حسن الماحي وقتها، أيما ضيق، بدفع زوجته المتكرر له نحو الهرب، إلى مدينة “نيالا”، وقد حدث ذلك باستمرار ودوما، على الرغم من تحذيراته هو نفسه المتكررة بدورها على مسامعها، من خطر وجود ثعالب طائرة، على امتداد تلك الطريق الصحراويّة الجدباء الخالية الموحشة والفارغة، كتوقعاتِ قلبٍ خاب للتو في عشق.
ما أن صفق حسن الماحي باب الحوش وراءه خارجا، في اللحظة نفسها التي خرجت فيها العصافير شادية من جوف ساعة قديمة معلّقة على حائط الفرندة المحمية بالنملي الناعم من هجمات البعوض ليلا، حتى وقعت عيناه على هيئة الرجل، الذي سيكون بمثابة كابوسه المقيم، طيلة السنوات الخمس التالية، وهو يقف على ما بدا في انتظاره، هو حسن الماحي شخصيا، على الجانب الآخر من الطريق، عاقدا ذراعيه فوق صدره كأباطرة العالم على العملات الورقية، مستندا على احدى تلك السيارات السوداء المتشابهة ذات الدفع الرباعي، ناظرا مباشرة، لا إلى هيئته العامة كما فعل هو معه، بل إلى عينيه، اللتين أجهدهما التركيز، في أثناء القراءة المستمرة للكتب.
وحدث أمر غريب. انفصل كل شيء مُحيط (حتى الهواء) عن حسن الماحي. وبدا كما لو أنّ ثمة قوة جذب مغناطسيّة لا تقاوم، ظلّت تصدر عن عيني ذلك الرجل، الذي بدا بالضبط من وقفته، على ذلك النحو، كما لو أنّه جاء إلى الحياة الدنيا خصيصا لاعتقال السائق المثقف جدا حسن الماحي، وفي تلك اللحظة بالذات، من دون غيرها. قوة أشبه بالسحر. فاعلة نتائجها مُدركة وغير منظورة. ظلّت تشد حسن الماحي عبر نهر الشارع الصغير المترب، حتى شعر كما لو أنّه سمكة علقت بصنارة. ولما صار ما بين حسن الماحي والرجل خطوة، ابتسم الأخير، أما حسن الماحي فقد انحرف بنعومة بدت تلقائية، وقام بفتح أحد أبواب العربة الخلفية، من دون أن ينبس هو أو الرجل بكلمة واحدة، حيث جلس حسن الماحي هناك في الداخل الرطب المنعزل بالزجاج المظلل، عن ضوضاء العالم في الخارج وفضوله وحره، واضعا طوعيا عصابة سوداء على عينيه كان أحدهم قد وضعها على المقعد المجاور، وقد بدا حسن الماحي في جلسته تلك وعلى نحو عام مثل سجين ينتظر بيأسٍ مُشلٍّ عصا الجلاد لتقع بدقة على منتصف رأسه، مجردا تماما عن أي سلطة، حتى سلطة ذاته الطبيعية على ذاته، ولا سطر حضر حينه، ربما لعقلِ ما يحدث، إلى ذهن حسن الماحي، من بين آلاف الكتب أو المراجع، التي طالعها في الماضي.
لقد علق حسن الماحي وباختصار شديد في حبائل شبكة، نسجها بإحكام عنكبوت ذو ظهر أحمر سام وقاتل، أما قبضتها الحديدية، فكأسنان معصرة، لا فكاك منها، ولا خلاص. ثم خطفا، أخذ يتراءى لحسن الماحي، طيفُ ابنته سماح، وقد بدا له رجاء زوجته شامة الجعيلة المتكرر بالسفر هربا إلى نيالا، وثمة أسى ناشف أخذ يسيل بلا توقع من عينيه أسفل العصابة، مثل صيحة تحذير تأخر طويلا أوان سماعها. أما ذاك الغاضب في عهد طفولته كنبوءة بالهلاك فكان صوت أمّه: “إن شاء الله تموت في نيالا، يا كلب”. صوت ضعيف واهن، بدا لِقدمه، وفي واقع اعتقاله الماثل، أشبه بالضحكة الساخرة التي تطلقها الساحرات، في أذن بحّار تائه، وقد أخذ يرسخ، في ذهن حسن الماحي، وصوت العربة يعلو وينخفض، ويده الباردة الخالية من حياة تمسك متشبثة بشيء كالمقبض على الباب، أن الموت إذا جاء فلا فرق وقتها ما بين نيالا أو حلفا أو الخرطوم.
هناك، بين جدران الزنزانة، وقد ابتعد وقع الأحذية العسكرية الثقيلة، التي استقبلته عند بوابة السجن أو المعتقل، والتي ألقت به بعدها على أرضية السمنت المتسخة العارية مثل أي جوال من القش، قام حسن الماحي مقاوما أخيرا الحذر والتردد بفك تلك العصابة السوداء على عينيه، وكان الصمت طوال ساعات النهار الثقيلة المتباطئة أكثر فداحة وثقلا ودمارا من وطأة جبال العاديات على قدم.
هكذا، لم يقدم إليه طوال يومه ذاك طعاما أو شرابا.
ولم يكن راغبا بدوره في تناول أي شيء.
كما لم يُحقق معه.
ولم يُسمع إلى مغيب شمس يومه ذاك نفسه سوى صفير الريح خارج أسوار المعتقل وأصوات الجن الهامسة.
ولا يدري حسن الماحي على وجه الدقة لِمَ أخذت تعاوده، في الأثناء، ومن دون غيرها، ذكرى المزاج النزق لعمّال شارات المرور، وفكر:
“يموت السائق وفي نفسه حسرة”.
لما انتصف الليل، بدا كما لو أن الحياة أخذت تدب، على حين غرة، في الزنزانة المجاورة، وكان القمر مكتملا وراء نافذة القضبان الصغيرة قرب السقف البعيد، عندما أخذ نحيب رجل يتناهى من تلك الزنزانة. في البدء تناهى النحيب منخفضا رقيقا في توجعه، ثم عاليا مبحوحا في يأسه واستسلامه، ودوما بدا متوجعا وشاكيا مرارا وعلى وجه الخصوص من سرقة آلة الكمان، من الداخل القصيّ لفضاء البطين الأيسر لقلبه، حين كان في عمره في نحو التاسعة. هنا فقط، أحسّ حسن الماحي ولأول مرة بفداحة ما هو مقبل عليه. فقال يستنهض عوامل المقاومة القابعة في نفسه حتى ذلك الوقت كخرقة:
“لا تنصت إليه ثانية، يا حسن. لقد لحس التعذيب مخه. والكآبة تعدي”.
ولا بد أن أشياء عديدة أخرى، تتسم بالرهبة وتصعب على الوصف حدثت تاليا لِحسن الماحي نفسه، في أثناء سنوات الاعتقال الثلاث تلك، لأنّه كان معنيا بعدها وبالذات خلال السنتين الأوليين من حكم القرد الذي فك أسره لسبب من الأسباب، ومصمما حتى النهاية وبأكثر حتى من العودة لرؤية ابنته سماح وزوجته شامة الجعيلة ثانية، بمطاردة وتتبع أثر جلاده ذاك، الذي قام وعلى مراحل باقتلاع ومصادرة مخه واخفائه، في طيّات جدران قبو سريّ، لا يعلم مكانه كما قيل له (وهو يستأنف حملة انتقامه) إلا هو.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..