أخبار السودان

قصة مُصاب.. قلادة معلقة في عنق السماء

* ست وعشرون (تِرساً) من ماكينة الثورة أصابهم الشلل..

* حكايات مُرّوعة على لسان الترس (مدثر):

* ابتعاث اصحاب البدل السفاري للتواصل معنا يستفز الثوار ويصيبنا بالهيستيريا

* عائش مع الأحياء بنصفي الحي، ونصفي الآخر مع الأموات

* أتوق للعودة لقاعات الدراسة رغم الإختلال البدني والنفسي

ست وعشرون (ترساً ثورياً) تطاول أمد أوجاعهم ومعاناتهم مع الإصابة المقعدة، أربعة أعوام جاثوا خلالها البلدان العربية والأعجمية في رحلة إستشفاء وتعافي لم تبلغ تمامها، يعيشون بيننا، تقتلهم الآلام، يطويهم العذاب، يعيشون فقط بنصفهم الحي، كثيرون بُترت أيديهم وأرجلهم، توقفت وظائف بعضهم، إصابة النصف الأسفل من أجسادهم بداهة تكشف عن تعطل كل الأجهزة السفلى، توقظهم الأحلام المفزعة، تنتاشهم الأوجاع في صحوهم، 26 ثائرا مُقعدا يعيشون رحلة معاناة كشفوا عن تفاصيلها الدقيقة بالدمع والدموع، أوجاعهم تتفاوت لكن تظل أرواحهم متقاربة ومنسجمة..!

اختلال نفسي

ست وعشرون (ترسا) فقدوا توازنهم النفسي والبدني، ما عادت أبدانهم تستجيب لتلك الرسائل والإشارات الكامنة داخل جهازهم العصبي، مثل الأسود الجائعة، تسللوا في رابعة النهار، أصوات حناجرهم شقت عنان السماء، كانوا يركضون بساقين سليمتين، يلعبون ويمرحون دون إنتباهة لما هو آت، يمارسون هواياتهم، يحلمون ويأملون يعيشون بيننا، اليوم بنصفهم الحي ونصفهم الميت، تتأرجح أمانيهم، هنالك من تعلقت روحه بالسماء ولم تصعد، منهم من تمسك بعشم العودة الى ما كانت عليه صحته وعافيته قبل فاجعة فض الاعتصام، بلغوا أمانيهم العليا فكانت القيادة (ميسهم) المرتجي، إنفض سامرهم بين جريح وقتيل، آمنة مطمئنة تلك الأرواح التي صعدت الى بارئها لكن هنالك أرواح ظلت كقلادة معلقة بعنق السماء ..!

الجريدة ـ عبدالرحمن حنين

الصبي الثائر

لم يبلغ الحلم، كان في الصف الثامن عندما إندلعت شرارة الثورة، لم ينتمي لحزب سياسي، كان دافعه في الخروج نصرة الثورة وسقوط الطاغية، في الثامن من رمضان ، بعد صلاة المغرب بقليل وعقب تناول (إفطار) رمضان تسلل ورفقائه أسفل النفق، شهروا هتافاتهم، كان رتل من السيارات تحمل لوحات (دـ س ) تقف على مقربة من ملعب جامعة الخرطوم، لم يفزعهم دوي مدافع الدوشكا، كانوا كالأسود الجائعة، رددوا هتافاتهم المشروعة (سلمية ـ سلمية ضد الحرامية )، الهتافات استفزت من ينبغي له إمتصاص كل فعل مضاد وفقا لما خضع له من تدريبات، وابل من الرصاص تم إفراغه من مواسير الكلاشنكوف صوب رفاقه، تماسكوا كعقد منضوم، سقط الصبي الثائر (مدثر) صاحب الـ16 ربيعا، آخرون أيضا تساقطوا كصفق الشجر، تدافع الثوار كعادتهم صوب المعركة غير المتكافئة، ثلاثة من رفقائه إنتقلوا الى ذمة الله، سقط هو مغشيا عليه بعد أن اخترقت رصاصتان جسده الغض، تم نقله ومجموعة أخرى الى مستشفى المعلم حيث أجريت له علمية جراحية عاجلة، استئصلوا كليته اليسرى، طوحاله، ومرارته..!

رحلة علاجية

سبعة عشر يوما قضاها (الترس مدثر) على سريره بالعناية المكثفة مغشيا عليه، ذات الأيدي الملطخة بالدماء طالبت بنقل كل المُصابين الى مستشفى الفيصل، مكث هنالك سبعة أشهر أخرى، أجريت له عدد من العمليات الجراحية من أجل التعافي من مضاعفات العملية الجراحية التي تتمدد طولا وعرضا على سلسلته الفقارية، نخاعه الشوكي لم يقوى على حمل بدنه النحيل، كل وظائف أعضاءه تعطلت عن أداء مهامها، لم يكتشف خمول نصفه السفلي ألا بعد قراءته للتقرير الطبي الذي أوصى بضرورة إجراء عملية أخرى لزراعة شرائح لتحفيز جهازه التناسلي والبولي على العمل.

الإمتناع عن الأكل

غريزته في الأكل والشراب تراجعت، حكى كيف أنه حرم من وجبته المفضلة، كل الوجبات البلدية المحببة إليه أصبح غير مشتهاة عنده، وجباته انحصرت على (النواشف) من طعمية وبلح، الأكل يعني الاخراج، هذا فعل لا يقوى على السيطرة عليه منذ أصابته قبل أربعة أعوام مضت بالقيادة العامة، لا إراديا (يتبول) وكذلك (التغوط)، أصبح جسدا نصفه حي ونصفه ميت، كل التدخلات الجراحية لم تحرك ساكن نصفه السفلي، أمسى غير قادرعلى التحكم في بوله وتغوطه، وكذلك غير قادر على الحركة إلا على دراجته، كل أمانيه أن يسير ولو خطوتين ثم يسقط، هذه الأمنية دفعته بأن يلازم العيادات الخاصة بالتدليك الطبيعي وعلى نفقته الخاصة رغم أن 3 سيارات خصصت لحركته له ولرفاقه، هنالك ايضا بحث عن ضالته دون طائل، الشريحة التي زرعت لتحفيز جهازه التناسلي أصبحت جزء من علاته بدلا من أن تكون جزء من الحل، أصابت جلده الطري بحكة أقلقت منامه، أصبح مثل الأجرب، حكى أوجاعه ومضاعفات علاجه دون أن يجد آذان صاغية، اللجنة الخاصة بمتابعة حالته هو ورفاقه صارت غير راغبة في الرد على مكالماته، شكى عجزه وقلة حيلته، سرد معاناته في الحركة بدراجته المتهالكة التي صارت هي كذلك نصفها حي والآخر ميت .

مناديب الأجهزة الأمنية

لم تكن أوجاعه البدنية وحدها من رسمت تقاسيم وتجاعيد وجهه الطفولي، دخول مندوب الأمن بلبسته الإشتراكية ظل يحرك ذاكرته، ذاكرته تستدعى كل الذكريات، ذكريات فاجعة الفضّ، حكى كيف تكون نفسياته عند رؤيته لتلك (البدلة)، حالة نفسية قاسية قال أنه يعيشها في تلك اللحظة، استنكر أن يكون الجاني رسولا وحمامة للسلام، شدّد على ضرورة أن تراعي كثير من الجوانب النفسية والمعنوية له ولرفاقه، قالها داوية : (كل من ينتمي للمنظومة العسكرية يجب أن ينأى بعيد عن أي مأوى للثوار، قال: يكفي أنهم من أصابونا في مقتل ونحن بصدور عارية)، ينبغي على أعضاء اللجنة الكف عن الترحال بين البلدان بنفقات ونثريات ما كان لهم أن ينالوها لولا جسارة المقعدين من التروس، ومضى، ظللنا نلاحقهم من أجل تجديد بطاقة الـتأمين الصحي لعدة أشهر دون طائل، كذلك فترنا من ملاحقتهم من أجل الترحيل رغم تخصيص ثلاث سيارات مجهزة من أجلنا، وتابع، لأنفسهم يستخرجون تأشيراتهم ويكملون إجراءاتهم في لمح البصر، قال بكل الآلام الدنيا أنه يعاني من الآلام حادة في بطنه، لكنه ظل صابرا، صامتا، شاكيا ومحتسبا كل أوجاعه وآهاته الى (العدل) الذي يختصم كل العباد عند ملكوته يوم يقوم الحساب .

المدرسة

أجتر (مدثر) ذكرياته داخل قاعات الدراسة وحكى كيف أنه كان مشاغبا بين رفقائه حتى أصبح مشهورا بين طلاب مدرسته والمدرسين، شرد وطاف بذهنه كل تلك اللحظات، ممنياً نفسه بالعودة الى قاعات الدراسة ومواصلة تعليمه الذي انقطع عنه منذ أن كان بالصف الثامن، ومضى لم يكن أمامي خيار بعد أن فقدت نصفي السفلي غير العودة لقاعات الدراسة من أجل تغذية عقلي كما فعل كثير من العلماء والنجباء أمثال طه حسين، حكى تلك المحاولات الحثيثة التي ظل يبذلها العم (كشة) من أجل إلحاقه بتلك المدرسة، مفضلاً أن تكون المدرسة ملاذا تعليميا ومأوى له في نفس الوقت وبرر ذلك بكونه معاقاً غير قادر على الحركة وجزم بأن الأفضل له ولأسرته أن يعود الى المواظبة في تعليمه.

منوها الى أن رفقائه على أعتاب الجامعة، وقال أن فترة الأربع سنوات التي قضاها مستشفيا ومتجولا بين بعض الدول منحته كثير من الأصدقاء والتجارب التي يمكن أن تعينه في مشوار حياته ورحلته القادمة مع المعاناة والاوجاع بعد فقده لكثير من خصائص الإنسان من قدرة على الحركة والتجول كيفما شاء ومتى ما أراد، وفي رده على سؤالنا له عن ما إذا كان قادرا على نسيان تلك الذكريات المزعجة التي شهدت إصابته نوه الى ان تلك اللحظات القاسية من الصعوبة بمكان نسيانها ودلل على ذلك بمحدودية أكله وشربه وحركته، وقال لن أنسى تلك المرارات حتى وأن بلغت عافيته تمامها.

العدالة الانتقالية

ومثلما وجه سهام نقده اللاذع تجاه لجنة المُصابين بإبتعاثها مناديب جهاز الأمن للتواصل معه في معتقله الإجباري حسب وصفه، وجه رسائل ملتهبة الى بريد قوى الحرية والتغيير، وتساءل لماذا لم تتم محاسبة الذي قام بإطلاق الأعيرة النارية على ظهري، وأسترسل، على قوى الحرية والتغيير أن تشرع في فتح ملف العدالة الانتقالية ومحاسبة المتورطين في فض الإعتصام بدلا من الهرولة نحو طاولة التفاوض تاركين قضايا المُصابين خلف ظهورهم دون حياء أو دون مسؤولية.

الجريدة

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..