هَاشِم عَبْد الْلَّه مَانْجيل ( الْعَمِيد) 1-4

1-
لَم يَجِد هَاشِم مَانجيل، ( عَمِيد كُلِّيَّة الْبَصَرِيَّات بِجَامِعَة النِّيلَين )، حَرَجاً فِي الالْتِحَاق بِكُلِّية الْحُقوْق بذات الجامعة، وَهُو فِي مُنْتَصَف الْعقْد الْسَّابِع مِن عُمرِه، كَأَوْل خُطْوَة عَمَلِيَّة لَه بَعْد تَقَاعُدِه، مُحَقِّقَاً بِذَلِك حُلُمَا مَا انْفَك يُرَاوِدُه سِنِين عَدَداً. لَتُبْحِر بَعْدَهَا الأسئلة بِمَرّاكِب الْحَيرَة لَدَى مُعْظم مَعَارِفِه، عَمَّا يُرِيدُه الْعَمِيد مِن دِرَاسَتِه الْمُتَأَخِّرَة هَذِه لِلْقَانُوْن. قِطْعَاً هُو لا يَحْتَاج الْشَّهَادَة الَّتِي سَوْف يَنَالُهَا، لَيَعْمَل بِهَا قَاضِيَاً أَو وَكِيْلا نْيَابيّا أَو مُحَامِيا. إِذَن، مَا هُو هَدَفُه مِن هَذِه الْدِّرَاسَة ؟
رُبَّمَا اسْتَدْعَت ذَاكِرَة بَعْضُهُم حِينَهَا ذَلِك المثل الْقَدِيم:
(بَعْد مَا شَاب دخلُو الْكُتّاب )
إِلا أَن الأمْر لَيْس كَمَا تَخَيَّلُوه، فَالعَمِيد رَجُل لَه قَوَاعِد اخْتَطَّهَا لِنَفْسِه، وَالْتزم بِهَا، أَهَمُّهَا، طلَب الْعِلْم فِي أَي زَمَانٍ وَمَكَان، مُجَرَّدَا مِن الْرَّغَبَات وَالتَطَلِعَات، لِلْوُصُول عِبْرَه لِمَنْصِبٍ أَو مَنْفَعَة مَا، وَعلى هَذَا فَإِن تَقَدَّم الْعُمُر لا يُشْكِّل حَاجِزاً يَحُوْل دُوْن ذَلِك.
هَاشِم عَبْد الْلَّه مَانْجيل، أَكْبَر أَبْنَاء الْخَلِيفَة عَبْد الْلَّه فَرج الْلَّه مَانْجيل، خليفة الْسَّيِّد الْحَسَن الميرغني. الخليفة عبد الله، الخَتْمِي حَتَّى الْنُّخَاع، الذي أَدَّى بِه تشَدده لِلْطَّرِيقَة الْخِتْمِيَّة، إلى دُخُوْل الْسِّجْن، فِي مُوَاجَهَة مَّعْرُوْفَة بَيْن الْخِتْمِيَّة، وَوَفَد مِن الأنْصَار، أَتَى فِي زِيَارَة لِلْمَدِينَة، أَيَّام أَن كَان الاسْتِعْمَار يَبْذُر بُذُوْر الْفِتْنَة بَيْنَهُمَا، تطبيقاً لِمَبْدَأ ( فَرِّق تَسُد ).
كَمَن رِجَالات الْختْمِيَّة لِلْوَفْد، وَانْقَضُّوُا عَلَيه، وَدَارَت بَيْنَهُمَا مَعْرَكَة كَان نِتَاجُهَا جِرَاح جَسَدِيَّة لِلْبَعْض، وَجِرَاح نَفْسِيَّة لِلْكُل، و اعْتِقَال وَسُجِن لِلْمُشْتَرِكَين بِهَا، وَمَن بَيْنهم الْخَلِيفَة عَبْد الْلَّه.

هَاشِم مِن أَوَائِل طُلاب الْمَدِينَة الْنَّابِهِين الَّذِين أَكْمِلُوا دِرَاسَتهِم الْثَّانَوِيَّة بِمَدْرَسَة حَنْتَوَب، تِلْك الْمَدْرَسَة، الَّتِي َكان يُعْتَبر القبول للدراسة بها، دِلِيّلاً عَلى الْنَّجَابَة وَالْتَّفَوُّق وَالْنُّبُوْغ، وَهِي ثَالِثَة ثَلاثَة فِي الْقُطْر كُلِّه بِجَانِب رَصِيفَاتِهَا، وَادِي سَيِّدِنَا، وَخُور طَقَّت. حَيْث يَجْلِس كُل طُلاب الْمَدَارِس الْوُسْطَى، فِي جَمِيع أَرْجَاء الْقُطْر، لأدَاء امْتِحَانٍ مُوَحَّد، للحصول على مقعدٍ في إحدى المدارس الثانوية آنفة الذكر. كَانَت أوراق الاختبار تَتِم طِبَاعَتِها آَنَذَاك بِالْمَمْلَكَة الْمُتَّحِدَة، وَتُذَاع النتيجة مِن إِذَاعَة أمْدُرمان.
أَكْمَل هَاشِم دِرَاسَته الْثَّانَوِيَّة، وَكَان يَأْمَل فِي دُخُوْل الْكُلِّيَّة الْحَرْبِيَّة. أَيَّامُهَا كَان لِكُل زَعِيم مِن زُعَمَاء الْطَّرِيقَتَين، الْختْمِيَّة وَالأنْصَار، نِسْبَة مُحَدَّدَة مِن الْطُّلاب، يتِم تَرْشِيحهم مِن أَبْنَاء رِجَال الْطَّرِيقَتين، لِدُخُوْل الْكُلِّيَّة الْحَرْبِيَّة وَكَلَّيِّة الْشُّرْطَة, و لِسَبَب مَا، لَم يُوَفّق هَاشِم فِي الانْضِمَام لِكَشْف الْطَّرِيْقَة الْختْمِيَّة.
وَفِي الْنَّفْس قَلِيْل من الْحَسْرَة، وَقَدَّر وَافِر مِن الثِّقَة بالنفس، وَعَزِيْمَة لا تَلِين، الْتَحَق هَاشِم بِمَعْهَد الْبَصَرِيَّات، لَيَتَخَرَّج مِنْه بَعد عَامَين (فَنّي بَصَرِيَّات).
2-
لا أَدَّعِي الْمَعْرِفَة الدَقِيقَة بِالعَمِيد، إِلا أَنَّي أُؤَكِّد بِأَنِّي رُبَّمَا أَكُوْن الْشَّخْص الَوُحِيد، الَّذِي حَظِي بِمُجَالَسَتِه وَالاسْتِمَاع الَيْه، وَلْفَتَرَات طَوِيلَة.
وَمُجَالَسَة الْعَمِيد، مُتْعَة لا تدَانِيهَا مُتْعَة. يَكْفِي أَنَّه يَسْتَطِيع بِأُسْلُوب حَدِيثِه أنيق العبارة، وَغَزَارَة عِلْمِه، أَن يَجْعَلَك تلتصق بمَقْعَدِك، سَاعَاتٍ وَسَاعَات، دُوْن أَن تَمَل، وَهَذَا مَا كَان يَحْدُث لِي حِين يَسْتَضِيفُنِي وَأُسْرَتِي، وَنَحْن قَادِمِون أَو مُسَافِرِون، بِحُكْم أَن أسرته تُجَاوْر أُسْرَتِي بِالْحَي لِعُقُوْدٍ خَلَت، وَحَتَّى الآن. وَمَازَالَت الأسِرَّتَان تُحَافِظان عَلَى ثَقَافَة ( النَّفَّاج )، يَتَبَادَلان عبره أَخَبَار الأبْنَاء الْغَائِبِيْن، وَمَا يَحْدُث فِي حَيَاتِهِم مِن تَطَوُّرَات. ويتقاسمان السراء والضراء.
فِي الْبِدَايَة كَانَت صلَتِي بِالعَمِيد، مُجَرَّد تَبَادُل الْتَّحِيَّة حِيْن يَأْتِي إلى الْمَدِيْنَة، فِي إِحْدَى زِيَارَاتِه الْشَّحِيحَة، بَعْد أَن اسْتَقَر بِالْعَاصِمَة وَتَزَوَّج مِنْهَا. كنْت أتحاشى الْجُلُوْس مَعَه، لَيْس بِسَبب أَنَّه أَكْبَر مِنِّي سِنَّا، َلَكِن،كَان يرَاودُنِي إِحَسَّاس كلما التقيته، بِأَنَّه عَلَى شيء مِن التعالي، بِردُودُه المختصرة، وَأَسْئِلْتِه الَّتِي كُنْت أَعْتَبِرُهَا جَافَّة وَمُستفِزّة.
ثم اكْتُشِفَت مُؤَخَّرَاً أَن إِحْسَاسِي ذَاك كَان خَاطِئِا، وأن فهمي كان قاصراً عن إدراك حقيقته، وأسلوبه في التعامل، بما يتماشى والقواعد التي يسير عليها في التعرف على الآخرين. وضح لي ذلك، عندما دَفَعَتْنِي الظروف لِتَقْبَل ضِيَافَتِه، وقت أن تَم انْتَدَابِي لِلْعَمَل خَارِج الْبِلاد أَوَّل مَرَّة، وبإصْرَار من وَالِدَتِه، ( رَحِمَهَا الْلَّه )، وَوَصِيَّتِهَا بِأَن أُقِيْم مَعَه حَتَّى مَغادْرَتِي البلاد. ومَا كَان لِي أَن أَرْفُض طَلَباً لها، فقبِلَت عَلَى مَضَض، وَأَنَا أَتَحسَب من هذه الاسْتِضافة.
الحق يقال، أنّ الْعَمِيد، كَان وَمَا زَال، بأريحية وكرم مبالغ فيه، يَسْتَضِيف الأهْل وَالأقَارِب، وَالْطِّلْبَة وَالْطَّالِبَات، مِن أَبْنَاء الأسِرَّة، الَّذِين يُقِيْمُ بعضهم بمنزله إقامة دائمة، طَوَال مُدَّة دِرَاسَتِهِم، خاصة الطالبات. يُسَاعِدُه فِي ذَلِك أَنَّه حظّي بِزَوْجَة مُتَفَهِّمَة، تَتَعَامَل مَع كُل هَذَا الْكَم الْهَائِل مِن الْزُّوَّار وَالْمُقِيمِين، بِبَسَاطة، وَابْتِسَامَة دَائِمَة، وَقَلْب مَفْتُوْح، بِجَانِب رِعَايَتِهَا لأطْفَالِهَا.
وَبِالرَّغْم مِن ضِيق شُقّتِه الأرضية، الَّتِي يُقِيم فيها بِأحْدَى عمَارَات (حَي بَاريس)، غَرْب مَنَازِل عُمَّال السِّكَّة حَدِيد، الْمُكَوّنَة مِن غُرْفَتَين، وَصَالة، وُحُوْش خَلْفِي، يظَلِّلُه سَقْف مِن الْزَّنْك، يفك نوعا ما من ضائقة التكدس داخل الغرف، إِلا أن تلك الشقة مع ضيقها البائن، تَسع الْجَمِيْع، بِاتِّسَاع سَمَاحَة الْعَمِيد وَزَوْجَته، وَطِيبَتِهم التي لا حدود لها.
3-
مُنذ الْوَهْلَة الأوْلى التي ولجت فيها من باب شقته، شَعَرْت بِدِفْء الْمَوَدَّة، وَالْعَمِيد يَسْتَقْبِلُنِي بِابْتِسَامَة عَرِيضَة، ويغَمَرَنِي بِكَرَمِه وَأَريحيتِه مَع ذَلِك، كُنْت أَتَحَاشَى مُجَالَسَته مَا أَمْكَنَنِي، حَتَّى حِين نَجْلِس لِتَنَاوُل وَجْبَة مَا، كُنْت لا أُبَادِرُه بِالْحَدِيث، وَأُجِيب عَلَى أَسْئِلَتِه باقتضاب. كنت أحسب أنها المرة الأولى والأخيرة التي أقيم فيها معه، وما كنت أدري أنه سيوثقني برباطٍ من مودة، استكنت لها على مدى عقود وعقود.
بداية، أَدْهَشَتْنِي مِئَات الْكُتُب الَّتِي يَخْتَزِنُها العميد بْغُرَفَتِه. كتب في كل مكان، داخل المكتبة، التي لم تتسع لها، ففاضت على خزائن الملابس، والطاولات الصغيرة، داخل حقائب تحت السرير، وبعضها مصفوف في الزوايا. كُتب مُخْتَلِفَة الأحْجَام، و فِي مُخْتَلَف أنواع الْعُلُوم. بِالْعَرَبِيَّة وَالانْجلِيزِيَّة ( أَضَاف إليها الْفَرَنْسِيَّة لاحِقَا ). ربما تَتَعَجَّب كَيْف يَسْتَطِيع الْعَمِيد الْعُثُور عَلَى بغَيِتَه من الكتب وسط كل هذه الفوضى، لَكِن جَرَّب وَأَسْأَلُه، لِيَدلّك بِدِقَّة متناهية، عَن مَكَان الْكِتَاب الَّذِي تَطْلُبُه.
كَانَت مُتْعَته بَعْد الْعَمَل، أَن يَسْتَلْقِي عَلَى سَرِيرِه، وَيَسْتَغْرِق فِي الْمُطَالعَة، تُرَافِقْه علْبَة الْدُّخَان، الَّتِي يَلْتَهِم مُحْتَوَيَاتِهَا، وَلا أَقُوْل يُدَخِّن، لفافة تِلْو الأخْرَى، تِلْك الأَوْقَات، يَصْعُب فِيْهَا الْحَدِيث مَعَه، وَلا يُحِبَّذ هُو ذَلِك.

يتبع

الطيب محمود النور
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..