( المحراث ) و ( الجزية )

(1) المصارف هي القاعدة العنيدة التي ينطلق منها التصنيع وتنطلق منها كل حلول المصاعب الاقتصادية للمجتمعات الحديثة , ولذا وفي عام 1961 ظهر ( البنك الصناعي ) كلبنة وعي أولى تدرك مستقبل السودان الزراعي , وذلك لتمويل الصناعة في كل السودان وتقديم الضمانات المصرفية للشركات الكبرى في العالم المجاور التي تدرك ضخامة الموارد تحت أحذية السودانيين , كما كان لتلك البنوك أيضا أن تساهم في رؤوس أموال ( المصانع) ودعم قدراتها في شراء المواد الخام المستوردة مما شكل دفعة لم تتوفر في أي وقت حتى الآن , كما كان له دورا في التسويق والإرشاد , وتحديث وتنظيم الإدارة . كانت تلك الانطلاقة الحقيقية في مشاركة مثمرة بين عقل الدولة والمواطنين وبين المحلي والعالمي دون تفريط في تحريك وتجييش الموارد والطاقات إلى أن ظهرت الحركة الإسلامية .
(2) تحرك التاريخ السوداني وئيدا نحو المستقبل بإمكانيات واعدة إلى ذلك الوقت الصعب حين أدخلت ما يسمى بالصيغ ( الإسلامية ) للتمويل في عام 1984 مع افتتاح ( الدولة الإسلامية ) بقوانين سبتمبر التي كانت مؤقتة ومناورة سياسية ضيقة الأفق محكومة بحاجات حزب تخنقه الأزمة الاقتصادية وكان من السهل مسحها من خارطة الإنسانية لولا تعجل ( الحركة الإسلامية ) في إحداث انقلاب 1989 الذي قام به مدنيون تحت قيادة عسكرية من الجيش , وسارت تلك القوانين القمعية التي تفرعت في ما بعد لتنشر الظلام والبؤس جنبا إلى جنب مع القوانين ( البنكية ) التي نهبت تحت شعار ( وأعدوا لهم ما استطعتم) رؤوس أموال البنوك والاحتياطي المركزي الذي حولوا وجهته من التمويل المحلي الصناعي والزراعي الذي خضع للجباية والعبودية والتقزيم إلى مكاتب استيراد كل ما هو هامشي ومبدد للمال العام ومبدد للطاقات الوطنية وكانت النتيجة رفع أسعار ( المعروقات ) .
(3) بواسطة صيغ ما يسمى ( بالتمويل الإسلامي ) التي فرضها الانقلابيون المدنيون وخريجو المعاهد الدينية تم تدمير ( الصناعة ) في السودان حتى آخر (طوبة ) وجاءوا بتلك الصيغ البالية لا لمكافحة العطالة ولا لمكافحة ضعف الإنتاج ولا لتقوية الناتج المحلي الإجمالي وإنما لمكافحة ما يسمونه ( بالربا ) وهو القروض التي تمنحها البنوك مشاركة ومساهمة ودعما لرؤوس أموال المصانع والمنشآت وزيادة طاقاتها الآلية وتوسعاتها الإنتاجية تأسيا بالدول الأخرى التي تقف على رأس الإنتاج حتى يعيد دورته من جديد , وبدون تلك القروض ما افتخرنا يوما ولا سمعنا في سنواتنا الدراسية عن تلك القاعدة الصناعية الضخمة التي ساهمت في صناعة وعي ( بالوطن ) و ( العزة القومية ) من مصانع الأحذية ومصانع الجلود ومصانع النسيج والمحالج … الخ والتي انهارت في 1990 بعد صدور قرارات ( رسمية ) ألزمت كافة مؤسسات التمويل بتطبيق صيغ التمويل ( الإسلامية ) القديمة منذ الإقطاع والأقنان التي لا تنسجم مع التعقيد الإنتاجي الحديث الكثيف ولا مع الصناعات الناشئة التي تحتاج إلى رعاية خبرة الدولة كي تتحول إلى صناعات تصديرية رائدة ومنافسة في السوق العالمي . وكانت النتيجة رفع أسعار ( المنكوبات ) .
(4) إن فشل صيغ التمويل الإسلامي ليس في أنها لا تهتم بالقدر المطلوب لتمويل النشاط الصناعي لدولة , وإنما كذلك لا تهتم نهائيا بما يرتبط بهذا النشاط من تمويل ورعاية للتعليم ومراكز الأبحاث والجامعات وتبتعد هذه العقلية نهائيا عن تصور أن الإنسان هو أساس النشاط أيا كان , فتهمل تمويل الصحة والخدمات والتدريب وتترك ما يتيسر من إنتاج زراعي مثلا للمضاربات والاغتصاب باسم السعر الحر لمجموعة من المنتفعين لا يستطيعون المساهمة مرة أخرى في تفعيل الدورة الزراعية ودعمها وتكون النتيجة تعسر الأرض وتعسر زارع الأرض وتعسر الوطن كله في حالة من المخاض بين ( المحاريث ) المدمرة .
(5) سلكت الحركة ( الإسلامية ) الكثير من الطرق الملتوية وخدعت المواطنين بكثير من الشعارات التي أدت إلى ضعف الجميع وثراء القلة التي لا تنتج , ومن تلك الشعارات ( الاتهام بالربا ) الذي كثفت الدعاية من حوله وضخمت من حرمته التي وصلت إلى ما فوق الزنا والقتل وبذلك استطاعت محاصرة البنوك في السودان وخلخلة أنظمتها , وكانت تبتغي من وراء ذلك فقط السيطرة على مجمل ( حركة المال والتمويل ) ? السيطرة وليس التنمية , الغنيمة وليس التقدم ? والتمويل كأداة للصراع السياسي وسحق المعارضين وغسل رأس المال الوطني وكأداة للهدم وتحويل الممتلكات العامة والشخصية إلى الوجهة التي تقبع فيها أحلامهم ومخاوفهم ثم حل بليل غسيل الأموال محل الاتهام بالربا الذي مارسوه بعد ذلك تحت ذرائع أيضا دينية كذريعة الضرورات تبيح ( المحظورات ) وما حلوا في مكان ( الضرورات ) الكارثي إلا لأنهم في ذروة السياسة حرموا كل ما يمكن أن تنهض به صناعة وتزدهر به أمة . وكانت النتيجة جوع الملايين والخوف من المستقبل . والانهيار المعنوي , والركود , وخلو الشوارع البائسة المحزونة من لمحة أمل أو بصيص ابتسامة .
(6) هذه الصيغ العقيمة التي جعلت رطل الحليب يرتفع من 300 جنيه إلى 3000 جنية بين عشية وضحاها من أعجز الصيغ التي عرفتها البشرية وأخذها العرب من غيرهم من الشعوب فقهيا واقتصاديا عند تطبيق مبدأ ( المشاركة ) الملعوب بذقنه , وأعجزها في سوق التمويل لتوفير وتقوية وزيادة رأسمال شركة أو مصنع ما أو حتى ( دكان ) حدادة صغير كثيرا ما يبيع صاحبه ( مكنة اللحام ) ويبصق على أسس التمويل وأصحابه و هي كذلك عاجزة لتوفير بعض مكونات رأس المال العامل مثل ( الأجور ) + ( المرتبات ) . ولاحظ الكثيرون أن هذه الصيغ تسبب أكبر عيوب الصناعة على الإطلاق وهو زيادة ( تكاليف الإنتاج ) الذي يشكو منه كل من وضع يده في أتون الاقتصاد السوداني المتجمد وذلك لأن هوامش أرباح البنوك ترتفع جدا في كل مرة يزيد فيها الربح المنوط به تقليل التكلفة والتوسع مما يؤدي في النهاية إلى دمار أي صناعة وضعف جودتها وقلة قدرتها على ( المنافسة ) لبضائع الدول المشابهة حتى في أسواقنا الداخلية . وكانت النتيجة أن صمتت المصانع صمت القبور , وكفت المداخن التي ملأت الفضاء يوما ما عجيجا وسحابا , وسكتت خطوط السكك الحديدية عن الهدير والصفير . وسبق السيف العذل .
(7) كيف ولماذا مارس الإسلاميون ( الربا ) أضعافا مضاعفة ثم كيف جاء المرابون واللصوص والمنحرفون إلى واجهة الإقتصاد السوداني من بني ( كوز ) , من ذاك الاقتصاد الذي كان مبشرا ومنطلقا حينما بدأ ؟ الإجابة سهلة . من داخل الدين . يقول بعضهم إن ( المرابحة ) هي التي تخلق الجريمة الاقتصادية , وهي التي تجعل صاحب اللحية ( الكثة ) لصا خسيسا يبرر جريمته ( بأن الله غفور رحيم ) مادام الذين يعاقبونه في الدنيا هم الكهنة الذين يشجعونه على مد يده , فالمرابحة غير ذات فائدة ( دينيا ) أو ( شرعيا ) لأنها من أكبر العوامل لازدهار ( الربا ) وخلق ( المرابين ) من ( الإسلاميين طبعا ) عندما يستغلونها – وما أكثر ما يفعلون ? في أوجه صرف أخرى , وينحرفون بها عن الجادة , ويقضمونها في ركن قصي , وذلك في كل مال يقع تحت سلطانهم , وفي كل تمويل يشمون فيه رائحة التمكين , خاصة مال (التجنيب ) , و مال الجباية ,ومال الزكاة , ومال الأوقاف . وأموال المنظمات . وكانت النتيجة خلق أمة تلعن أختها , ” ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ” .
(8) من العيوب التي يندى لها الجبين لصيغ التمويل التي أتت بها الحركة الإسلامية مدعومة من مال البترول الخليجي أنها تحجم وبكل وضوح عن تمويل ( الصناعة ) وذلك لمخاطرها الكبيرة ومراحل إنتاجها وتسويقها وموادها الخام ومدخلات إنتاجها المتعددة والكثيرة وذلك لأمرين أولهما : أن البنك إذا تأخرت أقساطه لا يحق له أخذ ( التصديق ) وثانيا : عليه أن يرضى بما قسم له في أوقات ضعف أو قلة أو انعدام الأرباح ولهذا تركل وتعادي وتتأفف البنوك الإسلامية من كل شيء تحوم حوله شبهة ( التصنيع ) و ( الصناعة ) على الرغم من زخمها العالمي وقدراتها اللانهائية على تطوير المجتمعات والتعليم ونوعية حياة الفرد ومحاربة الأيدي العاطلة والبطون الخاوية ولذا لا تحبذ إلا الاتجاه الأوحد للإسلاميين : التجارة وطفيلييها . ولذلك النتيجة دائما واحدة ترك المحراث مهجورا . وترك المزرعة لهجير الصيف .
(9) في النهاية استطاعت أساليب التمويل الإسلامي خلق هذا القطاع ( التجاري ) الطفيلي الهائل الذي يتآكل الآن لحظة بعد أخرى منذرا بسقوط تاريخي مدو بعد أن انكشفت عيوبه وأخطاءه التي سترتها الوحدة السابقة جنبا إلى جنب مع مداورات التمكين , ولكن ها هي البدائل التي خلقها التمكين حسب منظوره الضيق المتأطر بالجماعة تتداعى الواحدة تلو الأخرى ليبقى في ذاكرة التاريخ من ملوثات الحركة الإسلامية شعارها الذي لم تصرح به وهو أن ( الإسلام دين تجارة وليس صناعة ) .
(10) قال ابن خلدون : ” إن العرب لم يهتموا بالصناعة والصنائع لأنهم كانوا أصحاب بداوة , فلم يعرفوا الأمصار والمدن , وأعرقت وتوحشت بهم الإبل في الصحراء.” وكل تلك أسباب وجيهة لأولئك الأعراب المساكين ولكن ما بال من عرفوا الأمصار والمدن وعرفوا الاقتصاد والجامعات ورأوا الإبل والخيول فقط في الصور . في الفصل التاسع عشر من ( المقدمة) يطرح ابن خلدون تصورا آخر يرجع الأمر برمته إلى ( الدين في شكله السياسي ) كما ظهر عندنا من جماعات المتأسلمين والطفيليين حينما يورد حديثا لم أتقص والحق يقال عن صحته من وضعه ولكنه يعبر تمام التعبير عن الحالة التي نعيشها والدمار الذي نراه رأي العين لاسيما وأن مطامع الجماعات الدينية لا تفرق بين حديث وآخر طالما أنها تعزز من مواقفها ومصالحها , وذاك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن ( الحرث ) أي الزراعة لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار فقال : ما دخلت هذه ( المحراث ) دار قوم إلا دخلهم الذل . ” لبيك يا رسول الله . لنسأل المزارعين عندنا في ( مشروع الجزيرة ) وغيره لنعرف كم طبق هؤلاء المساكين من جماعات الإسلام السياسي والهوس الديني مخرجات هذا الحديث الشريف .. و ما هي نتائجه ؟ .

خالد بابكر أبوعاقلة
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..