
في هذة السطور، نلقي بعض الضوء علي المنهجية الخاطئة التي اتبعت في التفاوض والتوصل الي اتفاقية سلام جوبا المعتلة.
من المؤسف جداً أن تتم مداولات المجلس السيادي والحركات المسلحة في جوبا، في جو من السرية والتعتيم (المقصود) علي الشعب السوداني، بما فيه اهلنا في مناطق النزوح واللجوء.
هذا النهج، لا ولن يخدم قضية السلام باي حال من الأحوال، لأن من تفاوضوا نيابة عن كل مكونات الشعب السوداني المعنية، ليسوا بمفوضين للتوقيع علي ما تم التوصل اليه من اتفاق قبل اطلاع الجماهير التي ضحت من اجل السلام علي مسودة هذا الاتفاق.
صحيح ان الاتفاق علي السلام يمثل ضرورة ملحة واستحقاق هام من استحقاقات ثورة ديسمبر المجيدة. لكن المنهجية التي اتبعت في جوبا لم تتسم بالشفافية والديمقراطية، ولذلك جاءت الاتفاقية منقوصة، ولن توءدي الي سلام مستدام.
هذا الخطأ، بدأ باستبعاد إقامة مفوضية السلام المتفق عليها في الوثيقة الدستورية، لتمكين، او بالأحري سيطرة الجانب العسكري في المجلس، السيادي علي عجلة قيادة المفاوضات. وبذلك تم فرض روءية هذا الجانب علي سير التفاوض والتوصل الي محاصصة لتقاسم السلطة الانتقالية بما يمكن لشراكة بين الحركات المسلحة التي تفاوضت والجانب العسكري في مجلس السيادة.
بلا شك، هذا تحالف جديد بكل المقاييس، بديلاً عن التحالف مع قوي اعلان الحرية والتغيير “قحت” التي تم تهميشها ايضاً اثناء المفاوضات.
اما اصحاب الشأن، النازحين واللاجئين، ولجان المقاومة (بما فيهم لجان دارفور)، فقد تم استبعادهم تماماً منذ البداية.
الخطأ الثاني الذي صاحب مفاوضات جوبا، أنها استبعدت العديد من الحركات المسلحة في دارفور، الي جانب غياب حركتي عبد الواحد والحلو الأساسيتين. اضافة الي ذلك لم يتم التفاوض مع كل الحركات المعنية بشرق البلاد. وهذا بالتأكيد باب مفتوح ستهب منه ريح لا تحمد عقباها، وقد بدأت بالفعل.
وعوضاً عن شمول المفاوضات، تم اقحام أشخاص، ادعوا (او تمت دعوتهم!) لتمثيل ما سمي بالوسط والشمال حيث لا يوجد نزاع مسلح. هذة بالطبع، لاضفاء شمول وهمي للمفاوضات.
الامر المؤسف ايضاً في اتفاق جوبا، انه ركز علي تقاسم مناصب السلطة الانتقالية ووظائف الخدمة المدنية العليا (بما في ذلك القضاء!!) كأمر عاجل بدلاً عن التركيز علي الاستحقاقات الهامة التي تخص حياة النازحين واللاجئين وإعادة توطينهم واستقرارهم. من بين هذة الاستحقاقات، العاجلة وذات الاولوية:-
– توفير الخدمات الضرورية الملحة للعائدين من النزوح واللجوء، مثل مياه الشرب التي تتطلب وبصورة عاجلة، حفر آبار ارتوازية وخزانات مياه جديدة.
– تقديم خدمات طبية عاجلة عن طريق فرق علاجية متحركة، تشمل أطباء وكوادر طبية مساعدة والادوية اللازمة، بدلاً عن المطالبة بزيادة مقاعد طلاب دارفور في كليات الطب وغيرها.
– انشاء مباني جاهزة بصورة عاجلة، عوضاً عن المدارس التي دمرتها الحرب ومدها بالمعلمين والمعينات الضرورية.
– مد العائدين بالمواد الغذائية الضرورية والعاجلة كالسكر والذرة، بدلاً عن المطالَبة بحفنة دولارات لم يحدد غرضها او أوجه صرفها،
– تحديد فترة زمنية محددة لتقديم مرتكبي جراءم الحرب والابادة الجماعية في دارفور لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لتحقيق العدالة والقصاص لذوي الضحايا، ولوضع حد لهذا النوع من الجرائم في البلاد.
هذا النوع من الاستحقاقات الهامة كان يجب ان يكون من أولويات اتفاقية جوبا بدلاً من المحاصصات ضيقة الأفق، والتي لا تمس احتياجات اهلنا الملحة في مناطق النزاعات، ولا تعالج جذورالمشكلة التي قادت الي الاحتراب وحمل السلاح.
كان من الممكن تضمين كل ذلك في خطة اسعافية محكومة بجداول زمنية، عوضاً عن المصفوفة الزمنية لتقاسم كراسي السلطة الانتقالية والاموال التي تم الاتفاق عليها!
نتمني ان لا يعتمد منهج اتفاقية جوبا في المداولات القادمة مع حركات الكفاح المسلح الاخري. كما نتمني ان تتم تلك المداولات عبر مفوضية السلام المنسية، وان يتم إشراك كل المكونات الشعبية المعنية بالسلام (وفق المائدة المستديرة التي تم اقتراحها من قبل). ذلك امر هام ليس لاستكمال اتفاقية جوبا بل لإزالة ما اعتراها من خلل وتقويمها من اجل سلام عادل يقبل الاستدامة.
بلا شك، ان تقويم مسار عملية السلام، يتطلب إرادة سياسية محكمة من قبل لجان المقاومة (حارسة الثورة)، ومن قبل قحت ومن جانب حركات الكفاح المسلح الرءيسية التي لم توقع علي اتفاقية جوبا. دون ذلك سيكتمل مخطط الشراكة الجديدة ونسف الوثيقة الدستورية برمتها مما يهدد بقية الفترة الانتقالية وعملية التحول الديمقراطي.
في مقال اخر، نتطرق الي إخفاق اتفاقية جوبا من ناحية جوهرها وبعدها عن مخاطبة جذور الاشكالية التي أدت الي اندلاع الاحتراب وحمل السلاح في المناطق المختلفة من البلاد.
اللهم الهم قوي ثورة ديسمبر المجيدة التماسك والثبات من اجل إنجاز السلام والحريّة والعدالة.
د. الحسن النذير