مقالات وآراء

البكاء على اللبن المسكوب

ضياء الدين الشريف

كل ما يحدث الآن من فوضى وضعف للحكومة وقوة للفلول سببها الرئيس هو أنه ومنذ البداية تُركت لهم الساحة الإعلامية كما هي وكأنه لم يحدث تغيير أو ثورة سالت فيها دماء غزيرة وعزيزة وارتكبت في سبيل إخمادها انتهاكات خطيرة واعتداءات جسيمة ومعلوم أن الإعلام هو أقوى وأخطر أداة يمكن أن تهدم بنفس القوة التي تبنى بها لذلك.

وعقب كل الثورات في كل العالم فإن أول قوة تستخدمها الثورة لتدعيم أركانها ولهدم قواعد أعدائها هي قوة الإعلام وما من ثورة تهاونت في هذا الأمر بل أن وزير إعلام الثورة كان ينظر إليه كوزير حرب الثورة وفي الحالة السودانية حدث العكس تماما فإعلام النظام البائد المسيطر تماما ترك كما هو ولم يمس وصحفه التي تشتم الثورة والثوار وتدعو للفتنة ليل نهار ظلت تتمتع بكل المخصصات والامتيازات كما هي وتحتكر الإعلان الحكومي بل أن نقابة الصحفيين التابعة له ظلت قائمة لفترة طويلة ونقيبها يسافر ويمثل سودان الثورة بالخارج في مفارقة تبعث على الحزن والأسى ووزير إعلام الثورة فيصل محمد صالح كان فقط ناطقا رسميا باسم الحكومة وهذا ما أوصلنا إلى هذا الحال المذري وصارت بسببه حكومة حمدوك ملطشة لا تقوى حتى على الدفاع عن نفسها وفجع الثوار فيها وفي رئيسها الذي لم تنجح معه كل المناشدات والتوسلات بالتخلص من الفاشلين أو قل عديمي الخبرة وهؤلاء الذين تقيدهم علاقات وصداقات مع أذناب وأبواق النظام البائد تمنعهم من كنسهم وتنظيف الساحات منهم وحتى حينما أتته الفرصة بالتخلص منهم في التعديل الوزاري حولهم إلى مستشارين فازدادت الحكومة ترهلا وزاد العبء على المواطن والمشكلة ليست هنا فقط المشكلة أن الحاضنة السياسية المسماة بالحرية والتغيير وهي ابعد ما تكون عن أي تغيير أتت بوزراء أضعف من سابقيهم وهذا منذ البداية أعطى الفرصة للعسكريين لملء الفراغ خاصة في السياسة الخارجية فعلام الصراخ والعويل واستعداء الناس على العسكر الذين تغولوا وتمددوا وفعلوا و…………

العسكر ما كان لهم أن يتغولوا ويتمددوا إن لم يروا فراغاً ويستشعروا ضعفاً وهوانا وتخبطا وهذا هو الواقع الذي ترفض قوى الحرية والتغيير الاعتراف به وتدفن حكومة حمدوك رأسها في الرمال خوفاً من مواجهته ولكنه يظل الواقع وتظل الحقيقة التي يعلمها الناس في الداخل ويعلمها المجتمع الدولي الذي فعل الكثير لصالح التحول الديمقراطي في السودان وكان يعول على حمدوك ويضع فيه آمالا عِراضا كونه وجه معروف لديهم ويتمتع بخبرة واسعة في الإدارة والأهم من كل هذا وذاك أنه يحمل شهادات علمية رفيعة في الاقتصاد فاعتُبر بمثابة الجراح الماهر القادر على إجراء عملية الإصلاح في السودان وحظي بإجماع داخلي وقبول ودعم دولي لم يحظى به أي سياسي في كل التاريخ السوداني فماذا كانت النتيجة

حينما شعر الشعب بضعف الرجل وبدأ يتململ وأحس هو بذلك خرج ليقول مبررا الفشل بالقول أن قوى الحرية والتغيير لم تسلمه حتى اليوم أي خطة أو إستراتيجية ليعمل عليها فقالت قوى الحرية والتغيير أنها فعلت وصمت الرجل وبعدها بزمن بدأ الناس يجأرون بالشكوى من عدم تحقق العدالة ومن عدم المساس بالكيزان وتحكمهم في مفاصل الدولة والإعلام والاقتصاد ومن الجوع والمرض والنفايات التي تراكمت في كل مكان حتى داخل المستشفيات ومن ضعف الوزراء والولاة ومن عبارة (الشبكة طاشه) التي صارت حائط السد المنيع لتعطيل مصالح الناس ومن انقطاع الكهرباء والمياه لدرجة فاقت احتمالهم فبدأووا يشككون في جدوى سياسات الرجل خاصة بعد قفزة الظلام التي قام بها وزير المالية السابق الدكتور إبراهيم البدوي حينما قام بزيادة المرتبات إضعافاً مضاعفة من غير تحوطات لآثارها وبلا كتلة نقدية تغطى هذه الزيادة على المدى البعيد فارتفعت الأسعار بنسب تفوق قدرة المواطنين فخرج السيد رئيس الوزراء هذه المرة ملقياً باللوم على الجيش الذي يستحوذ على ما قيمته87% إن لم تخني الذاكرة خارج ولاية وزارة المالية وان الدولة لا تسيطر إلا على 12%. فقط من الاقتصاد.

فخرج رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان متهما الرجل بأنه يعلق فشله على المؤسسة العسكرية فصمت رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك ولم ينبس ببنت شفة.

والآن ومع تطورات المحاولة الانقلابية الأخيرة سقطت آخر أوراق التوت التي كانت تغطى على تأزم العلاقة بين مكوني الحكومة من العسكر والمدنيين فرئيس الحكومة ومعه الحرية والتغيير قالوا أن فلول النظام البائد وراء المحاولة الانقلابية بينما قال رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان أن التحقيق لم يثبت بعد تورط أي جهة.

وفي خطابه الأخير بالمرخيات قال البرهان كلاماً فيه كثير من الحقائق كقوله أن القوى السياسية مجتمعة فشلت في حمل هم الناس وركزت كل همها وجهدها على الصراع حول الكراسي تاركة المواطن آخر همها وهذه حقيقة لا يستطيع احد انكارها.

فالأحزاب الطائفية هي أُس المشكلة ورغم أنها لم تشارك في الثورة فقد قامت قوى الحرية والتغيير بالتحالف معها وبالتالي انتقلت إليها العدوى .

وفي خطاب البرهان أيضا الكثير من التناقضات كقوله أن الجيش هو الضامن الوحيد وأنهم حماة البلد وحراس أمنها وسلامتها وفي يدهم كل شيء بينما الانفلات الأمني لا يخفى على احد وعصابات النهب المسلح وتسعة طويلة تجوب العاصمة والأقاليم وفي رابعة النهار تنشر الرعب والخوف.

والسؤال المشروع هو لماذا يتحرك الجيش بسرعة فائقة لإخماد وإحباط الانقلابات وبدون خسائر ولا يفعل ذلك في مواجهة العصابات إذا صدقنا أن أجهزة الأمن والشرطة غير قادرة على ذلك.

والشيء الآخر المحير حقا هو ما يحدث من انقلابات والجميع يعلم أن السبب في حدوثها المتكرر هو حالة التراخي وعدم حسم أمرها فلم نسمع بأي حكم صدر في محاولات انقلابية على كثرتها وهذا دليل على أن الجيش يحتاج إلى عملية إصلاح وهيكلة شاملة .

وقد نقلت الأخبار أن قائد المحاولة الانقلابية الأخيرة كان مشاركا في محاولة سابقة عام 2019 وإن صح هذا الخبر فكيف خرج وعلى أي أساس أُعيد للخدمة وكثير من الأسئلة الحائرة التي يجب على رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش الإجابة عليها ومصارحة الشعب بكل أوجه القصور والحلول المطروحة.

يبقى الاعتراف بأن هذه الشراكة على علاتها يجب أن تمضى لأن انهيارها باهظ الثمن ولكنها لن تمضى بهذه الحكومة المترهلة وهؤلاء الوزراء الهواة الذين جعلونا مضحكة ومسخرة.

وعلى حمدوك أولا أن يتخلص من هذه الروح المجاملة وأسلوب الترضيات ويقوم بإعفاء من حوله من مساعدين ومستشارين ومدراء لا لزوم لهم في مشهد معقد ووضع لا يحتمل زيادة عدد وتمامة جرتق خاصة وان هناك مؤشرات لا بأس بها تبشر باستقرار اقتصادي وعلى قوى الحرية والتغيير وحركات الكفاح المسلح التخلي عن الصراعات وأسلوب المحاصصات والترضيات والقيام فوراً ومجتمعين بتغيير هؤلاء الوزراء والولاة بآخرين لا ينتمون لأي حزب أو حركة أو أي جهة ويكون المعيار الوحيد للتعيين هو الكفاءة ولا شيء غير الكفاءة.

ولو حدث ذلك قد تمضى الفترة الانتقالية إلى غاياتها وقد نصل إلى صندوق انتخابات تحرسه إرادة الشعب رغم اعتقادي الراسخ بعدم جدوى أي انتخابات حرة ونزيهة واكرر عدم جدوى انتخابات حتى لو كانت حرة ونزيهة فالسودان يحتاج إلى زمن طويل وأجيال عديدة حتى يتهيأ لتقبل الديمقراطية وكل ما يحدث الآن من هرج ومرج هو زوبعة في فنجان أو دفن للرؤوس في الرمال.

فالجميع يعلم علم اليقين أنه لو جرت انتخابات قادمة حرة ونزيهة فستؤدى إلى ديمقراطية مريضة ومشوهة كونها ستأتي بإقطاعيين يمتلكون قاعدة انتخابية ضخمة من الأتباع الأُميين والمنقادين باسم الدين وأيضا نخب انتهازية تطمح في المنصب على حساب تجهيل وتغبيش وعي الشعب وهذه النخب ومنذ الاستقلال لا يهمها إلا المال والمناصب وفي سبيلهما فهي على استعداد لمساعدة الشيطان نفسه للجلوس على كرسي الحكم.

لذلك لا أمل في انتخابات ولا أمل في أي تغيير، الأمل الوحيد في جيل واعٍ ومتعلم وخالي من رواسب الحقد والكره والعنصرية والأنا الخاوية، جيل يتعامل ويتزاوج ويتناسل ككتلة واحدة لا تمييز فيها بين الجعلي والزغاوي ولا بين أولاد البحر وأولاد الغرب.

ولو قدر لهذا الجيل الظهور فسيكون ذلك بعد سبعين إلى مائة عام على أقل تقدير وحتى ذلك الحين فسنظل ندور في نفس الدائرة التي ظللنا ندور فيها منذ الاستقلال وحتى اليوم ما بين ديمقراطية مريضة وشمولية عسكرية وأنا على يقين تام بأن الجميع حزبيين كانوا أو مستقلين على قناعة تامة بأن الأحزاب بالذات الطائفية منها وان النخب التي تناصرها وتساندها هي أُس البلاء وسبب جر السودان إلى العصور الوسطى وإن لم يتخلص السودان من عقدة السيد والتابع والجعلي والفلاتي فلن تقوم له قائمة وستظل أي محاولة للإصلاح هباءاً تذروه الرياح.

البعض يعلم ويحاول والبعض يعلم ويكابر والأغلبية العظمى تنام على حصائر الجهل وتتنفس اللا مبالاة وهي للأسف الكتلة الانتخابية القادرة على تشكيل المشهد السياسي وهي نفسها أول ضحاياه فلا تعليم ولا نهضة ولا صحة وأصحاب المصلحة يهمهم بقاء الوضع على ما هو عليه.

أخيراً هل أنا ضد التحول الديمقراطي وإجراء انتخابات والإجابة هي لا قطعا فأنا لست ضد التحول الديمقراطي ولكنني ضد إجراء انتخابات لشعب تبلغ نسبة الأمية فيه أكثر من 31% للرجال و50% للنساء حسب تقديرات الأمم المتحدة وكل الكلام الذي يقال عن الوعي الذي فجرته ثورة ديسمبر المجيدة سيتبخر حين تحين الحقيقة وتُفتح الصناديق وتُفرز الأصوات ويكتشف الناس أن القواعد التي حسمت الأمر لم تشارك يوماً في الثورة وستندمون حين لا ينفع ندم
ما الحل إذا؟
الإجابة في مقال قادم بإذن الله تعالى.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..