مقالات وآراء

المدنيون الذين خذلوا المدنية

نبيل منصور

 

مرّ عامان وما تزال الحرب في السودان تنهش الجغرافيا والتاريخ والوجدان.

عامان من الحريق الذي لا ينطفئ، من الجثث التي تُركت تحت الأنقاض، من المدن التي صارت أطلالًا، ومن النزوح الذي لم يرحم شيخًا ولا طفلاً.

عامان وسؤال الحياة نفسه بات مُعلّقًا في هواء الوطن المُحمّل برائحة الموت.

 

ورغم أن أغلب القوى السياسية والمدنية ما فتئت ترفع شعارات السلام وتلعن الحرب، إلا أن كلماتها تُولد ميتة، لا تسند فعلًا، ولا تؤسّس لجبهة.

جبهة كان يفترض أن تكون حصنًا أخيرًا للمدنيين، وعصا ميزان تُوقف حمّى الجنون المسلح، لكنها لم تُبنَ، ولم تُرفع، ولم تتوحّد.

 

فهل بات تشتّت هذه القوى، وترددها، وصمتها المطبق، مشاركة – وإن صامتة – في الجريمة؟

هل أصبحت المدنية التي حلم بها الشهداء، وتغنّى بها الثوار، مشروعًا ميتًا قُبِرَ تحت ركام الخرطوم والجزيرة والفاشر وكادقلي؟

 

من يرقب المشهد، يرى الأسباب تنزف أمامه بوضوح جارح:

 

1. ندوب الثقة:

جراح ما بعد الثورة لم تُضمد، بل تفاقمت مع الحرب. لغة التخوين والاتهام لا تزال تُدير ظهرها لأي توافق، كأنها لا تعرف أن الوطن يحتضر.

 

2. الأجندات التي تشتري المواقف:

حين تكون بعض القيادات أكثر انشغالًا برضا العواصم الخارجية من وجع الداخل، فكيف تُبنى جبهة حرة؟ من يُنقذ البلاد من النزيف إن كانت الولاءات مبعثرة خلف البحار؟

 

3. الزعامات التي تتصارع على رماد الوطن:

البعض ينظر إلى “ما بعد الحرب”، كأن الموت لا يعنيه، وكأن الخراب فرصة لكتابة عقد جديد للسلطة لا للحياة.

 

4. المبادرات التي بلا قلب ولا روح:

تُولد المبادرات كل يوم، بلا تنسيق، بلا وحدة، بلا رؤية، كأشجار جافة لا ظل لها ولا ثمر. فتُربك الناس بدل أن تهديهم.

 

5. الخوف المقيم:

بعض القوى تخاف أن تُغضب هذا أو ذاك. تخاف على صوتها أكثر من خوفها على شعبها. فتسكن المنطقة الرمادية، حيث لا موقف ولا أثر.

 

6. الغربة بين القادة والناس:

النخب تتكلم لغة لا يسمعها الشارع، ولا تقرأ وجعه، فتبدو كما لو أنها تحلّق بعيدًا عن جراح الأمهات، وعن وجع الجياع، وعن أنين المغتصبات والمهجّرين.

 

وبهذا تتهاوى آخر خطوط الدفاع الأخلاقية.

إذا لم تدرك القوى المدنية أن توحدها اليوم ليس خيارًا سياسيًا بل شرطًا لوجود الوطن، فإنها تُسهم – ربما دون أن تدري – في إطالة الكابوس.

 

وفي ضوء هذا المشهد، يبرز سؤال موجع، لا بد من مواجهته بضمير حي:

هل باتت القوى السياسية شريكة في الجريمة؟

نعم. لا بالمعنى القانوني، بل بمعناه الإنساني والتاريخي.

 

كيف؟

 

بالصمت الذي يقتل:

حين لا تُسمّى الجرائم بأسمائها، يصبح القاتل طليقًا والمجني عليه منسيًا.

 

بتشتيت وعي الناس:

الخلافات الصغيرة تصرف الأنظار عن المأساة الكبرى، وتضعف الإرادة الجمعية، وتمنح القتلة وقتًا إضافيًا ليحفروا عميقًا في الجرح.

 

بالعجز عن تقديم بديل:

الحرب هي فراغٌ يُملأ إما بالرصاص، أو برؤية موحّدة تُخرج البلاد من الجحيم. وفي غياب هذه الرؤية، يتوحّد القاتلون ويتنازع المدنيون.

 

بالمجاملات الإقليمية الصامتة:

حين يُصمت عن جرائم الدعم السريع إرضاءً لمحور ما، أو تُبرر أفعال الجيش لتقاطع مصالح مع حلفاء، يكون الثمن هو الدم السوداني.

 

 

الخلاصة:

من يملك القدرة على الوقوف في وجه الحرب ولا يفعل، لا يمكن اعتباره بريئًا.

من يصمت في لحظة الحقيقة، يُسهِم في قتلها.

ومن يتردد في توحيد الصف، يُفسح الطريق للطغاة ليُكملوا ذبح الوطن.

 

لسنا بحاجة إلى مزيد من الشعارات.

نحن بحاجة إلى وقفة ضمير.

إلى وحدة لا تُؤجل.

إلى صرخة تقول: كفى!

فالسودان لا يحتمل عامًا ثالثًا من الدم،

ولا تحتمل ذاكرته مزيدًا من الخذلان.

 

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. ماذا ينتظرون ؟؟ منذ ان انطلقت رصاصة أخوان الشيطان الأولى ودارت رحى هذه الحرب العبثية المدمرة ظل هذا السؤال دون إجابة .. الأمر تجاوز حد التخاذل والإنتظار وينذر بعواقب وخيمة على الوطن وإنسانه .. ألهذا الحد فقدت الأصوات المنادية بمدنية الدولة وزنها وتأثيرها حتى باتت لا تملك غير المبادرات والتصريحات .. اين تلك المسيرات الهادرة التى طافت مدن اوروبا وامريكا منادية بمدنية الدولة .. اين تلك المسيرات والمظاهرات المليونية التى طافت عموم مدن بلادى مقدمة الشهيد تلو الشهيد حتى خلعت واسقطت نظام اخوان الشيطان ورمت به فى مزبلة التاريخ مبشرة ببزوغ فجر المدنية ودولة المؤسسات والقانون .. اين تلك الكيانات والأحزاب التى كانت تتغنى بالمدنية .. اين تجمع المهنيين الذى قاد ثورة ديسمبر المجيدة .. أين هؤلاء ؟؟ هل ينتظرون حدوث المشهد الأخير لتفتيت الوطن الذى ينتظره البلابسة والأبالسة المتواطئين مع أخوان الشيطان بفارغ الصبر .. هذا الموقف العاجز وتخازل كل هؤلاء سيسجله التاريخ بحروف من دم وخجل .. ألا تدرك هذه الأحزاب المتناحرة والمنقسمة على بعضها إذا حقق اخوان الشيطان هدفهم من هذه الحرب المدمرة وتفتت البلد سوف لن تبقى هناك مراكز يتسابقون اليها وكراسى يتنافسون عليها .. لا حل ولا امل سوى ان تتوحد كل الكيانات والأحزاب تحت راية المدنية يضمها كيان واحد غايته الأولى وقف هذه الحرب وهزيمه مشروعها الساعى لتقسيم البلاد ومحاسبة مشعليها ووضع البلاد فى الطريق الصحيح نحو المدنية والتداول السلمى للسلطة !!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..