أخبار السودان

كرسي يتناثر

كرسي يتناثر

د. بشرى الفاضل

اعتقلوا قاسم فجراً بضجيج وحقد، هدموا نظام البيت وأيقظوا والدته
وأباه وصغيرهما معتز الذي ما كان يدرك أنه سيهتف بعد سنوات طويلة
عندما تجئ الهبة ) يحيا الشعب(.
أقتيد قاسم بعد أن تم زجر والدته الباسلة ولجم والده الغاضب وبعد
تسليم معتز للتوتر كانت كتب تحت أقدام الهمج، وكانت تحت مرمى
طلقاتهم مهج. وصاحوا في قاسم وهم يخرجون به أين المنشورات؟
كان قاسم يوجه رجاءاته الصامتة لأمه وأبيه بعدم استفزاز هذه الكلاب
وتصطك أسنانه شتان ما بين أن تنصاع لقرار وبين ما تربيت عليه، أحياناً يكاد
أن تنتصر التربية فترتفع اليد وتوشك أن ترسل صفعة فيلجمها القرار.
وهذه الحكاية ليست عن قاسم.
خرج عبدالجبار ضحى وهدف إلى بيت النائب الهمام زميل الدراسة
ودعاه لبيته مساء على العشاء، ثم رجع للبيت يزيل عنه آثار الهمج وتعاون
ومعتز في إرجاع الحكمة إلى الرفوف والموسيقى إلى الدفوف والزرع المداس
عليه إلى الزهريات والجروف. ودلفت عليهما أم قاسم باكية بغداء بائت
فطمأنها عبدالجبار:
– سجن الطلبة مدرسة، وولدك ما حرامي.
53 52
ثم أخبرها بأنه سيعالج الأمر )من فوق(.. وأنه )ليس شخصاً سهلاً( حتى
يعتقل بعض )الصغار( ابنه. وهذه الحكاية ليست عن عبدالجبار. انشغلت
الأم بالمسح والبحث والتجهيز حتى مغيب الشمس ثم نفضت الغبار عن
المائدة والكراسي العتيقة وعبقت الهواء بالعطر ومررت تيار الهواء على
مستعمراتها التي احتلتها اليوم جيوش النظافة المتفوقة.
وهذه القصة ليست عن آمنة.
فتح النائب الباب. دخل كأنه فرعون. كأن بيمناه عصا موسى. كأنه سيفلق
البحر. تراه فتقول: هذا نائب لا رئيس له. رجل موهوم بالأهمية. يمشي مهماً
ويتنفس في مساحة زمن أكبر مما هو مخصص له فعلاً للتنفس. يتنحنح مهماً
ويمارس شعائر الأنف والأذن والحنجرة بعادية كأن الأمر موسيقى.
نظر النائب الضخم إلى الحيطان الصقيلة ثم أرتد بصره تجاه الأسرّة
اللامعة ثم تداخل إبصاره فلمعت أطراف عينيه كناية عن الرضا وأظلمت.
وبهتت الأجزاء الداخلية من عينيه لأسباب مجهولة وكان يزم أنفه كمن يأكل
ليمونة.
وخطا النائب المضروس خطوة ثم أردفها بطبيقتها وهوى على الكرسي
الرئيسي في البهو فداش رأس الكرسي وتململ وأرسلت أرجله الخشبية شكواها
لطوب الأرض وتساءل النائب:
– قاسم مالو ؟
فلم يستطيع الكرسي الانتظار أكثر من هذا. أصدر ططق الأولى ثم طق
طق .. ثم طار بصاحبه وهوى على الأرض كجحش لم يدربوه بتطويعه على
أن يستغلونه.
وتحطمت أجزاء الكرسي تحت النائب، الذي تشتت بدوره ما بين أطراف
وأسنان ساخطة وعينين مبحلقتين. وكان عبدالجبار ينظر إليه بحيرة منع من
ظهورها الثقل.
وهذه ليست حكاية عن النائب أو الطفل أو الجحش.
ضحك معتز الصغير عالياً؛ وذلك هو الموقف الوحيد ضد الزيارة التي
هيأت لها الأسرة بتؤدة وصمت.. والقمه عبدالجبار زجراً ما سمعه طوال
عمره الغض، فسكت الصغير بارتجافة مخلوع ، وكظم حنقه وخرج للشارع
بالونة من الغضب، ما لبثت أن انفجرت. وليست هذه القصة عن البالونات.
أنها حكاية عن الكرسي.
كان ذلك الكرسي الذي تناثر في ذلك اليوم مناهضاً للاستعمار. جده الأول
كان ككراً يزين ردهات القصر الملكي بسنار . يجلس عليه كل بادي وطني وكل
معلم للشعب. جدته لأمه بنبر قيل أن صاحبته مهيرة بت عبود. والبعض قال
لا، بل شغبة بت محمود؛ وآخرون قالوا بل شريفة بت بلال ولكن العارفين
بالتاريخ ذكروا كنداكة. وعندما اندغم مجد الككر بعرس البنبر خرج إلى الدنيا
هذا الكرسي وقال القوم هذا من آيات الدنيا السبع وسموه آية الكرسي.
جاء هذا الكرسي عن طريق الجلابة لأم درمان وأهدوه للخليفة فاسبغ
عليه نعمة الطلاء ومن ثم دخنوه بالطلح ودهنوه بالودك فأبعدوا عنه
جيوش السوس ثم أهداه الخليفة من بعد ل)عبدالقادر(سلاطين باشا وعندما
سل سلاطين سيف نفاقه وهرب ترك الكرسي لأحد أفراد قبيلة العبابدة وذلك
في الدروب المشتبهات بين حدود وحدود.
وليست هذه القصة عن الخليفة أو سلاطين أو القبائل.
واستمر تداول الكرسي من بطن إلى بطن إلى أن عاد لأم درمان سالماً
وانتقل إلى آل حيازة التي خرج من نسلها عبدالجبار فنبذ الحيازات كلها إلا
حيازة هذا الكرسي العجيب.
55
ثم كان ذلك اليوم الذي تناثر فيه الكرسي منتحراً على طريقة العهن
المنفوش وهي حالة ناتجة من الفارق الحراري ما بين الاعتداد للدرجة مائة
بالتاريخ الشخصي والشعور بالمذلة حتى الصفر من الكتل الجالسة ممن
يضخمون ذواتهم نصاً وروحاً.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..