مقالات وآراء

مشاهد سودانية جداً

مشهد (1)
• بقميص و بنطال قديمين و لكن نظيفين ، و بقدمين حافيتين ، يسير قُدُماً ، على أحد طرقات الخرطوم الرئيسة ، رجل في منتصف العمر ، لن تحتاج إلى كبير جهد حتى تكتشف أنه مجنون ، كان الوقت فجراً ، و كان يحدث نفسه بصوت عالٍ أحياناً ، ثم ينفجر في قهقهة تردد صداها البنايات العالية المحيطة بالشارع ، و قبل أن تتلاشى الضحكة تتحول دراماتيكياً إلى نحيب تتقطع معه أنفاسه ، ثم ينقلب نحيبُهُ فجأة إلى غناءٍ شجي ، للرجُل صوتٍ أبعد ما يكون عن الجنون عندما يغني ، ثم يُفاجأ من يسمعُه بتوقف الغناء و انطلاق سلسلة من الشتائم البذيئة ، موجهة إلى شخص ، أو أشخاص مجهولين يراهم الرجل و يشير إليهم بسبابته ..على هذه الحال كان الرجل يمضي على طول الطريق العاصمي ..
مشهد (2)
• على امتداد الشارع ذاته ، في اتجاه سير المجنون و على بُعد عدة مئات من الأمتار عنه ، انتصب بناءٌ فخيم ، على واجهته لوحةٌ كبيرة و طويلة ، مكتوبٌ عليها اسمٌ لا يقل عنها طولاً : (دار الحزب الأممي الشعبي الوطني القومي الديمقراطي الفيدرالي العادل).. و قبل أن تُبارح عيناك اللوحة تتوقف سيارة غاية في الفخامة و الأناقة أمام الباب ، و ينطلق منبهها في صفير متواصل .. من الداخل و عبر شِباك البوابة الضخمة ترى الخفير يأتي جارياً ، داعكاً عينيه في عجل و بعض خوف ، يفتح البوابة ، فتدخل السيارة سريعاً .. الخفير ينظر وراءها حيناً ، ثم يتسائل في حيرة :
– الجابو شنو الليلة بدري كدي ؟؟..
ثم يدع الباب مفتوحاً و يعود إلى كوخه في أقصى فناء المبنى ، ليواصل نومه ..
مشهد (3)
• السيد (ن.ع.ن) يترجل داخل المبنى عن سيارته ، يدخل إلى دهليز يقود إلى مكتب فخم ، ينظر إلى مكتب السكرتيرة الخالي ، ثم يدلف إلى الداخل .. ليجلس وراء مكتب باذخ ، عليه لوحة مكتوب عليها (الأستاذ ن.ع.ن. الأمين العام).. الأستاذ ن.ع.ن. معروف بلسانه النابي في شتم خصوم حزبه ، و توجيه الإساءات الشخصية إليهم كلما تيسر ..
مشهد (4)
• عند العودة إلى الشارع ، يكون المجنون الذي يغني و يبكي و يضحك و يشتم قد قطع نصف المسافة ناحية مبنى الحزب .. و أمام الباب تتوقف – في ذات اللحظة – سيارة ، يترجل عنها ثلاثة أشخاص ، يدخلون هرولة إلى دار الحزب عبر البوابة المفتوحة ، يحمل أحدهم جوالاً فارغاً كبيراً ، و آخر يحمل لفافة حبال بلاستيكية متينة .. برهة و يخرج الثلاثة و هم يحملون جوالاً منتفخاً ، ملفوفة حوله الحبال بإحكام ، يحملونه ببعض العناء ، إذ كان الجوال ينتفض في أيديهم ، و يخرج منه صوت متحشرج ..
مشهد (5)
• في الشارع ، و حالما يخرج الثلاثة بصيدهم ، ويضعونه في صندوق سيارتهم الخلفي ثم يغلقونه بإحكام و ينطلقون ، يكون المجنون قد أصبح بإزاء بوابة دار الحزب ، و يلاحظ المجنون ، دون اهتمام ، أن الثلاثة غير ملثمين ، و أن السيارة لم تكن بلا لوحات .. ينظر إليهم بلا مبالاة ، ثم ينتبه فجأة إلى اللوحة أعلى البوابة ، فيقف ليتهجاها : (دار الحزب الأممي الشعبي الوطني القومي الديمقراطي الفيدرالي العادل) .. يقف ذاهلاُ قليلا ، ثم يخطر له فجأة أن يدخل عبر البوابة المفتوحة ..
مشهد (6)
• يسير المجنون إلى داخل مبنى الحزب ، يمضي إلى مكتب السكرتيرة فيجدهُ خالياً ، يتوغل إلى داخل المكتب الكبير علهُ يجد أحداً ، يجد المكتب خالياً ، و عليه لوحة أنيقة مكتوب عليها (الأستاذ ن.ع.ن. الأمين العام) ، و على ظهر الكرسي وراء المكتب معطف أنيق .. يدور المجنون حول المكتب ، يجلس على الكرسي ، تتحسس قدماه الحافيتان حذاءً أنيقاً تحت المكتب فيدخل فيه قدميه على الفور ، ثم يقف ، ينظر وراءه ، يحمل المعطف من على ظهر الكرسي ، و يرتديه ، ثم يعاود الجلوس وراء المكتب و قد خامره إحساس قوي بأنه لم يعد مجنوناً ..
• يدور ببصره في أنحاء المكتب الفاره ، و جدرانه المليئة باللوحات الثمينة ، تستوقف بصره لوحة كبيرة تحوي صورة شخص .. لا .. ليس شخصاً ، إنه هو شخصياً ، إنه ذات الشخص الذي يراه حين ينظر في المرآة ، مكتوب تحت اللوحة (الأستاذ ن.ع.ن ، الأمين العام الرابع عشر للحزب)

مشهد (7)
• سمع المجنون ، و هو ما يزال يتأمل صورة (السيد ن.ع.ن) الكبيرة المعلقة على جدار المكتب ، مندهشاً ، سمع طرقات على الباب ، فصاح : تفضل..
• تقدم ، بحذر ، شاب قدم نفسه على أنه فلان الفلاني ، المخرج بقناة (..) و قد جاء مصطحباً طاقم التصوير لإجراء حوار مع سيادته ، يتم بثه بثاً مباشراً، حسب اتفاق سابق مع سيادته بواسطة مدير القناة .. ظل المجنون ينظر إليه ساهماً ، الأمر الذي اعتبره موافقة من سيادته ، فنادى طاقم التصوير ، و سرعان ما انتصبت الكاميرات و كشافات الإضاءة ، و تم تثبيت لاقط الصوت اللاسلكي على ياقة المعطف ، و بدأت الأسئلة ..
مشهد (8)
• رئيس الحزب كان جالساً في منزله ، يتابع مجريات الحوار مع أمين عام الحزب ، مندهشاً .. كان يعلم أن حواراً تلفزيونياً قد تم الترتيب لإجرائه مع الأمين العام ، و كان يعلم أن الأمين العام رجل لا يبالي كثيراً حين يتحدث ، و لا يوفر أحداً ، و لا يتردد في قول ما يخطر على باله ، و هذه الصفات بالذات كانت تعجب رئيس الحزب ، و لكنه لم يكن ، مع ذلك ، يتوقع هذا الذي سمعه في الحوار المبثوث على الهواء مباشرة ، حتى لقد خيل إليه أن الذي أمامه على الشاشة ليس الأمين العام ، (ربما كان فقط رجلاً يشبهه) ، قال محدثاً نفسه .. ثم أسرع إلى الهاتف ، يطلب أمين عام الحزب ، مع توجسه من أنه في مثل هذه الأحوال غالباً ما يطلب المخرج من ضيف برنامجه أن يغلق هاتفه الجوال .. و لكن ، لدهشة رئيس الحزب ، سمع رنين الهاتف ، الذي أربك مقدم البرنامج ، فقد كان هاتف الأمين العام المخطوف موضوعاً على منضدة المكتب ، و لم ينتبه إليه المجنون إلا ساعة الحوار ، عندما رن جرسه ، فاختطفه فوراً و راح يرد ، أثناء التصوير :
• ألو .. إنت منو ؟ صاد؟ صاد منو .. رئيس الحزب؟ ياتو حزب ده ؟.. و استمر بينهما “حوار طرشان” ، اضطر معه رئيس الحزب إلى إغلاق الهاتف ، بينما عانى مخرج البرنامج حرجاً عظيماً … أما رئيس الحزب فقد قرر الانطلاق فوراً إلى دار الحزب لإيقاف هذا العبث فوراً .
مشهد (9)
• زعيم الحزب المناوئ ، و الذي كانت شتائم أمين عام الحزب الأممي قد أخرجته عن أطواره فاستأجر من يقومون باختطافه و إسكاته إلى الأبد ، كان بدوره يتابع الحوار المباشر على التلفزيون ، مأخوذاً ، خصوصاً و أنه قد مرت عشر دقائق فقط منذ أن أخبره زعيم العصابة المستأجرة بأن (الطير في القفص) ما يعني أنهم اختطفوا الرجل ، فكيف يكون الآن في حوار مباشر مع قناة تلفزيونية ؟؟ اتصل عاجلاً بزعيم العصابة الذي كان بدوره مذهولاً و هو يحلف بالطلاق أن الرجل الذي يتحدث الآن في التلفزيون مُلقى أمامه الآن داخل كيس من الخيش ، و يصرخ ، و(هاك .. اسمع صراخه) و قرب سماعة الهاتف من الكيس ..
• هل تتوقع مني تفاصيل أكثر أيها القارئ؟ ماذا قال المجنون؟ و ماذا فعل رئيس الحزب ؟ و كيف تصرفت العصابة ؟ و ماذا فعل (الشعب)؟؟..
• لن أقول لك إلا شيئاً واحداً ، أن هذا الذي نحكيه حدث باكراً جداً ، بعد خروج المستعمر مباشرة ، و شمل جميع ساحتنا السياسية التي تكونت آنذاك ، ثم ظل يتكرر ، و أن نتيجة ما حدث هو ما تراه بعينيك اليوم .. و أن تداعيات ذلك الصباح الذي وجد فيه مجنون ، بالصدفة البحتة ، مكتباً حزبياً رفيعاً خالياً في انتظاره فجلس ، ظلت تتفاقم ، و أن الشعب السوداني يحسد الأخ (بلة) الذي انتهت أزمته مع طبيب مزيف و مجنون بسلام ، لأن أزمة الشعب السوداني مع ساسة مزيفين و مجانين لن تنتهي ، لا بسلام و لا بغير سلام.

علي يس
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..