
مثلما قد يفر المرء فراره قديما من الطاعون، ظللت أتهرب من رؤية صديقي ياسر كوكو، إلى أن رحل من وينبيك نهائيا.
لم يبدُ موقفي ذاك منه في عرف المنفيين الآخرين أمرا قابلا للمساءلة، وقد شرعوا هم أنفسهم مع تكاثر أعدادهم في المدينة في تسوير ذواتهم وتحصينها لسبب أو آخر في شكل جُزر لا جسر يصل بينها سوى مياه العزلة وأسماك الريبة أحيانا.
كان قد ذهب للعمل في مصنع للحوم في مدينة بروكس التابعة لمحافظة البرتا في غربي كندا. وكان شاع وسط المنفيين في وينبيك أنه ظلّ يشكو على فترات من شعور بالتعب وتوعك لا يعرف مصدره وخمول غامض وآلام في الحلق وصداع مجهول السبب. إلا أن تلك الأعراض ما لبثت مجتمعة تقريبا أن توقفت. وأخذ ياسر كوكو يواصل بعدها حياته العادية. قال لي عمر فور أن علم في تلك الأيام بموته إن ياسر كوكو التقاه في حديقة سنترال بارك قبل يوم واحد فقط من رحيله إلى بروكس. وطلب منه أن ينقل إليَّ تحاياه الوداعية. “قل لحامد عثمان: مع السلامة”. أحزنني ذلك حد البكاء. حزن قمتُ بمداواته بعدها بحزني على أماندا. كان الحنين أمام وضعية العمل البائسة في بروكس، يعصف ببعض المنفيين هناك ممن أقام في وينبيك نحو وينبيك، لكأنّهم كانوا بحاجة دائمة إلى وجود وطن ضائع آخر على سكة الفقد يبثون إليه لواعج أشواقهم التي لا تنتهي، باعثين لعنايته بقطارات شغفهم الضائعة بين مختلف محطات العالم، فيما أخذ يتلاشى لديهم مع مرور السنوات وشيئا بعد شيء الكثير مما يعتمل في ذاكرتهم القصيّة عن الحياة في وطنهم الأمّ.
كانوا يرسلون من حين لآخر بتقارير إلى وينبيك عن أحوالهم وأوضاعهم الجديدة هناك. يشكون فيها من عدم وجود اتحاد يمثلهم أمام أرباب العمل. يصفون بحرقة جشع أصحاب تلك العقارات السكنيّة في تلك المدينة المنسية في صغرها متبرمين من غلاء المعيشة. وقد أخذوا يواصلون سخطهم على ما أسموه بشيء من الحذلقة “جيوب العنصرية في ثوب المحافظة التقدميّ القشيب”. كانوا يعرضون في مرات متباعدة ونادرة إلى تفاصيل هلوسات ليليّة. قالوا ما أُعطي لهم جراء العمل داخل ذلك المصنع باليمين يُؤخذ منهم في الخارج “يا للحسرة” بالشمال. مع ذلك، كانوا يتكلمون بكثير من الأريحية عن ياسر كوكو الذي اختار أن يعمل “كما لو أن الديون تطارده” في خطّ إنتاج أجمع الناس على أنه شاق ومهلك تماما. قالوا كان ياسر كوكو يقف بثبات وعينين محدقتين صوب أبقار عملاقة من فصيلة البفلو مسلوخة الجلد، ظلت تندفع نحوه متعاقبة بلا توقف، وهو قبالتها ما ينفك يدير منشارا كهربائيا، يشطر به تلك الأبقار المندفعة الواحدة تلو الأخرى لمدى اثنتي عشرة ساعة يوميا، أو يزيد أحيانا، قبل أن يدعها تمضي في طريقها، إلى وحدات تقطيع نوعيّة أخرى.
مع مرور الوقت، أخذت يدا ياسر تتحركان في الهواء بآلية، حتى أثناء أوقات الراحة وداخل البيت والمشي في الشوارع، وكأن أبقارا لا مرئية تمر من أمامه بهيئتها المسلوخة في الطريق صوب وحدات تقطيع صغرى لا يني يصنعها الفراغ من ورائه. وقد أوضحوا في شكل ملاحظة عابرة أن شغف ياسر كوكو القديم بالنساء لم يعد على ما كان عليه الأمر في السابق. قالوا إن ياسر كوكو كان في الآونة الأخيرة نادرا ما يبتسم. أما الآخران اللذان يشاركانه إحدى الحجرات الثلاث لتلك الشقة فأخذا يشكوان في الأيام الأخيرة من ندرة النوم أثناء توجعات ياسر كوكو الليلية المبهمة، حتى ذلك الحين.
كانت الأيام تمضي في بروكس بأولئك المنفيين ماسحة ذكرياتهم عن وينبيك شيئا فشيئا وبانية بنفس الوتيرة ذكريات أخرى عن بروكس المدينة الجديدة نفسها استعدادا لرحيل قادم آخر صوب مدن غريبة أخرى على طريق تنقلاتهم الأكثر حزنا من نوعه. ربما، لهذا، أخذوا بعد مرور نحو العام تقريبا يقتصرون في رسائلهم إلى وينبيك فقط على ذكر تلك الأشياء المهمة دون غيرها مثل إصابات عمل مزمنة طبعت بصماتها على أجساد بعضهم مدى الحياة. أما جدار الروح، فقد كانوا يرأبون صدوعه بالصلاة تارة، بالخمر تارة أخرى، بالنوم تارة ثالثة، وبالأمل في أحيان جدُّ قليلة ونادرة. “فجأة”، كما يقول الكُتّاب في قصصهم، أخذت الأنباء تتوالى تباعا عبر تقارير أولئك المنفيين في مدينة بروكس عن مدى ذلك الانهيار المتسارع تماما في صحة ياسر كوكو “المسكين”. قال أكثرهم وقتها قدرة على استشعار الكوارث عن بعد “ينبغي أن نفكر من الآن فصاعدا في تكاليف نقل الجنازة إلى السودان”. لكنّ أغلبهم هناك بدا غير راغب تماما في التفكير بالموت كحدث يمكن أن يطال أحدهم “حاليّا” في ظل التقدم المذهل لعلوم الطبّ في كندا. كانوا يرددون بثقة قائلين “هؤلاء الخواجات عفاريت، يا سادة. لم يغلبهم شيء في هذه الدنيا”. الأمر الوحيد الذي فات على “هؤلاء الخواجات” من شؤون هذا العالم كما يقولون مسترشدين هنا بملاحظة الأستاذ السابق عمر الخزين إن هؤلاء الخواجات للأسف لم يعرفوا بعد وقد أفسدتهم عادة استهلاك المناديل الصحيّة كيف يمكنهم غسل أطيازهم بالماء الطهور في أعقاب كل غائط”.
كان وزن ياسر كوكو قد أخذ في التناقص.
ولم يتوقف “هذا التناقص”. إلى درجة أن خشي بعضهم أنه إذا استمر وزن ياسر على هذا المنوال فسيزيحون عنه ذات يوم الغطاء ولن يعثروا له حينها على أثر. لم يتوصل أكثرهم فراسة لحقيقة ما يحدث بالفعل. كانوا في حيرة من أمرهم وأسرى لتضارب التخمينات. وقد بدأت تتكون لديهم عادة تجنب التفكير في النكبات منذ أمد بعيد على اعتبار ألا شيء آخر هناك يمكنه أن يكون أكثر سوءا مما عايشوه من قبل في مناف وسيطة بائسة مثل القاهرة. قالوا لقد بدأ ياسر كوكو يعاني إلى درجة الأنين والتوجع من فتور وتعب متزايدين. وشهيته غدت منذ مدة أثرا من بعد عين. أما طوحاله فقد تضخم على نحو مريع. اقترح عليهم أحدهم وقتها، وكان صاحب خبرة في توزيع المنشورات على طلبة المدارس في الوطن، أن يعثروا على تركيبة علاج بلدية من إحدى البقالات العربية المنتشرة بكثرة في مدينة كالجاري القريبة. لم يُجدِ مفعول مسحوق تلك الحبة السوداء الممزوج بعسل النحل والذي واظب ياسر على تعاطيه “على الريق” لمدى أكثر من أسبوع. لكنَّ أحد أولئك العاطفيين ممن يعبرون عن مشاعرهم عادة بالدموع، وكان المنفى قد أخذ يعدَّه منذ أشهر قليلة حثيثا للتحول إلى شاعر آخر في سبيل الحرية قد قام بتلخيص أسباب الأزمة الصحيّة لياسر برمتها في عبارة أنيقة، قائلا:
“إنه مرض الحنين إلى الوطن، يا سادة”!
أخيرا، أخبرهم الطبيب بكلمات شديدة الوضوح وبلا مواربة تذكر أن ياسر كوكو “والعياذ بالله” مصاب بمرض “خبيث” يدعى:
الإيدز.
كان الطبيب قد أخبرهم بهذا في أعقاب “فحص تأكيدي يسمَّى ويسترن بلوت”.
كان مع ياسر كوكو وقتها لإعيائه الشديد ثلاثة من المنفيين من مجموع تسعة آخرين كانوا يقاسمونه السكنَى في شقة مكونة من ثلاث غرف وصالة واحدة. نظروا في تلك الثانية الأكثر رعبا في تاريخهم الشخصي إلى بعضهم البعض داخل تلك العيادة العامة، وبدا وكأن صاعقة هوت على رؤوسهم. حين لم يكن مع الطبيب ما يثبت هويّاتهم، طلبوا منه بأدب أنثوي ما أن يظلّ ياسر كوكو معه في الداخل لبضع دقائق أخرى حتى يتسنّى لهم التشاور في الردهة الخارجية، قبالة ديسك الممرضات فيما بينهم، لاختيار أنسب الطرق التي يمكن للترجمة عبرها أن تخبر ياسر كوكو “المسكين” بشيء من الرأفة أن “أمر الله ماض فيه”، وأنه “بالتالي” لا محالة ميت، كما أن كل نفس في الأخير “ذائقة الموت”. بل احتفظ أحدهم بروح نزعة فلسفية وفدت إليه عبر قراءة مقال قديم ورد في النسخة العربية لمجلة “ريدر دايجست” فقال للدكتور “إن أشكال تلقي الموت لدينا غير أشكال تلقي الموت لديكم أنتم الخواجات”. قالوا للطبيب وقتها بشيء من الإلهام الذي كان يُعتبر حتى قبيل دخولهم إلى العيادة سببا مهما في التقدم العملاق للبشرية منذ ما قبل عهد نيوتن “للأسف، يا دكتور، صديقنا ياسر كوكو هذا لا يفقه حرفا واحدا من اللغة الإنجليزية”. كان ياسر كوكو يتابعهم أثناء حديثهم إلى الطبيب بذلك الإعياء. لا يدري “أخيرا أُريد به أم شرا”؟ باختصار، أخذ ثلاثتهم يتصرفون تلك اللحظة، من غير سابق اتفاق بينهم، كما لو أنهم قاموا عفوا بوضع عقولهم مجتمعة داخل رأس بشريّة واحدة لها ست أرجل واسعة الخطو.
هكذا، ما إن خرجوا من تلك الغرفة وابتعدوا نحو ثلاثة أمتار تقريبا، من حرم العيادة، حتى أطلقوا العنان لسياقنهم دفعة واحدة.
كانوا يواصلون الركض مندفعين كالريح لا يلوون على شيء آخر خلّفوه في صحبة الطبيب وراءهم نحو أبعد نقطة قد تصل إليها أقدامهم السريعة. لكن أين توجد مثل تلك النقطة البعيدة إذا كان ما يهربون منه قد غزا عروقهم بالفعل خلال الحياة اليومية المتكررة إلى جوار ياسر كوكو داخل حدود تلك الشقة المؤجرة؟ في أعقاب ورود الأنباء “المفزعة”، وطوافها بيتا بيتا ومقهىً مقهىً وميدانا ميدانا، هبط وجوم كثيف، مخيما بكلكله على مجالس المنفيين في وينبيك. لكأنّ المدينة غدت بين ليلة وضحاها المدينة الأكثر ذعرا ورعبا من نوعها في العالم، على مستوى الشكوك الماثلة في السلامة العامة للأفراد.
أول ما تبادر إلى أذهان أولئك المنفيين على مقاعد بورتيج بليس، وقد تيقنوا بدورهم من مصاب ياسر كوكو بالإيدز، أنهم وكذلك دونما سابق تنسيق بينهم أخذوا يستعيدون من ذاكرتهم بدقة مرصد فلكيّ تابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا تلك المواقف والأحداث المؤسفة التي سبق لهم فيما مضى من سيرة حياتهم “التعيسة” كوجه أرملة شابة أن اقتربوا خلالها من ياسر كوكو “هذا” لما كان لا يزال يعيش بين ظهرانيهم في مدينة وينبيك على نحو قد تكون معه نسبة انتقال العدوى منه ودرجات الحظوظ بالإصابة عالية. قال أحدهم: “لم يكن عبثا، يا سادة، أن أجد على الدوام عظما، حتى في صحن الكبدة”! لم يبتسموا. فقط نظروا إليه في وجوم تام نظرتهم تلك إلى أحمق ألقى نكتة في مأتم. ما لبث أن قال آخر في أثناء مناقشة الحدث عصرا في حديقة سنترال بارك “لا بد أنني أغضبت والديَّ”. كانوا يعبرون باختصار من داخل تلك الحيرة المطبقة التي قد تصيب الناس قبالة تجربة جديدة ومختلفة تماما وعلى فهمها بالذات تتوقف الخطوة التالية لحياة كاملة!
مع مرور الوقت وتضاعف حدة سيوف الحسرة، أخذوا يتبعون نظريةَ أكثرهم قربا إلى قلوبهم، عوضا عن الذهاب فورا إلى أحد تلك المعامل الصحيّة المنتشرة في المدينة لفحص عيّنة من الدم”. إذ ذاك، قال لهم بعد تفكير عميق إن “الخالق سبحانه وتعالى وحده يعلم جيدا أننا مجرد غرباء بائسين في بلاد بعيدة”. كانت تلك الملاحظة قريبة في الواقع من أفق تصوراتهم القائلة إن “من الحكمة عدم التفكير في المصائب، يا سادة”. لكنّ الأمر لم يخلُ تماما من وجود عدد من بين أولئك المولعين عادة بتتبع جذور المشكلات وصولا لما أسموه بشيء من الحذلقة “إدراك حجم الفجيعة الماثل”. قال أحدهم وكان مذيعا تلفزيونيا سابقا في قناة إقليمية “للأسف، قبيل لجوئي إلى كندا، قمت برفض العمل في إحدى القنوات الفضائية العربية. كان من الممكن ألا أرى ياسر كوكو هذا. هل أعترف لكم أنه زارني مرة ومكث في حمامي الخاص طويلا”؟
كما لو أنه يصبّ وقودا على نار الهواجس، شرع أحد الحاضرين في التجاوب مع محنة المذيع، قائلا في شرود وجديّة تامة: “عسى ألا يكون ياسر كوكو هذا قد استخدم وقتها مكنة الحلاقة الخاصة بك”. قال المذيع وقد شارف تماما على البكاء:
“لو فعل لثكلتني أمّي إذن”!
عبدالحميد البرنس
[email protected]