تاريخ السودان ما بين الجمهوريتين

تاريخ السودان ما بين الجمهوريتين

عبدالعزيز النور
[email protected]

السودان ومنذ تاسيس كيانه السياسي الحالي ، مر بفترات وظروف متعرجة مختلفة متناقضة متنافرة أدت إلى تقسيمه إلى دولتين في التاسع من يوليو 2011م ، حيث قبل تلك اللحظة التي تم خلالها إعلان جمهورية جنوب السودان وبحضور قادت المشروع الحضاري ( لحصاد زرعهم ) ، كان للسودان تاريخ متغير ومتقلب يتم تغييره وتعديله من فترة لأخرى وتشتيته في بعض الكتب المدرسية وكذا وسائل المعرفة الاخرى والتي عادة ما يسيطر عليها جهاز الدولة وايضا الصاق بعضه بالدعابة اليومية المتمثلة في السخرية من الكيانات والجماعات التي تشكل مصدر قلق المشروع الحضاري الأمر الذي يعكس وبوضوح غياب الوحدة الإجتماعية و التربية الوطنية بين افراد الدولة ، ولكن ؛ وبما ان كيان الدولة أصبح لا يفي بالغرض المطلوب في ظل تقاطع المصالح الدولية ، ولجوء العالم إلى إزالة الحواجز السياسية والتحرك في شكل كيانات إقليمية بدلا من الدولة وتكوين إتحادات عالمية ، أما آن للسودان وبدلا من العصبيات الضيقة أن يكتب تاريخه الحقيقي ويرتقي لمستوى الدولة ليلحق بالحراك العالمي ؟ .
المعلوم أن تاريخ السودان قديما إرتبط نصا بدخول العرب السودان وما حملوه إليه وما فعلوه به ، بدءا من محاولات إدخال الإسلام مرورا بغزوة التركية الإسلامية الإسترقاقية ثم المهدية والإستعمارالبريطاني المصري ـالمحلي والحديث عن إستقلال للسودان (مع إقامة حفلات وداع للمستعمر) وكذلك عن بطولات بعض أعوان الإستعماريين وتجار الإنسان الذين تم إدخالهم في آخر صيحة للكتاب المدرسي والعمل على إخفاء الوثائق التي تضم كل الحقائق التاريخية وطمس كل ما من شانه يمكن ترجمة حركة التاريخ السوداني من خلاله وإصطباغه بألوان باهتة (دولة عربية إسلامية )لا يمكن أن تصمد أمام ضوء الحقائق والواقع ،و لكن إلى متى يظل الشعب السوداني يتفرج على هؤلاء ، وإلى أين يمكن أن يقود ذلك السودان ؟، بعد ان قسموا السودان إلى قسمين (كمرحلة أولية لتقسيم ما تبقى منه في مراحل لاحقة على حسب مشروع عبدالرحيم حمدي المثلثي ) .
ومع أن الانظمة السياسية السودانية المختلفة شكلا التي تولت قيادة الدولة جميعها إرتضت هذه الوثيقة وبل وهي التي أوجدتها كانت تعي سبب إعتماد هكذا وثيقة لتطلق عليها إسم تاريخ السودان ، هي نفسها إتفقت على ان لا يكون هناك دستور دائم للسودان ولو على شاكلة وثيقة التاريخ ولنفس السبب ، ألا أنها كانت تعلم مرامي مخططاتها ولكنها تجاهر بعكس فعلها ، وخصوصا تلك الاصوات التي كانت تنادي بالدولة الموحدة ، وهذا ما كان واضحا حتى في مداولات البرلمان في حكومة ما بعد ثورة إكتوبر 1964م ، وكذلك إصطفاف تلك القوى ضد قوى الهامش ، إلا أنه واقعيا أصبح السودان دولتين وما تزال الحرب مستعرة ومستمرة في حصد أرواح الشعب السوداني وبشكل أكثر ضراوة وما زالت تلك القوى رمادية الموقف فلا أيا منها يود أن يكون له رأيا واضحا أو موقفا مسئولا حيال ما يدور في دارفور و جبال النوبة ولا حتى عن إبادة الأطفال المشردين في الخرطوم وأم درمان ، أو الهامش السوداني بأكمله ، وأيضا لا أحد يرغب في الحديث عن دستور وطني يحدد ملامح و طريقة إدارة الدولة السودانية بعد إستقلال جنوب السودان بخلاف ذلك الذي ظل يردده المؤتمر الوطني عن دستور عربي إسلامي ودولة عربية إسلامية في موقف يؤكد تمسكه هو والنخب الأخرى بصمتها بنفس الأسباب التي أدت إلى تقسيم السودان الأمر الذي يحتم تفتيت ما تبقى من السودان في حال بقاء هؤلاء على رأس السلطة والمعارضة معا .
وبالرغم من الحديث المستمر عن إمكانية توحيد شقي الدولة السودانية في حال زوال شروط التقسيم الظاهرة وعلى راسها المؤتمر الوطني ، إلا ان ذلك لم يكن ممكنا مع بقاء أسباب التفتيت الحقيقية ، وخصوصا أن دولة جمهورية جنوب السودان ربما تتجه بخطى علمية غير ميتافيزيقية أو ديماجوجية وبعيدا عن المكابرات والمزايدات والتحامل في البحث عن التاريخ الحقيقي للسودان مع العلم بأنه من الصعوبة بمكان كتابة التاريخ السياسي لأي جزء من السودان بمعزل عن تاريخ السودان ما قبل 9/يوليو/2011م ، وكتابة التاريخ السياسي الحقيقي لجنوب السودان والهامش بشكل عام يتعارض جملة وتفصيلا مع تاريخ السودان المعروف والمتاح للأجيال الحالية ، فعلى سبيل المثال معلوم أن الصيحة الأولى من كتاب تاريخ السودان ، تحدثت عن دخول العرب السودان وعن عدم إسهامهم اوتاثيرهم في واقع السودان للأسباب التي ذكرت وقتذاك وعن محاولات عبدالله أبي السرح لإدخال الإسلام في السودان وإتفاقية الغط ثم معركة عام 1612م و وثيقة ودعدلان من سنار وغيرها ، وأيضا أن الزبير باشا رحمة وحنا الطويل وغيرهم كانوا من سدنة المستعمر و من تجار البشرالمعروفين وهذا كان محل جدل دائم بين الرعيل الأول في الحكم بعد الإستعمار، مما إضطر الأستاذ عبدالخالق محجوب في إحدى جلسات البرلمان التي خصصت لمناقشة الأوضاع في جنوب السودان آنذاك لتقديم نقد ذاتي حينذاك حيث قال وبعد أن حيا شهداء ثورة أكتوبر الشعبية ( نقول لأولئك الذين يدعوننا بأحفاد الزبير باشا نعم نحن أحفاد الزبير باشا نحن لا نتهرب من تاريخنا ولكن …………………الخ) ، حتى يتفادى سماع هذا النوع من العبارات التي كانت عادة ما تأتي كرد فعل لعبارة عبد أو فرخ والتي قال عنها الترابي إن البشير عادة ما يطلقها على الجنوبيين والغرابة ( بيقول لى علي الحاج ؛ الفريخ ) ، لتعود آخر صيحة لكتاب التاريخ المدرسي وتعلن عن الدور الوطني للزبير باشا في ضم دارفور وبحر الغزال (التضاد) ، وحتما من الجهة الأخرى وفي جمهورية جنوب السودان سيستبدل ما كان يسمى فتحا إسلاميا تركيا بأنه كان إستعمار إمبريالي ، وما كان يسمى بتمرد الجنود السود في تلك الفترة بأنها كانت ثورة سودانية أصيلة ضد ذلك الإستعمار والتي بلغت اوجها في كسلا 1864م-1868م ثم توجت بالثورة المهدية وإنتصارها النهائي في 1885م ، ثم معارضة معاوني المستعمر لأول حكومة وطنية والتي إنتهت إلى التعاون الكامل مع المستعمر الأنجليكاني وحتى إسقاط الحكومة الوطنية في أم درمان98-1899م والإقليمية في دارفور1916م ، والعمل معه لإخماد أي ثورة مضادة في تلك الحقبة كما في دينكر ودايو 1902م و1903م في دار النوير , يامبيو1904م في غرب الإستوائية , ود حبوبة 1908م في الجزيرة , ود الصليحابي في الجبلين , جبال النوبة 1914م – 1919م ,العبيد حاج أمين و علي عبداللطيف ورفاقهم 1917م – 1924م وآخرين ، لحين أن قرر المستعمر إنسحابه ولملمت أطرافه جراء الضغوط التي واجهته إبان الحرب العالمية الثانية في أواسط القرن العشرين والتي تمت في 1956م وبالتالي توريث الحكم للذين يتمنون يوما أن كان الزبير باشا قد حكم السودان كما ذكر المحامي غازي سليمان .
لذا فالحديث عن إعادة توحيد السودان أو الحفاظ على ما تبقى منه موحدا لا يتأتى بالأمنيات والتي تتجلى في زوال المؤتمر الوطني وحسب ، لأن التوجهات المنهجية المختلفة في بحث ودراسة تاريخ السودان تؤسس لوضعية ثقافية مختلفة ومتعارضة تماما للأجيال القادمة في الجارتين وأيضا الإصرار على تأسيس دولة عربية إسلامية لا تعترف بالتعدد والتنوع والإختلاف في الباقي من السودان (في وقت فيه تسعى القوى الدولية المختلفة لبسط سيطرتها إبتداء من التعاون الخليجي ، الإتحاد الأوروبي ، الولايات المتحدة الامريكية ، حلف شمال الأطلسي ،……………الخ بقدر المستطاع ) قد يؤدي لا لتقسيم السودان فحسب وإنما قد يقود إلى صوملته مع الفارق الكبير المتمثل في الغبن المتراكم بين مكونات الشعب السوداني وإنتشار السلاح بشكل يصعب السيطرة عليه بسبب التمليش الحكومي والمقاومة المضادة لذلك ، الأمر الذي يتطلب وقفة جادة من الشعب السوداني للحوار مع ذاته وقبولها بدلا من الحوصلة التي يعيشها في إطار قبائل وخشم بيوتات ، والإنتماء إلى فضاء إنساني بدلا من التمترس البادوي والإرتقاء لمستوى المسئولية التي تمكنه من تأسيس دولة يستطيع من خلالها تجاوز العقد المجتمعية و فك العزلة الفكرية التي يعيشها وبالتالي اللحاق بالحراك العالمي في المستويات المختلفة وأخذ مكانته بين العوالم الإنسانية التي تأسست على قيم الحرية والعدل والديمقراطية والسلام .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..