خضر حمد : دبلوماسي طليعي في منظمة إقليمية ..

أقرب إلى القلب:
(1 )ربما يُدهش البعض حديثي عن السيد خضر حمد (1910-1970)، كونه الدبلوماسي السوداني الأول الذي التحق بمنظمة إقليمية. .!
لقد عرفنا السيد خضر حمد سياسياً وطنياً ، من الجيل الذي أرسى دعائم الحركة الوطنية التي أوصلت البلاد إلى عتبات الاستقلال، وكان أحد نجومها اللامعة. وإني على إعجابي بهذا الجيل الذي افترع مسارات للارتقاء بالبلاد- وخضر واحد من أبرزهم- فلا تجدني أرفع رايات التمجيد الببغائي ، دون مدارسة وتقييم ، ولكني أراهم على خلفية معطيات تلكم المرحلة، قدّموا أقصى ما ملكت أيديهم من قدرات، وأكثر ما تيسر لهم من مسارب النضال، لإخراج البلاد من ربقة الاستعمار. عملوا قدر جهدهم في بيئة عالمية مواتية، فحققوا للشعب حقه في الحرية، واستحقاقه في إدارة أحواله بعيداً عن السيطرة والاستغلال، وإن غابت الرؤى الثاقبة لمصائر الوطن عند أكثرهم. لا يجب علينا أن نسعى لتبخيس بذلهم ، ولا التقليل من قدرات البعض منهم، بل ينبغي أن ننظر للحال التي عليها البلاد وللحال التي عليها المنطقة برمتها، بل والواقع الذي لوّن أطراف العالم وقتذاك. لعلّ الحرب العالمية الثانية (1938-1945)، مثلت محطة مفصلية في تاريخ البشرية ، بالنظر للخسائر البشرية الفادحة التي أهدرت في أتونها، وللدمار الاقتصادي الذي أهلك العالم ، وزلزل أوضاعه جميعها، فقد استشرف المجتمع الدولي بعدها، مرحلة جديدة لبناء عالمٍ آمنٍ ومستقر. . .
(2)
خرج العالم بعد أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها، بمواثيق وعهود واتفاقيات، توافق أغلب زعماء العالم على الالتزام بها ، وحمايتها والزود عنها ، بما يحفظ للعالم أجمع، استقراراً وأمناً وسلاما. بعد إجازة ميثاق الأمم المتحدة، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948)، وهي الشرعة التي عززت طموحات الشعوب المستضعفة في المضي قدماً لنيل حريتها واستقلالها، فإن السودان الذي شارك بجنوده في الحرب العالمية الثانية، بات في مقدمة الشعوب التي اندفع ابناؤها مطالبين بحقوقهم في الحرية والاستقلال، وفي إدارة شئونهم بغير وصاية. تدافع المتعلمون لرفع تلك المطالب المشروعة، وارتقت الحركة الوطنية إلى درجات أعلى لإنهاء الحكم الثنائي ، بل ولإعادة النظر في العلاقات السودانية المصرية، بما يعود بتحقيق مطالب السودانيين .
كان خضر حمد من الرعيل الذي أسس “مؤتمر الخريجين” عام 1938، وهم الشباب الذي شكّل طليعة المتعلمين في السودان. ظلّ خضر ملتزماً باستحقاق نيل البلاد استقلالها ، ثم أن تنظر بعدها في أمر الاتحاد مع مصر، بما يحفظ للشعب السوداني كرامته، ولقياداته هيبتها، وللشعب حقه أن يقول كلمته إن مال إلى الوحدة مع مصر، أو اختار الاستقلال. وفيما لم يكن من المعارضين لفكرة الوحدة مع مصر أول عهده سياسياً نشطاً ، فقد تولى خضر حمد سكرتارية الحزب الوطني الاتحادي، الذي كان يتزعمه الرئيس الأزهري.
لا أشغلك بنشاطه السياسي في السودان خلال تلك الفترة، ولكن ما يلفت النظر، وربما لم يسلط الضوء كافياً عليه، هو دوره ونشاطه الكبير في جامعة الدول العربية، وقد كان أول سوداني يلتحق بها في عام 1946 وهي منظمة وليدة قيد الإنشاء..
(3)
فيما كان موظفاً مرموقاً في وزارة المالية في الخرطوم حتى عام 1946، نجد خضر حمد ، وقد انفعل بالهموم العربية، واستفزه ميل السياسيين الأوربيين والأمريكيين ومسعاهم التآمري لتأييد قيام دولة يهودية تزرع في الشرق الأوسط، يقدّم طلباً للجامعة العربية الوليدة، مبدياً الرغبة في أن يكون جندياً يجاهد لهدف قومي عربي نبيل. كتب خضر: (.. أقدم نفسي طائعاً مختاراً للجهاد في سبيل البلاد العربية والإسلام وأرجو أن أحظى بالقبول أو التوجيه الذي يحقق لي هذا الأمل وسأتخلى عن وظيفتي بمجرد وصول أمركم..) ذلك من رسالته للأمين العام للجامعة العربية في القاهرة، عبد الرحمن عزام، ممّا حكاه في صفحة 148 من مذكراته. غير أن عزام صرف النظر عن طلبه التطوع للقتال في جبهة فلسطين، وقبله موظفاً يساعد في تنظيم العمل بالأمانة العامة للجامعة العربية، بحكم خبرة خضر في تأسيس وإدارة المكاتب، وتنسيق وضبط أعمالها.
وافق خَضر بعد تردّد على الالتحاق موظفاً بالجامعة العربية عام 1946، وبذلك يكون خضر حمد أول سوداني يلتحق بالأمانة العامة للجامعة العربية، وهي لم تكمل بعد عام تأسيسها الأول، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. في تلك السنوات، لم تكن للدبلوماسية، كآلية من آليات العلاقات الدولية، مواثيقها وقوانينها ولوائحها. ولم يكن معروفاً في اللغة الدبلوماسية السائدة آنذاك، مصطلح “الدبلوماسية الجماعية”، وهو النشاط الذي يعنى بالعلاقات الجماعية بين البلدان، إلى جانب العناية بالعلاقات الثنائية بينها، والتي وضعت ضوابطها لاحقاً أوائل الستينات، في اتفاقيتي فيينا للعلاقات الدبلوماسية وللعلاقات القنصلية. لقد أسس ميثاق الأمم المتحدة الدبلوماسية الجماعية أو دبلوماسية المنظمات الدولية، باعترافه بدور المنظمات الاقليمية ، مثل الجامعة العربية (1945م) ومنظمة الوحدة الأفريقية (1963م ) والمنظمات القليلة في المناطق الأخرى، ولقد اشار د.منصور خالد في ورقة قدمها عن الربيع العربي في جامعة نايف للعلوم الأمنية في السعودية أواخر عام 2013، إلى أن وجود الجامعة العربية في الساحة الدولية، هو سبب تضمين إشارة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة إلى “المنظمات الدولية ودورها في توطيد السلام” . .
(4)
ثمّة أمران التبسا عليَّ وأنا أسطر مقالي هذا ، وظنّي أن البحث والتدقيق والتوثيق حولهما، ضروري لاستجلاء طبيعة دور السيد خضر حمد، حين التحق بالجامعة العربية في عام تأسيسها.
أول الأمرين: أن السيد خضر حمد لم يقل لنا كيف أفلت من نظرات التشكيك، ثم تمكن من فكّ ارتباطه الوظيفي بحكومة السودان ، وهو الموظف في دوائرها المالية الرسمية، ويشرف على عمله السكرتير المالي البريطاني مساعد الحاكم العام.
ثاني الأمرين يتصل بما قدرت أنه تجاهل من طرف الحكومة المصرية لالتحاق مواطن سوداني بإدارة الجامعة العربية في مقرها بالقاهرة، دون أن تبدي رأياً، خاصة وأن توجّهات كل الحكومات المصرية المتعاقبة، قبل 1952م – عام إنهاء الحكم الملكي في مصر- كانت تميل لمعاملة السودان وكأنه جزء من مصر..؟ كانت مصر بين رأيين: سياسة الإبقاء على السودان في إطار الوحدة، أو الجلاء عن أراضيه. غير أن الأمر لم يحسم وتواصل التفاوض، بل التشاكس مع بريطانيا التي تشارك في حكم السودان، وفق اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م. “ثورة” يوليو في مصر في عام 1952 مالت نحو تنفيذ الحكم الذاتي في السودان..
مع تنامي نشاط الحركة الوطنية في السودان، ارتأى خضر حمد أن يغادر وظيفته في الجامعة العربية عام 1951م ، وقد أبلى البلاء الحسن بشأن القضية الفلسطينية، لينخرط من جديد في نشاط الحزب الوطني الاتحادي في السودان، ويصبح سكرتيره العام. .
(5)
بدأ تأسيس جهاز الدبلوماسية السودانية خلال فترة الحكم الذاتي الذي أقرته اتفاقية عام 1953م، ومن خلال المكتب الخاص الذي كان يتبع للحاكم العام. من الطريف أن رجلاً من قيادات الحركة الوطنية، والوحيد من بينهم الذي مارس نوعاً من الدبلوماسية في تلك الفترة المبكرة، لم تجرِ الاستعانة بخبراته في تأسيس الجهاز الدبلوماسي الرسمي للسودان، فجر الإستقلال. أجل . . للرجل طموحاته السياسية الكبرى وتطلعاته لقيادة حزبه في تلكم السنوات، وهي طموحات مشروعة وتطلعات تناسب مزاجه ومشروعه السياسي الوطني. آخر سنواته، تولى خضر حمد عدة مناصب وزارية ثم صار عضواً بمجلس السيادة عام 1967م، والذي انقلب عليه نميري عام 1969م. في ديسمبر 1970 توفي السيد خضر حمد، تاركاً إرثا نضاليا محترما وشهادة عن عصره في مذكراتٍ، أنجز نشر طبعتها الثانية مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي عام 2013..
تأسستْ وزارة الخارجية على أيدي رجال غيره : د. عقيل أحمد عقيل ، وكيلا لفترة وجيزة، ثم الوكيل الدائم محمد عثمان يسن، ونائبه السيد خليفة عباس العبيد، وجمال محمد أحمد وأمين أحمد حسين ومحمد حمد النيل وعوض ساتي ويوسف التني ودكتور ياجي ورحمة الله عبدالله . . قائمة شرف طويلة جزء منها هذه الأسماء التي ذكرتها هنا بغير ترتيب، ولعلي في سانحة أوسع أعيد إحكام وتوثيق ما ذكرت . لا أحدّث هنا عن الوزراء وقد كان لهم السهم الأكبر في التأسيس بلا مراء: مبارك زروق والمحجوب في سنوات الاستقلال الأولى. .
أزجي الشكر والتقدير لمركز عبد الكريم ميرغني لرعايته وعنايته بإصدار الطبعة الثانية من مذكرات السيد خضر حمد ، وفاءاً لرجلٍ كان علماً في الحركة الوطنية، مثلما عرفته الدبلوماسية السودانية، مؤسساً لدور سوداني طليعي في إطار الجامعة العربية، ومساهماً في تعزيز “الدبلوماسية الجماعية” العربية، قبل استقلال البلاد، ولكن لم يُسلط الضوء الكافي على تلك المساهمة . .
+++++