حكايـة البت الناريــة

حبوبتي تؤمن إيماناً راسخاً بالتعليم. شجعتني وشدت من أزري لأحقق أرفع الدرجات في الشهادة الثانوية. كانت نصائحها، التي تتحرى لها أطيب الأوقات في نفسي، تقع مني موقعاً حسناً… تأتي نصائحها مثل رصاص.. إذ تطخ عقلي طخاً، وتهز وجداني هزاً، وتدفعني لاستيعاب دروسي بسرعة فائقة. في أحيان كثيرة تجدني مكتفيةً بقراءة الدرس مرة واحدة، فإذا هو راسخ كالطود الشامخ في ذهني. بعض الدروس تبدو مستعصية لزميلاتي، مثل الاحتمالات في الرياضيات والسرعة في الفيزياء والتفاعلات في الكيمياء. أما أنا فكنت أراها سهلة ميسورة، وعندما آخذ ورقة الامتحان بين يدي، تتوالى الإجابات كأنما أنقل من الكتاب نقلاً!
خرجت من امتحانات الشهادة بذكريات لا تنسى. ورقة اللغة العربية، مثلاً، أجبت على كل أسئلتها بحذق تام، باستثناء سؤال يقول: «إلى أي قبيلة ينتمي الشاعر؟»، لم أتردد لحظة في شطب السؤال برمته. صديقاتي قلن لي إنك بذلك التصرف تستفزين الأساتذة وربما يعمدون إلى إلغاء ورقتك من أساسها! فقلت لهن، ليكن ما يكون! ربما كنت أتصرف في ذلك متأثرة بكلام حبوبتي بأن القبلية ستقضي على البلد وتمزقه إرباً إرباً. حبوبتي لم تكن تداري مقتها للقبلية التي استشرت بين الناس استشراء النار في الهشيم. قالت بلغتها البسيطة تلك:
? أنا دحين يا بتي عمري ثمانين سنة، وصداقاتنا مع ناس فاطمة بت النيل وعائشة أبكر وفاطمة بت البسيوني ونائلة وحميدة شلبي وسلامة ورفيعة بت البدري ليها أكثر من خمسين سنة. وما في واحدة فينا بتعرف قبيلة التانية. كان في الفرح كان في الترح تلقانا ملتمين كأننا ناس بيت واحد! جيبنا واحد وقلوبنا في حتة واحدة.
هكذا تداخلت في ذهني الدروس المجردة مع الحياة ومعايشتها.
في السنة الأولى في الجامعة بدأت أدرك أن التعليم لا يقتصر على الكتب، بل يتعداها إلى تلمس هموم الناس، وبذل جهد حقيقي لتغيير الحياة نحو الأفضل. بعض المحاضرات كانت تحثنا، ربما بطبيعة منهجها، لإعمال عقولنا، والخروج من القوالب المألوفة في النظر إلى الأشياء من حولنا. أحد المحاضرين، وهو من القلة النادرة فيما أرى، قال لنا: «إذا لم تتفق معي، فقد فهمتني!». كان هذا الأستاذ يشبه حبوبتي من أوجه عديدة ليس أقلها التحريض على التميز والتجاسر على التغيير.
وفي السنة الثانية، نضجت في ذهني فكرة أن أشارك شعبي همومه، وأن أدلي بدلو ذي شأن في ذلك. ولِم لا؟ فالقلب أخضر، ومسام العقل مفتوحة على الآخر، وقبول الضيم ليس من شيمي. بدأت أتردد على الندوات السياسية وأركان النقاش، وأبدي رأياً فيه من الجسارة ما فيه. أستاذ التصميم الهندسي، قالها مازحاً إن قسم «الحريم» في البيت يجب أن يكون منفصلاً ومختلفاً. اعترضت على هذه المزحة الساذجة، وعلى أن يتضمن قاموس الأستاذ الجامعي مفردات قميئة مثل هذه. بسبب ذلك تعرضت لنقد لاذع من عميد الكلية، الذي استدعاني للمثول أمامه واستجوبني طويلاً وكاد يقرر فصلي من الجامعة، لولا أنه لمس تعاطفاً واضحاً من الطلاب والطالبات ليس في كليتنا فحسب، بل في الجامعة برمتها. وقد خرجت من تلك الأزمة منتصرة، إذ شعرت أن نظرة بعض الأساتذة قد تغيرت نوعاً ما تجاه مواضيع المرأة رغم أنف العادات والتقاليد البالية.
في هذه الأثناء، قررت إدارة الجامعة حظر النشاط الرياضي للطالبات، حتى من داخل المجمع السكني. كنت في صدارة المعترضات على القرار، بل حفزّت زميلاتي على الوقوف ضده ولو أدى ذلك إلى الخروج في مظاهرة داخل الحرم الجامعي. ولم يكن بوسعي السيطرة على مجريات المظاهرة التي امتدت لتشمل مواضيع أخرى من بين مشاكل البلد. هكذا اعتقلت مع سبع أخريات، وظللنا في الحبس تسعين يوماً بتمامها.
وضعونا طوال الشهر الأول في الحبس الانفرادي، ريثما يستكملوا معنا التحقيق. كان استجوابهم، في البداية، ينصب على معرفة التنظيمات السياسية التي تحرضنا، حسب زعمهم، على العمل داخل الجامعة وخارجها. أحياناً يأخذ التحقيق منحى استفزازياً ليتضمن تهديداً سافراً يطال الجسد والشرف معاً. وكنت قد أعددت لذلك جناناً ثابتاً، وذهناً صافياً، وصبراً لا حد له. كنت في أغلب الأحيان استعصم بالصمت. وكم تخيلت، بل وتمنيت، أن تكون حبوبتي معنا، برغم أن صحتها قد لا تسمح بذلك. لكنها مجرد أمنية! لكم كانت ستملئنا حماساً وثباتاً وثورية، إلى الحد الذي يدعونا لتحطيم الجدران الخرسانية الصماء وطرحها أرضاً… حجراً إثر حجر.
بعد انقضاء الحبس الانفرادي، سمحوا لنا بزيارة واحدة في الشهر ولشخص واحد من الأقرباء. وقع الاختيار على أبي، وكانت المنافسة حامية بينه وبين أمي وحبوبتي. لكن تدخلت عوامل كثيرة لترجح كفة أبي. لقد جاء ليستمع أكثر مما ليتكلم. ومن لغة العيون البليغة في التخاطب بيننا، وبحكم حبي الجنوني له، استشعرت أنهم في الخارج يطلبون مني مزيداً من الصمود، وأنني أصبحت رمزاً لمقاومة الطغيان، ولا بد أن أجتاز الامتحان رغم قساوته. أبلغني أيضاً أن حبوبتي تقول لي: «عافية عليك طالما أنك تشقين من أجل البلد بحالته التي لا تسر إلاّ العدو. والزول لو ما حس بهموم الناس أحسن موتو من حياتو».
على امتداد الشهريين الأخيرين في المعتقل، ظلوا يلحون علينا في الطلب لتوقيع إقرار بعدم ممارسة السياسة مقابل إطلاق سراحنا. قلنا لهم إن ذلك يتعارض مع دستور البلاد. ضحكوا! وسألونا عن أي دستور نتحدث؟ كانوا على حق! فالحكومة تفسر مواد الدستور حسب هواها، وهي قادرة على تغيير ما تريد منه وقتما تريد، بل هي قادرة على تغييره مرة ومرتين في اليوم.
خرجنا بعد ثلاثة أشهر، تجرعنا فيها مرارة المعتقل وفقدنا نصف أوزاننا وكل شهيتنا للأكل. لكنها بالمقابل زادتنا قناعة بمدى الظلم الذي يطال البلد بأسره وبعدالة ما نذرنا أنفسنا للدفاع عنه من قضايا. حاولوا أن يراوغوا بشأن موعد خروجنا، تفادياً لهبة شعبية تستقبلنا عند بوابة السجن. ونجحوا في المراوغة، فهؤلاء مهرة في هذا الفن!
أخرجت كل معتقلة في ساعة مختلفة عن الأخريات، وأخذت إلى بيت أهلها مباشرة. فقد أغلقت الجامعة لأجل غير مسمى. وصلت بيتي منهكة وفاقدة التركيز، إنما كنت عارمة الشوق لحبوبتي التي استقبلتني بزغرودة فرح آسرة. وقررت أن أظل معها في غرفتها لأسبوع وربما أسبوعين، حتى تمل هي من صحبتي. ربما كنت في حاجة نفسية لمن يشد أوتار الشجاعة في قلبي ويعيد دوزنتها على إيقاع الناس البسطاء.
في حميمة وصدق، حكت لي حبوبتي كيف أنها نشأت دون تعليم رسمي، حتى بلغت سن الثلاثين، وكانت قد أنجبت ثلاثة من الأبناء وبنتين. وفي لحظة حاسمة في حياتها، قررت أن تدخل مدرسة محو الأمية، وأنهت المرحلة الأولى منها والثانية، وواصلت من تلقاء نفسها في التحصيل، وهي مقتنعة أن التعليم يزيد من ثقة الإنسان في نفسه كثيراً. ولأن حبوبتي صادقة في مشاعرها تجاه الآخرين، فقد قررت أن تفتح فصلاً لمحو الأمية في بيتها، تتطوع هي فيه بالتدريس وتوفير المواد والمعينات المطلوبة من دخلها المحدود أصلاً. قالت لي طالما أنك لا تزالين في إجازة، فلا بد من مساعدتي في مدرستي، وسوف أعطيك راتباً استقطعه لك من الفلوس التي أقبضها من أبوك. سألتها هل يعني ذلك تطبيقاً منها للمثل: «من دقنو وأفتلو»؟ ضحكنا وأخرجنا الأحزان الكامنة في الداخل.
لكن النيل فاض هذا العام فيضانا مخيفا، وأربد وجهه من الطمي. شاهد الناس، لأول مرة منذ عشرات السنين، التمساح العشاري ممسكاً بفريسته بين فكين مطبقين، وأسنان منجلية حادة. الجهات المختصة حذرت الناس من الاقتراب من الشاطئ. شبان أقوياء، شجعان، مفتولو العضلات، ترصدوه، وأقاموا له المترايس. سلاحهم الصبر والأناة، ومهارة الإعداد، والتناوب بين نوم ويقظة. سيقع في شراكهم إن عاجلاً أو آجلاً. حبوبتي كانت، من بين كل الناس، يقينا بأن التمساح سيقع في الفخ!

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..