صلاح قوش رئيساً (3 – 3)

هذا النظام على وشك الإنهيار، ولا زلت تكابر، زنازينك لا زالت تعج بالمعتقلين، بعضهم لا يخرج منها إلّا جثة هامدة، كما وقع بالشابين عبد الرحمن الصادق، ومجاهد عبد الله، فتيان في مقتبل العمر، أزهقت أرواحهم دون أن يطرف لك جفن، سفاح محترف، تتسلى بقتل الناس تحت التعذيب. هكذا ظللت طيلة ثلاثين عاماً، لم تتغير أو ينهد حيلك وتنهمد حتى يأمن الناس جور تعسفك المتبلد الغشيم، ولكن وقت الحساب قد دنا، ولا عاصم لك حينها من هذا الشعب. وسنبدأ الحساب بالقلبة، من آخر قتلاك في هبة ديسمبر، لنأتي نحن في المؤخرة.
منذ بداية عهدكم ظللت تجيد إستنباط وسائل التعذيب، لا تكتفي بما توقعه بضحاياك من الأذى الجسدي والنفسي، بل تدعمه بأساليب أخرى متنوعة، لا مجال لسردها جميعاً هنا، سأكتفي بواحدة منها، مما طبق عليّ، وهي الحرمان من النوم. ذات يوم أصدرت أوامرك لحراس بيت الأشباح بأن لا يدعوني أنام طيلة الليل. ناس طوكر ودكين وحمدان وعبد الواحد وساتي والآخرين، بالطبع أنت تذكرهم جيداً لقد خدموك بإخلاص، وأشهد بأنهم نفذوا أوامرك كما تشاء. بالمناسبة هل لا زالوا في الخدمة، أم تفرقت بهم السبل؟ إن شاء الله الحي بلاقي، وأخص بذلك من بعدك، طوكر بالذات، فقد كان أرذلهم، ليس لأنه كان مسئولاً عن تطبيق عقوبة حرماني من النوم في تلك الليالي، بل لأنه كان متميزاً في الخسة والنذالة والتشفي. لقد رأيته ذات يوم يُدخل صبياً لم يتجاوز السادسة عشر من العمر في صهريج المياه الفارغ أمام الزنزانة “16”، في منتصف نهار يوم حرارته تشوي الطير في الشجر، لقد أنزله في ذلك الصندوق الحديدي وهو في غاية السعادة، بينما ذلك الصغير يرتعد خوفاً ورعباً، ثمّ أغلقه عليه وعندما رآني أنظر إليه جزعاً من خلال القضبان، أشار إليّ بيده بما يعني أن الحنفية مفتوحة، أي أنه لم يحرمه من الهواء تماماً، ترك له صنبوراً يمده ببعض الأكسجين، يا للرحمة والرأفة والشفقة، وماذا عن الفرن الذي أدخلته فيه؟ لقد قضى ذلك الصبي في الصهريج قرابة الساعة وعندما أخرجه كانت ملابسه تقطر ماءً من العرق الذي تصبب من جسده، وهو يبكي بحرقة وألم وإنكسار، لابد أنه أحس بالموت يقترب منه وهو في ذلك القبر الحديدي الملتهب. وربما أن الجحيم الذي تعرض له في ذلك اليوم قد أورثه مرضاً قضى عليه وهو صغير، فالإلتهاب السحائي كان يتصيد الناس في بيوتهم ناهيك عمّن يقضي ساعة داخل صهريج من الصاج في منتصف النهار.
طوكر عليه لعنة الله، لقد كان مسئولاً عن منعي من النوم، من وقت صلاة العشاء وحتى آذان الفجر. تفتح الزنازين عادة خمسة مرات في اليوم عند وقت كل صلاة “ما الدولة إسلامية”، يكون الخروج بالدور إبتداءاً من الزنزانة الأبعد وهي “16”، إلى الزنزانة “1” القريبة من الحمامات. كل زنزانة لها باب، ثلاثة أرباعه السفلى من الصاج، وربعه الأعلي من القضبان. ومجموعة الزنازين على شكل حدون حصان مربعة، يربطها جميعاً ممر واحد من البلاط، وفي المنتصف باحة عليها عدد من الطشاتة “جمع طشت” وهي من النوع الثقيل الوزن، ليست من الصفيح الخفيف، يستخدمها النزلاء للوضوء. عندما عدت ذلك المساء من الحمامات لم يمهلني طوكر كثيراً، إذ جاء وهو يحمل الكلبشات وأمرنى أن أقف وأخرج يدي من بين القضبان ثمّ قام بتقييد اليدين في هذا الوضع. ثم أحضر واحداً تلك “الطشاتة” وطلب مني أن أمسكه بكلتا يدي، وحذرني من سقوطه لأنه إذا إنفلت من يدي وإرتطم بالبلاط، فسيحدث فرقة توقظ من كان نائماً من الحرس. وعندها سوف أقضى ما تبقى من الليل تحت الضرب والركل والسحل، قضيت تلك الليلة هكذا، تعبت تعباً شديداً، أنهكت تماماً، ولكني تغلبت على النعاس، وظللت صامداً حتى آذان الفجر. كنت في زنزانة “12”. على يميني زنزانة “13” كان بها الزهاوي إبراهيم مالك، عليه رحمة الله، وعلى يساري زنزانة “11” كان بها الرجل الأصيل فضل الله برمة ناصر ربنا يمد في أيامه ويمتعه بالصحة والعافية. ولما كان الخروج بالدور من “16” إلى “1” فقد قام الحارس بفتح زنزانة الزهاوي أولاً، وعندما مرّ من أمامي قال لي كيف؟ فقلت له يدي خدرانة، وفي طريق عودته قال لي أضرب يدك في الحيطة، ولكن قبل أن أجرب هذه الحركة كان الحرس قد أغلق زنزانة الزهاوي، وجاء دوري، أخذ عني الطشت وفك قيدي وفتح لي الباب، فخرجت وأنا لا أكاد أقوى على السير، ولكن ما أن عدت حتى أنطرحت ورحت في نوم عميق منذ صلاة الفجر وحتى حوالي الساعة السابعة وهو الموعد المعتاد لبداية يوم جديد من الجرجرة والتحقيق والتعذيب “الجرجرة من مصطلحات أفراد الجهاز”.
في الليلة التالية تكرر ما حدث في سابقتها بحذافيره، ولكني عملت بنصيحة دكتور الزهاوي، رغم أنني لا أعلم إن كان طبيباً، أم له دكتوراه في تخصص آخر. وعليه كنت من حين لأخر أمسك الطشت بإحدى يديّ وأضرب الأخرى في الحائط حتى تستعيد بعض حيويتها وبالفعل كنت أحس أن الخدر تلاشى بعض الشي، هكذا حتى آذان الفجر، لأجد سويعات قليلة من النوم، بعدها نبدأ في مشوار الجرجرة، لثلاثة أيام متوالية لم أنم طيلة الليل، وإضرب وأركل وأسحل نهاراً.
لقد كان السهر مع طشت الغسيل، ليس من نوع التعذيب الذي يتم داخل المكاتب أو الزنازين، فقد كان منشوراً على الملأ، بحيث يمكن لنزلاء الخمسة عشر زنزانة الأخرى أن يروني من خلف قضبانهم، وأنا أحمل الطشت طيلة الليل، من بعد صلاة العشاء، وحتى آذان الفجر. وقد شهدوا بذلك، وهم لا زالوا أحياء. أما أنت فلن تستطيع أن تنكره، لقد أمرت به وتابعت تنفيذه.
تلك كانت دوامة من الألم والوجع الذي لا تحده حدود، عشناها ونحن نتقلب في الجمر. جربت فينا كل أنواع التعذيب، ولا أدري إلى أي دين أو شريعة أو عرف أو قانون أو أخلاق كنت تستند، أو تجد له تبريراً أو مسوغاً، هذا التجاوز البشع في إستخدام السلطة لا يحدث إلّا ممن تراكمت في نفسه عقد عميقة من الإحساس بالدونية والنقص، وعدم الثقة في النفس والخوف من الآخر، فتطغى روح الحقد والإستبداد على القيم الإنسانية والوازع الأخلاقي، ويصبح البطش رمزاً للسيادة والسيطرة والغطرسة، وتنزوي مفاهيم العدالة والتبصر في إدارة شئون البلد بما يخدم مصالح الناس، والنتيجة هي التردي والفشل والفساد، الذي يعايشه السودان اليوم، ولأجله ناشدك هؤلاء، أن تقلب الحكومة وتستلم السلطة، علّك تخرجهم من هذا المأزق البائس، لكنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.
رد عليهم، لا تترك مناشداتهم تذهب هباء، قل لهم أن هذه الوظيفة ليست من تخصصك، وأن مؤهلاتك دون ذلك. وأن دورك ينحصر فقط في حماية الحاكم وقمع المحكوم. وهذا ما ظللت تمارسه طيلة ثلاثين سنة، فكيف تغيره بين ليلة وضحاها. ولديك آلاف الشهود على ذلك، كل من مرّ ببيت الأشباح طيلة هذه الفترة، جميعهم سيشهدون على حسن أدائك في هذه الخانة، فيها مارست التعذيب بوحشية تتبرأ منها حيوانات الغاب، أخرجت كل ما في نفسك المريضة ووجدانك السقيم من عاهات وتشوهات. وأنا لا أتزايد عليك وإنما أقول ما عايشته وما رأيته وليس ما سمعته. كيف تكون بشراً سوياً وأنت تعذب إنساناً حتى يهترئ لحم قدميه، وهذا ما فعلته بالطريفي، وما عايشناه معه ألماً بألم، وهو يزحف حبواً ولعدة شهور كلما همّ بالذهاب إلى الحمام، لقد تجاوز طغيانك المدى حتى أصبحت تمثل بجسد إنسان حي وليس جثة هامدة. والحمد لله الطريفي موجود ويمكنه أن يروي ما تعرض له.
التعذيب الجسدي والنفسي لم يكن هو كل ما تسلطت به علينا، فهناك نوع من التعذيب المعنوي الخفي. لقد وضعت ضوابط صارمة لعدم تواصل المعتقلين فيما بينهم، بل حتى مع حراسهم، وهم يعيشون في زنازين الحبس الإنفرادي. أكثر ما كان يعذبني في المعتقل هو أن تفلت الأيام من يدي، ذلك كان يشكل لي فزعاً حقيقياً، أن أستيقظ ذات صباح وقد فقدت علاقتي بالزمن، لا أعرف إسم اليوم الذي أنا فيه، وموقعه من الشهر، وكم قضيت في المعتقل؟ إنه قلق ممض ومؤرق وخوف مستمر أن تجد نفسك يوماً خارج الزمن، تصور ذلك وأنت تعيش منطوياً في زنزانة لوحدك، وعندما تخرج لدقائق فأنت في بيئة ممنوع فيها الكلام. لذلك كنت ما أن أجد قطعة فحم على الأرض، حتى أحتال على إلتقاطها، وأذهب بها إلى الزنزانة، لأعيد ترتيب أيامي، إبتداءً من يوم الإثنين 19/4/1993 وعندما أعرف اليوم الذي أنا فيه أحس بنشوة طاقية، وكأنني توصلت إلى إكتشاف كبير. وفي الداخل دوماً هاجس أن يطول بك المقام ولا تجد ذات يوم فحمة لتسطر بها تاريخ أيامك. إنه تعذيب مركب تتحمل كل آلام الجسد وجراح الروح وإنكسار النفس، وفوق ذلك تظل خائفاً من أن تفقد أبسط الأشياء، مجرد فحمة، لقد أُعدّ المعتقل بعناية ليصبح متاهة مفضية للجنون.
لقد فعلت يا صلاح ما فعلت، فهل ترى في نفسك كما يقول مناشدوك صلاحية للرئاسة، أنا أقول لك أنك لا تصلح ولست مهيئاً لذلك بطبيعة تكوينك الذاتي، فأنت لست مختل نفسياً وجباناً فحسب، بل فاشل أيضاً. إنك عاهة، لا تعرف نقاء الضمير وسمو الروح. تلك قيم لو كنت تمتلك بعضاً منها، لعرفت أن للإنسان قيمة، ولجسده حرمة، تلزمك بأن تغل يدك عن الإيذاء والتعذيب بكل تلك القسوة التي لا يقرها عرف ولا دين. إنك لا تفتقد الفطرة السليمة فحسب بل تفتقد الفطنة ايضاً، فأنت لا تعرف غير الضرب والسحل والركل والتنكيل، أما إستخدام الذكاء توسلاً للنتائج، فهذه موهبة لم يمن الله بها عليك، لا أنت ولا أي من جماعتكم، وأنت كبيرهم في المجال الإستخباري، لقد قضينا أكثر من ستة أشهر من التعذيب المتواصل، تركز الإستنطاق عن ثلاثة مواضيع، شخص يدعى حاج إبراهيم، ومنزل بالصافية، وعربة هايلوكس. لقد تحديتك سابقاً إن كنت قد توصلت إلى أي منها، ولا زلت أواصل التحدي بعد خمسة وعشرين سنة، وأنت لا زلت في نفس موقع الخدمة، هل توصلت لشئ، أيها المُخَلّص الهمام.
أنت في نظر نفسك ونظر جماعتك ليس أكثر من “كلب حراسة” فهل نتوقع من الكلب أن يصبح سيداً؟ هذا توقع بعيد عمّن إرتضى لنفسه هذا المقام الوضيع، لذلك سوف يخيب فأل مناشديك، كما خاب فألهم في حكومتك من قبل، وقد كانوا من المقربين إليها، بل من المتنفذين فيها، وأنت خيبة تمشي على قدمين، سوف تخذلهم بطبيعة تكوينك النفسي والعقلي. فأنتم جميعاً ينطبق عليكم المثل القائل (أولاد أم خير، خيارهم خير، والخلا أخير من خير) ولتفهم معنى كلمة “خلا” في القاموس السوداني، إليك مثل آخر يقول (الخلا ولا الرفيق الفسل). والنساء عندما يطرق أسماعهن شئ بغيض يقلن (أديته الخلا). فأنت الخلا أو الخلاء في الفصحى “الفراغ المجهول”، ولكن مدلولها في العامية أعمق، “الشئ الكعب”.
عثمان محمود <[email protected]