
د. صلاح إبراهيم
الفنان أحمد الجابري – جبر خواطر شعب
مهداة للبروفسير / الجيلاني علي الأمين العربي
(Live for yourself, you will live in vain. Live for others, you will live again)
فِي صَيْف العَام 1983م، أقِمْتُ مع صَدِيقي العَزِيز الرَّاحل بَشَّار الكُتُبي1 – طَيَّب الله ثَرَاه. سَبَقنِي إلى السَّكَنِ مع بَشَّار، صَدِيَقنا المُناضِل مُحَمَّد سَعِيد بَازَرْعة. إبْنِ أخ الشَّاعِر حِسِين بَازَرْعة، مُبْدِع أهمَّ رَوائِع الفَنَّان الخَالِد عُثْمان حِسِين. يَقَعُ منْزِل بَشَّار في الطَّرَف الشَّرْقِي مِن مَدينَة الثَّورة. يَفْصِلُه مِن غَرْبِها شَارِعُ النُّص، جِوَار سُوق الحَارَة الخَامِسَة في عَاصِمَةِ المَهْديَّة أُمْ دُرْمَان. لَمْ يَكُن يَفْصِلُنَا عَن منْزِل الفَنَّان أحْمَد الجَّابْرِي2 سِوَى شَارِعٌ واحِد، غربًا، في الثَّورة الحَارة الرَّابِعَة .
مَثَّلَ مَنْزِلُ بَشَّار، في ذلِك الزَّمَان، مُلْتَقىً يَوْميَّا لِنُخَب أُمْ دُرْمَان مِن المُثقَّفِين وأَهْل الفَن بِكُلِّ ضُرُوبِه. ذلِك لأنَّ بَشَّار نَفْسُه كَان نَاقِدًا أدَبيًّا بَارِعًا. يَمْتَلِكُ مَكْتَبةً تَحْوِي العَدِيدَ مِن الإصْدَارَاتِ الحَدِيثَة والمُعَاصِرَة مِن مُخْتَلفِ حُقُولِ المَعْرِفَة. وبَازَرْعَة، هُو الآخَر، كَاتِبٌ عَمِيق التَّحْلِيلِ لِلظَّوَاهِر. ولَهُ مُؤَلَّفَاتٍ تُوثِّقُ سِيرَتُه النِّضَاليَّة .
كَان المُلْتَقَى عَلَى غِرَارِ صَالُون (مَيْ زِيادَة)3 أو صَالُون السَّيِّدة (فَوْز)4 الَّذِي كان يَؤُمُّهُ ثُوَّار حَرَكَة اللِّوَاء الأبْيَض مِن الأُدَبَاءِ والمُنَاضِلِين. أمْثَال خَلِيل فَرَح ورِفَاقِه. هُنا تَحْضُرُني بَعْضُ الأسْمَاء لِمُرْتَادِي ذلِك المُلْتَقَى كالْأسَاتِذَة مُصْطفَى سَنَد، عُمَر الطَّيِّب الدُّوش، سَعَدَ الدِّين إبْراهِيم، سَامِي سَالِم، عَبْدالله مُحَمَّد الطَّيِّب، مَجْذُوب عَيْدَرُوس، عَبْدُالله مُحَمَّد إبْراهِيم ونَاشِئَةُ الأُدَبَاءِ آنَذَاك، أحْمَد الطَّيِّب عَبْدُالمُكَرَّم وعَادِل القَصَّاص .
كُلُّ جَلْسَةٍ مِن جَلْسَاتِ المُلْتَقَى، كَان يُخَصَّص لَها مِلَفٌ يَتَنَاوَلُ مُنَاقَشَةّ أحَدِ مَوْضُوعَات وقَضَايا الفَن والأدَب. وقَدْ يَمْتَدُّ نِقَاشُ مِلَفٍ واحِدٍ لِعِدَّةِ أيَّام. كَمِلَفِّ القِصَّةِ القَصِيرَة الفِرِنْسِيَّة الَّذِي تمَّت فِيهِ مُناقَشَةُ تَجْرِبَةِ وأعْمَال القَاصَّة الفِرِنْسِيَّة (نَاتَالِي سَارُوت – Natalie Sarraute 1900 – 1999)5. تَتْرى الِملفَّات وتَتَدَحْرَج الأيَّام قُدُمًا والكُلُّ سَعِيد.
ذَاتَ أصِيل، كُنْتُ عَاكِفًا مُنْكَبًّا عَلَى الرَّسْم، زَارَنِي أحَدُهُم وعَلِمْتُ مِنْهُ أنَّ الجَّابْرِي يُعَانِي مِن وعْكَة طَفِيفَة. قَدَّرْتُ أنَّها سَانِحَة لِزِيَارَتِه مَع أُمْنَيَات صَادِقَة لَهُ بِعَاجِلِ الشِّفَاء، ومِن ثَمَّ التَّعرُّف إلَيْهِ عَن قُرْب. لَا غَرْوَ وهُوَ أحَدُ أعْلَام زَمَانِه في حَقْلِ الطَّرَب. إضَافَة إلى أنَّنِي كَنْتُ شَدِيد الإهْتِمَام بِأَعْمَالِهِ الآسِرَة.
فِي صَبِيحَةِ اليَوْمِ التَّالِي، فَرَغْتُ لِتَوِّى مِن لَوْحَةٍ تُعَبِّرُ عَن مَشْهَدٍ لِفَتَاةٍ مُتَّكِئةٍ عَلَى سَرِيرٍ وثِير، مُخَضَّبَةٍ بِالحِنَّاءِ عَلَى قَدَمَيْهَا ويَدَيْهَا وهْيَ تَحْتَضِنُ (دَلُّوكَة)6 تَضْرِبُ عَلَيْها ويَشِعُّ مِن مَلَامِحِهَا السُّرُور. وكَانَتِ الفَتَاةُ تَسْتلْقِى فِي العَتْمَة. سِوَى أنَّ يَدَيْهَا وقَدَمَيْهَا المُخَضَّبتَانِ والدَّلُّوكَة، يَغْشَاهُم ضَوْءٌ مَّا مِن كُوَّةٍ عَلَى الجِدَار. فِي مُقَدِّمَةِ المَشْهَد، ثَمَّةَ عُصْفُورٍ صَغِير مِن جِنْسِ الزَّرَازِير مُتَعَدِّدِ الألْوَان، خِلْتُ حِينَها أنَّ الفَتَاةَ تُوَقِّعُ لَهُ لِيُمْعِنَ فِي التَّغْرِيدْ.
كُنْتُ مَعْنِيًّا في هذِه اللَّوْحَة بِإظْهارِ الأثَر الَّذِي يَتْرُكُه نَقْرُ أنَامِلِ الفَتَاة عَلَى الصُّوف الَّذِي يُحِيطُ بِحَوَافِّ الجِّلْد الَّذِي يَكْسُو مُقَدِّمَة الدَّلُّوكَة. إرْتَأيْتُ أنْ آخُذَ مَعِي هذِه اللَّوْحة فِي زِيَارَتِي للجَّابْري عَلَّها، فِي تَقْدِيرِي سَاعَتَها، رُبَّمَا تُعَبِّرُ عَن أجْوَاءِ الغِنَاءِ والطَّرَب. فَضْلًا عَن إنَّها قَد تُقَدِّمْنِي لَهُ كَمُشْتَغِلٍ بِالفَن، إلى جَانِبِ مَعْرِفَةِ رَأْيِه في عَمَلِي.
كُتِبَ عَلَي أعْلَى بَابِ المَنْزِل بِخَطِّ النَّسْخِ العَرِيض (مَنْزِل أحْمَد الجَّابْرِي). مَا لَفَت إنْتِبَاهِي، أنَّهُ لَمْ تُكْتَب عِبَارَةُ الفَنَّان قَبْل الإسْم، رُبَّمَا تَوَاضُعًا . طَرَقْتُ البَاب، ولِحُسْنِ حَظِّي، فَتَح الجَّابْرِي البَابَ بِنَفْسِه مُرَحِّبًا بِبَشَاشَة ودَعَانِي لِلدُّخُولِ إلى غُرْفَةٍ قُرْب مَدْخَل المَنْزِل. أذْكُرُ أنَّ بِها سَرِيرًا واحِدًا ودُولابًا لِلمَلابِس عَلَى سَطْحِهِ (عُودَيْن)7 لِلْغِنَاء. إعْتَادَ الجُّلُوسَ وحِيدًا عَلَى ذلِك السَّرِير مَع (عُود) ثالِث يُرَاجِعُ عَلَيْهِ تَآلِيفُه المُوسِيقِيَّة الثَّرَّة.
جَلَسْتُ بِجَانِبِه عَلَى السَّرِير بَعْد أنْ أسْنَدْتُّ اللُّوحَة عَلَى الجِّدَار. أرْضِيَّة الغُرْفَة مَفْرُوشَة بِالرَّمْل الأحْمَر المَبْلُول لِلتَّوْ. تَأمَّل اللَّوْحَة مَلِيًّا، فَرِحَ كَمَا الأطْفَال واسْتَأْذَنَنِي ودَلَفَ إلى دَاخِلِ المَنْزِل وأتَى مُسْرِعًا يَحْمِلُ رَسْمَةً تَحْوِي مَشْهَدَ نَخْلٍ عَلَى شَاطِئَيْ نَهْر. وتَبْدُو خَلْف النَّهْر هِضَابٌ تَعْلُوهَا شَمْسٌ مُشْرِقَة.
قَالَ لي بَاسِمًا، ومَا فَتِئَ يَخْتلِسُ النَّظَر إلى لَوْحَتِي، لَقَد رَسَمْتُ هذِه اللَّوْحَة في العَام 1958م ولَمْ أُوَاصِل بَعْدَها واتَّجَهْتُ مُرَكِّزًا صَوْبَ الغِنَاء. فَقُلْتُ في دَخِيلَتِي الحَمْدُ لله، وإلَّا لَمَا كُنَّا حُظِينَا بِهَذِه القَلَائِد والدُّرَر مِن الأعْمَالِ والعَلامَات الغِنَائِيَّة الفَخِيمَة .
جَلَسَ وأمْسَكَ بِالعُود في حُنُوٍ والإبْتِسَامَةُ الجَزْلَي لَمْ تَكَد تُغَادِر شَفَتَيْه وقَال: (نَظِير مُشَاهَدَة لَوْحَتَك هَذِى، سَوْفَ أُغَنِّي لَكَ أُغْنِيَتًيْن، واحْدَة لِي لَمْ تُبَثْ مِن إذَاعَةِ أُمْ دُرْمَان مُنْذُ عَشْرِ سَنَوَات فِيمَا أظُن. والأُخْرى لِفَنَّان عِمْلَاق أكِنُّ لَهُ الكَثِير مِن الإحْتِرَام، وهُو الأُسْتَاذ حَسَن عَطِيَّة. ولَكِنِّنِي أُؤَدِّيهَا فِي “مَقَامْ” مُخْتَلِف). غَنَّى مِن أعْمَالِه رَائِعَتِه الجَمِيلَة بِحَق (آخِر الجَّزَاء) ثُمَّ قَفَاهَا بِأُغْنِيَة (سَألْتُو عَن فُؤَادِي) لِحَسَن عَطِيَّة. لَقَد كَان الأمْرُ كُلُّهُ كَرَمًا دَفَّاقًا لَكَمْ تَمَنَّيْتُ حِيَنهَا، مِن فَرْطِ الطَّرَب، لَو امْتَلَكْتُ أدَاةً لِلتَسْجِيل لَوَثَّقْتُ واحِدةً مِن أرْوَعِ اللَّحْظَاتِ في حَيَاتِي.
شَكَرْتُه مُتَأثِّرًا حَدَّ البُكَاء تَحْت ظِلالِ السَّعَادَةِ والسُّرُور الجَّيَّاشْ.
بَعَد بُرْهَةٍ أمْسَكْتُ بِالْعُودِ وأصْدَرْتُ بَعْض الأصْوات صُعُودًا وهُبُوطًا عَلَى الأوْتَار. تَنَاوَل مِنِّي العُود وأعَاد تِلْك الأصْوات عَلَى نَحْوٍ مُمَوْسَق واسْتَطْرَد قَائلًا، أنَّ المُوسِيقَى إيقَاع وزَمَن لَيْس غَيْر.
لَطَالمَا كُنْتُ مَسْحُورًا بِتُحْفَتِه الغِنَائِيَّة (هُوجِ الرِّيَاح). وهِي، في تَقْدِيرِي، واحِدَة مِن رُمُوز الفَن في القَرْن العِشْرِين. سَألْتُه كَيْفَ يَجْتَرِحُ تِلْك الألْحَان الرَّائِعَة؟ أجَابَنِي بِأنَّهُ يَمْتَلِكُ شِقَّةً في قَاهِرةِ المُعِز. بِهَا كُلْ أسْبَاب الرَّاحَة والهُدُوء. يَنْتَقِي بَعْض النُّصُوص الغِنَائِيَّة مِن أصْدِقَائِه الشُّعَرَاء أمْثَال الصَّادِق إلْيَاس وآخَرِين، ويَتَوجَّهُ بِهَا إلَى شِقَّتِه في القَاهِرَة. وعَلَى مَدَى ثَلاثَةَ أشْهُر، يَسْتَمْتِعُ فِيهَا بِالإسْتِمَاعِ إلَى أسَاطِينِ الطَّرَب فِي تِلْك الأنْحَاء. مِثْل فَرِيد الأطْرَش، عَبْدُالحَلِيم حَافِظ، فَائِزة أحْمَد، مُحَمَّد عَبْدُالوَهَّاب، أُمْ كَلْثُوم، فَيْرُوز وودِيع الصَّافِي. يَكُونُ قَد فَرَغ مِن حِفْظِ النُّصُوص ووضْع الألْحَان الَّتِي تُنَاسِبُها ويَقْفِلُ عَائِدًا إلَى الخُرْطُوم، وفِي جُعْبَتِهِ العَدِيد مِن الخَرَائِد والكُنُوز الَّتِي مَا تَنْفكُّ تُثْرِي وُجْدَان أقْوَامِ السُّودَان وتُنِيرُ تِلْك الظُلْمَةِ الَّتِي لَمْ تَزَل تُخَيِّمُ وتَجْثُمُ عَلَى هَذا الوَطَن الجَّرِيح مُنْذُ آمَادٍ مُسْتَطِيلَة.
وَدَّعْتُه شَاكِرًا مُتَأثِّرًا مَذْهُولًا مِن فَيْضِ كُلِّ تِلْك المَشَاعِرِ واللَّحْظَاتِ المَاتِعَة الَّتِي سَاهَمَت سَاعَتَها، وحَتَّى الآن، في تَعْزِيزِ سَعْيِي نَحْو تَقْدِير الجَمَال. فَضْلًا عَن تَذَوُّقِهِ والإجْتِهَاد في إنْتَاجِهِ قَوْلًا وفِعْلًا. (إنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالا).
يَظَلُّ أحْمَد الجَّابْرِي عَلَي مَرِّ الأيَّام، عَلَاَمَةً فَارِقَة في ذَاكِرَة الوَطَن ضِمْن حَقْلِ الغِنَاءِ والتَّأْلِيفِ المُوسِيقِي وتَضْمِيدِ جِرَاحَاتِ الأرْوَاح وتَكْرِيسِ وتَوْطِين الأفْرَاح .
الفاشر ديسمبر 2022م
[email protected]