مقالات وآراء
تأملات في قصة ” متعة كاهن ” للكاتب الإنجليزي ” روالد دال”

مهدي يوسف إبراهيم
تبدأ القصة ببطلها مستر “بوغيس” وهو يتأملُ جمال الريف الإنجليزي: ” كم هو جميل منظر الريف.. وكم هو ممتع رؤية علامات عودة فصل الصيف من حولك, وانفجار الزعرور البري بألوانه البيضاء و الوردية و الحمراء على طول التحويطات و الأسيجة الممتدة على الطريق”
(1)
هذا الجمالُ الذي – كما سنكتشفُ لاحقاً – لا يصُل إلى كوامن ذات مستر “بوغيس” … يحضرُ “مستر بوغيس” إلى بيوت الفقراء في الريف: ” ومن هناك رصد ستة مواقع أخرى: خمس مزارع ومنزلاً أبيض كبير من الطراز الجورجي, بدا المنزل نظيفًا و ثريًا وهو يتأمله بمنظاره, وظهرت حديقته مرتبة بصورة جيدة, من المؤسف استبعاد هكذا منزل من خططه, إذ لا فائدة ترجى من مثل هذه البيوت الثرية ”(2)
مستر “بوغيس” هو تاجر أنتيكات يمتلكُ متجره الخاص و صالة عرض في لندن …و هو يأتي الي الريف متنكراً في زي رجل دين – كاهن : ” و بغض النظر عن حقيقة أن مستر بوغيس كان في تلك اللحظة متنكرًا في زي رجل دين, فليس هناك ما يوحي بأنه رجلٌ شرير, وهو يعملُ تاجر أثاث عتيق و أنتيكات وله متجرُه الخاص و صالة عرضٍ في كينغز رود في تشيلسي [ في لندن].و في الحقيقة, لا يعتبر متجره كبيراً وهو في واقع الأمر لا يحقق أرباحاً طائلة من عمله, و لكن باعتباره يشتري دائما بأبخس الأثمان و يبيع بأغلاها فهذا يجعله يحقق دخلا سنويا مقبولاً ”(3)
و يصف الكاتب شخصية مستر “بوغيس” بدقة قائلاً: ” بائعاً موهوباً لا يشقُ له غبار, فأية قطعة أثاث تقع بين يديه, سرعان ما تنزلق بسلاسة ملفتة لتناسب مزاج الزبون سواء كان بائعا أم مشتريا, لكنه-والحق يقال-يصبح أكثر سحرا و شراسة مع الزبائن كبار السن الذين تظهر عليهم سمات الغنى و الثراء, فيبدو صبوراً على المتدينين منهم و بارعاً مع الضعفاء ,مؤذٍ مع الأرامل و متسق مع العوانس ” (4) و هو يجد متعةً روحيةً غريبةً في استغلال الزبائن : ” و بالكاد كان يستطيع منع نفسه من التنحي جانبا كما لو أنه ممثل مسرحي ينحني لمرة أو اثنتين على خشبة المسرح إثر انطلاق موجة تصفيق حارة من الجمهور”(5)
و هو يجلبُ إلى متجره القطع النادرة بصورةٍ أسبوعيةٍ منتظمةٍ: ” وكلما سئل عن مصدر سلعه و من أين يحصل عليها, كان يكتفي بالابتسام بذكاءٍ و فطنة و يغمزُ بإحدى عينية و يهمهم بكلامٍ غير مفهومٍ عن سرٍ صغيرٍ يملكه و لا يمكنه البوح به ”(6)
“و بطبيعة الحال تمكن من أن يحصل عليهما ودفع ما يعادل أقل بعشرين ضعف من قيمتهما الحقيقية ”
(7)….
( نحن إذن أمام رجل لا يتورّع عن استغلال البسطاء حتى و هو قادمٌ من زيارة أمه ) و في أثناء عودته جال بذهنه خاطرٌ مهم: ” إذا كان هذان الكرسيان يقبعان في مزرعة متواضعة هنا, فلم لا يكون ما يشبهُهما في بقية البيوت المنشرة هنا و هناك؟ لم لا يبحثُ بنفسه عنها؟ لم لا يقومُ بتمشيط الريف بيتاً بيتاً بحثاً عن الأنتيكات القديمة؟ يمكنُه القيام بذلك أيام الأحد, بحيث لا يؤثر نشاطه هذا على العمل في المتجر, أصلاً هو لم يكن يدري كيف يمضي يوم الأحد.”( 8)
قرّر “مستر بوغيس” أن يتنكر حتى لا يعرف الريفيون عمله الأصلي : “, يمكنه أن يتنكر بزي عامل هاتف أو سبّاك أو مراقب عداد الغاز, يمكن أن يكون أيضا حتى رجل دين, لم لا؟ ”
(9)
و كانت خطته غاية في البساطة و الإحكام: ” فقام بطبع كمية معتبرة من البطاقات الشخصية كتب عليها” المحترم سيريل وينينغتون بوغيس, رئيس جمعية الحفاظ على الأثاث الفيكتوري النادر في متحف ألبرت”, ومنذ ذلك الحين, صار مستر بوغيس يتحولً كل أحدٍ إلى كاهنٍ عجوزٍ لطيفٍ يقضي عطلته في التجوال يجرد الكنوز المخبأة في المنازل الريفية الإنجليزية بحكم شغفه بـ “الجمعية”,(10)
و لأن التدين سمة فطرية في الأرياف : ” فقد كان الناس في الواقع يستقبلونه بحفاوة كلما انتقل من منزل لآخر على امتداد الريف المحيط بلندن”(11)
بل كان بعض الريفيين يدعونه لتناول فطيرة وكأس شاي أو سلة من الخوخ وربما وصل الأمر إلى دعوةٍ على العشاء والجلوس مع الأسرة.. يعودُ بنا الكاتبُ إلى اللحظة الراهنة حيث يتجولُ مستر ” بوغيس ” في يوم أحد في مقاطعة “باكينغهامشير” على بعد حوالي عشرة أميال عن “أوكسفورد” …و كعادته أوقف سيارته و تابع طريقه مشياً : ” فهو لا يحبذ أن يرى الناس رجل دينٍ وقورٍ يقودُ سيارةً مقطورةً, لا يبدو ذلك مناسباً , بالإضافة إلى أن هذا يمنحُه بعض الوقت لتفحص الممتلكات من الخارج عن كثبٍ و التكهن بالمزاج الأكثر احتمالا لمثل هذه المناسبات”(12) …
يصف لنا الكاتبُ شكل مستر “بوغيس” وقتها بقوله : “وبدا رجلاً بسحنةٍ هادئة وأرجل منتفخة و بطنه بارزة أمامه و وجهٍ مستدير و متورد. كانت عيناه البنيتان بارزتين من وجهه الوردي و تعطيان انطباعا لطيفا بالبلاهة, كان يرتدي بدلة سوداء و يضع حول رقبته الطوق المعتاد للتدليل على مرتبته الدينية ككاهن و يعتمر قبعة سوداء لطيفة و يهز بيده عصاة مشي قديمة من خشب البلوط تضفي عليه-باعتقاده- مظهرا بسيطاً و مرحاً ”( 13)
يتحدثُ مستر ” بوغيس ” مع سيدة عملاقة شارحاً لها أهداف جمعية الحفاظ على الأثاث النادر ..هنا يشيرً الكاتب إلى أن “مستر بوغيس” لا يستغل الدين فقط للوصول إلى مآربه ..و لكنه يستغل السياسة أيضاً …فالسيدة العملاقة تبدي امتعاضها خشية أن يكون للأمر علاقة بالحزب الاشتراكي …و لذا عمد هو إلى كيل المدح للجناح اليميني المتطرف في حزب المحافظين …تابع ” بوغيس ” سيره إلى منزل مجاور و طرق الباب فلم يفتح له أحد : ” خمّن أنهم يجب أن يكونوا في الكنيسة في مثل هذا الوقت, فاغتنم الفرصة و بدأ في النظر عبر النوافذ ليرى إن كان ثمة ما يثير اهتمامه ”(14)
يدورُ المشهدُ الختامي للقصة في مزرعة مجاورة ….هناك رأي مستر “بوغيس” ثلاثة رجال يقفون في فناء البيت …هم مستر “رومينز” صاحب المزرعة و ابنه “روبرت” و جارهما “كلود” …و قد جاء الأخير لينال نصيبه من الخنزير الذي قتله مستر “رومينز” بالأمس دون تصريح …نظر ثلاثتهم إلى مستر “بوغيس” بريبة و ظنوا أنه : ” مبعوث أتى ليحشر أنفه في شؤونهم و يقدم تقريره للحكومة”(15)
لكن الرجل حاول تهدئة روعهم ..و ذلك بالحديث عن رياضة الكلاب …ثم حاول أن يقنع مستر “رومنز” إن كان لديه أثاث للبيع لكن الأخير أجاب بالنفي …حينها بادره “مستر بوغيس ” قائلاَ: “أذكر أن هكذا أجابني ذات مرة مزارعٌ عجوزٌ من ساسكس, ولكن هل تعلم ماذا وجدتُ عندما دخلتُ منزله؟ لن تصدق… كرسياً قديم المظهر ملقى في زاوية المطبخ, اتضح فيما بعد أن قيمته تتعدّى أربعمئة جنيه, وعرضت عليه بيعه, ثم أتعلم ماذا؟ لقد اشترى لنفسه جراراً جديداً بثمنه”(16)
بعد دقائق من الجدال سمح مستر “رومينز” لمستر “بوغيس” بالدخول إلى غرفة المعيشة ..و هناك عثُر على ما جعله يصيحُ من فرط الدهشة : ” هناك قرب الجدار كانت تجثم طاولة مطلية باللون الأبيض” (17)
و حتى لا يشك فيه الرجال فقد تظاهر بأن قلبه يؤلمه و جلس على مقعد و طلب كوباً من الماء ..و خاطب نفسه قائلاً: ” قد يبدو هؤلاء الرجال جهلة, لكنهم ليسوا أغبياء, إنهم من النوع الحذر كثير الارتياب و الخوف”(18)
عثر الرجلُ إذن على القطعة الرابعة المفقودة من القطع المعروفة باسم قصريات ” تشيبندال” ..و عرف أنها ستساوي على الأقل عشرين ألف جنيه إسترليني ..و كعادته حاول مستر ” بوغيس ” أن يقلل من شأنها …و ذكر لمستر “رومينز” أنه يريد شراءها فقط لأنها يحتاجُ إلى أقدامها : ” و تصادف أيضا عند انتقالي إلى منزلي الجديد أن أتلف أحد الحمقى الذين كانوا ينقلون العفش أرجل تلك الطاولة بطريقة قبيحة للغاية, و لا أخفيك أني كنت مغرماً جداً بها فلطالما كنت أستخدمها لأضع كتابي المقدس عليها و ملاحظاتي عن عظة الأحد”(19)
هكذا كانت هي خطته ..خداع الرجل بأنه يريد نشر أرجل الطاولة الأُثيرة النادرة – دون أن يشير إلى أنها أثرية بالطبع – و تركيب الأرجل في طاولته المزعومة …و في خاتمة الأمر أقنع المزارع المسكين ببيعها بمبلغ عشرين جنيهاً فقط … بعد نهاية المساومة ..استأذن “بوغيس” الرجال ليحضر سيارته ..و يشير الكاتبُ إلى فرحة الرجل العارمة و تقييمه لكل شيء من منظور مالي بحت بقوله : “تحولت كل الفراشات في الحقل فجأة إلى قطع نقدية ذهبية تلمع في ضوء الشمس ، فابتعد عن الممر وخطا نحو العشب حتى يتمكن من السير بين تلك القطع الذهبية و دوسها بقدميه وسماع الرنين المعدني الصغير كما لو أنه يركلها بأصابع قدميه ”(20) …
و لكن وراءه حدثت المأساة …إذ خشى “كلود” أن يتنصل الكاهن المزعوم من شراء الطاولة و يتراجع عن الصفقة …و لذلك اقترح على مستر ” رومينز” نشر الأرجل من الطاولة …ثم تقطعيها بالفأس لكي يسهل نقلها بسيارة الكاهن – بحكم معرفتهم أن الكهنة لا يقودون سيارات كبيرة الحجم … و بالفعل تم نشر الأرجل و تقطيعها إلى أجزاء صغيرة …ليدفع مستر “بوغيس” ثمن كذبه و استغلاله و جشعه … يقدّم الكاتب نهاية مفتوحة للقصة بقوله ” وعندها صرخ رومينز” ها قد انتهينا في الوقت المناسب ..ها هو قادم من بعيد” و لابد من الإشارة إلى عبقرية الكاتب في ايراد عنوان القصة بصيغة التنكير ” متعة كاهن ” ..ليوصل إلينا رسالة أن استغلال البسطاء باسم الدين و السياسة أمر شائع في كل حقب التاريخ و في كل اصقاع الكون …. القصة عظيمة و تستحق القراءة و التأمل بحق !! …. جدة 4/10/2023
الاستغلال يحدث حتى لابنك الذي تلده فتامره ان يفعل ما تريد احضر لي كوب ماء احضر لي معلقة من المطبخ وغيره
الحياة مشاركة والقصة جميلة لكنها مكررة
ببساطة كان يمكن ان تكتب من حفر حفرة لاخيه وقع فيه
أهلا أخي مانجلوك
و شكراً على مرورك الكريم يا رجل …و فعلاً القصة تقول في النهاية كما تكرمت أنت ” من حفر حفرة لأخيه وقع فيها “….لكني لا اتفق معك في أنه كان يمكنني الاكتفاء بقول ذلك فقط ….فالكاتبُ هنا يحدّدُ شكل استغلال الدين تحديدًا في الوصول للمآرب …كما أن النقد الأدبي – كما تعلم يا صديقي – لا يقفز إلى الخلاصات مباشرة و إنما يقود القارئ إليها سوقاً متبعاً أسس و قواعد و ضوابط يجب اتباعها و من أهمها تعزيز القراءة بشواهد من النص نفسه ….
تحياتي و تقديري لك
قراءة ماتعة …
شكرأ مهدي يوسف إبراهيم …..