الهوس والنصائح

تلقيت منذ فترة بسيطة، وبالتحديد بعد يوم واحد من إعلان نتائج مسابقة كتارا للرواية العربية، في قطر، وفوز عدد من الشباب الموهوبين خاصة في فئة الرواية غير المنشورة، بجوائز قيمة، وفرص عظيمة للانتشار داخليا وخارجيا عن طريق الترجمات المختلفة، في تلك الجائزة التي ولدت كبيرة بلا شك، وأيضا مضيئة بشدة؛ تلقيت أكثر من خمس رسائل، كلها من أشخاص لا أعرفهم ولا علاقة لهم بالحقل الثقافي الذي أعمل فيه من زمن طويل، وبينهم فتاتان، تعمل إحداهما مصممة ديكور في شركة صغيرة، والأخرى ممرضة في مستشفى حكومي، بينما الشبان الثلاثة، لم يذكروا إن كانوا يعملون أم لا؟
كانت الرسائل قصيرة ومقتضبة ومليئة بالأخطاء، لكنها جميعا اتفقت على أسئلة محددة، تكررت في كل الرسائل، وإن كانت بصيغ مختلفة:
ما هي الشروط التي يجب توفرها فينا، حتى نفوز بجائزة كبرى مثل جائزة كتارا للرواية العربية؟
كيف نكتب رواية جيدة تحقق الفوز؟
ما هي نصائحك لنا؟ وكيف تأتي الأفكار العظيمة، التي تصنع نصوصا، تكسب الجوائز؟
وكان ثمة سؤال واحد، ذكرته الممرضة، ويبدو أنها استوحته من عملها. كانت تسأل عن تقييمي لفكرة قصة، تدور بين مريض في العناية المركزة، مصاب بعدة جلطات في المخ، تجعله يستجيب بتحريك عينيه فقط، وبين ممرضة تشرف عليه، وأحبته بجنون. كانت تسأل عن كيفية ملء هذه الفكرة، وتحويلها لرواية.
من هذه الأسئلة التي أوردتها، وكتبت بصيغة أو بأخرى كما ذكرت، يتضح لنا جليا، ذلك الطموح المختل للحصول على كسب ما، بأي طريقة، والذي بات مسيطرا على الناس، في زمن اتسعت فيه رقعة الظلم بدرجة كبيرة، وسيطر ضيق العيش على حياة الناس، ولم يعد ثمة مكان إلا وتفور بداخله صراعات، وحروب، وفتن، ويسيطر إصرار غريب على كل من يقاتل خصما ربما ليس خصما حقيقيا، أن ينتصر بسحقه.
في الماضي، وحتى عهد قريب، كانت البلاد العربية في معظمها، على فقرها وقلة مواردها، وحيلها، تنعم باستقرار كبير. كانت ثمة وظائف يستيقظ الآباء من أجلها باكرا، يذهبون إليها، يملأونها أو يقصرون في ملئها، لا يهم، لكن يعودون في آخر الشهر بما يمنح العائلة خبزا وطعاما، وحياة تمضي رغم كل شيء. كانت ثمة مدارس، تستأصل الجهل بجدية كبيرة، ومجتمعات جيدة التأسيس، وعريقة في التواصل وقاسية في تدريسها للأفراد، تعلم النبل، ومحبة الجار، وإكرام الضيف، والسعي في عمل الخير، في أي وقت. وأذكر في تجربتنا في السودان، تلك الخصال الطيبة، التي مجدتها الأغنيات الشعبية المتوارثة، حين كان الجار أبا فعليا لكل أبناء جيرانه، في الحي الذي يسكنه، الأم الجارة، أما أيضا للجميع، والصوت الغاضب الذي يصيح به أب على ابن ارتكب ذنبا في أحد البيوت، هو الصوت نفسه الذي سيسمعه ابن الجيران المخطئ، ويرتدع. أيضا كان المعلم في أي مرحلة من مراحل التعليم، رمزا حيا، للعصا كاملة الصلاحيات، التي تهش التصرفات غير المرغوب فيها، والأداة الجيدة التي تلتقط التصرفات المطلوبة، توزعها للتلاميذ. ومن تلك التصرفات الجيدة بلا شك، كان حب المعرفة، والتطلع للمستقبل بعقل ممتلئ، وعينين مفتوحتين، تدركان العتمة، وتضيئانها، وفي النهاية، صناعة حيوات مستقبلية كاملة، من دون الحاجة إلى انتظار المستقبل لمواجهته أولا، ثم التصدي لصعوباته.
إذن كان كل مكسب، مهما كان بسيطا، هو مكسب حقيقي، مكسب عن مجهود ودراية، وليس عن تطلع أحمق، ومجاراة للسائد. كان هناك بالطبع من يكتب الشعر، من يكتب القصة، وقليلون جدا كانوا يكتبون الرواية، وكل هؤلاء كانوا كتابا لم يجلسوا على طاولات الكتابة، إلا بعد أن قرأوا آلاف العناوين، وفي الأدب والدين والتاريخ، وتعلموا الحكمة من تل الكتب، وبعد أن تأكد لهم تماما، إنهم ممتلئون بجرثومة الكتابة، وقد يموتون إن لم يكتبوا. ولا أعتقد أن كتاب الجيل الذي عاصر التقاليد الملهمة، طارد الأفكار، وعجز عن ملئها، وراسل أحدهم يسأله، كيف يملأ فكرة بالسرد؟ كانت الأسئلة في ذلك الوقت، مجرد ملاحظات، من كتاب متمكنين، يلتقي بهم الكاتب المبتدئ في مقهى، أو قاعة نشاط أدبي، وتأتي تلك الملاحظات، بعد كتابة النص، وتحريره من الأخطاء، وطباعته بالآلة الكاتبة، أو نسخه بخط جيد، مثل: ضرورة بتعديل تقنية ما، أو حذف ثرثرة لا داعي لها وردت في النص، أو زيادة إيضاح فقرة غامضة. ونتيجة لذلك الزخم العظيم، وتحمل كل طرف في الحياة، مسؤولياته كاملة، كان كل شيء يمضي منتظما، ومتقبلا، الخير يأتي ويتم تقبله بوعي، والشر يأتي بالطبع أيضا، ويتم تقبله، وفي مجال الكتابة، الذي أتعرض له الآن، كان معظم من كتبوا، أجادوا استخدام أدوات الحياة، وحتى الذين كتبوا قصصا واقعية، أو رومانسية، كانوا يجيدون استخدام الأدوات التي اختاروها، لبناء إبداعهم بها.
بالنسبة للجوائز، فقد كانت موجودة، بحسب الأعراف التي تفصل الجوائز في كل زمان. نعم كانت ثمة جوائز كبرى، هي الجوائز المعنوية، ذلك ببساطة أن الزمن المعنوي كان يصنع جائزة معنوية، يمنحها أيضا لمن يستحق، ويتقبلها الذي منحت له، بنفس الأحضان التي يتقبل بها، من يعيش في هذا الزمن، جائزة كبرى منحت له من أجل نص أنجزه. ودائما ما أذكر قصيدتي الأولى التي كتبتها بالعامية، وكنت طالبا في الصف الأول الإعدادي، وقارئا لكل ما أحصل عليه من كتب، في شتى أنواع المعرفة، وكنا نعيش في مدينة الأبيض، في غرب السودان. قصيدة اسمها «خيانة الدمعة».
لقد نسخت بالآلة الكاتبة عشرات النسخ من تلك القصيدة، طفت بها على جميع الأصدقاء الذين تعرفهم العائلة، وعلى زملائي في المدرسة، والمعلمين، وحصدت جائزة كبرى، كانت عبارة عن إيقافي أمام التلاميذ، في طابور المدرسة الصباحي، وأوامر من مدير المدرسة، بالتصفيق الحاد، لطالب كتب قصيدة. إنها جائزة منعتني من النوم ثلاثة أيام كاملة، وحفزتني بشدة على كتابة قصائد أخرى غير «خيانة الدمعة» ثم ليأتي عهد كتابة الروايات بخيره وشره وجوائزه وخساراته. وبهذه المعطيات نفسها، وأعني بها الجائزة المعنوية، تم تكريم زميل طالب، في المدرسة نفسها، اسمه عبد الله، كان عازف كمان مدهشا، وعظيما.
كيف إذن تملأ فكرة عن مريض معطل الحواس بلا وسامة، ولا أمل في النهوض من جديد، تعشقه ممرضة شابة في مستشفى حكومي؟ كيف تملأ فكرة عن مصممة ديكور، تقوم بعمل الديكورات الداخلية لحظيرة مواش، يسكنها قطيع من الأغنام؟ كيف تكتب رواية تستقطب جائزة كبرى، بقلم كاتب لم يقرأ كتابا في حياته، ولم يكتب إلا بعد أن سمع عن جوائز الكتابة التي ظهرت مؤخرا؟ وكيف نواجه هذا الزمن بمحاولة كسب حقيقي، وليس محاولات الكسب من أنشطة لا نجيدها، ويجيدها آخرون؟
إنها معضلة حقيقية، ولست مؤهلا لمنح النصائح، وحتى لو منحتها، فليس هناك من سيستمع لنصيحتي، الكل يركض بحسب قوانين هذا الزمان.

كاتب سوداني

أمير تاج السر

تعليق واحد

  1. مبروووووووووووووووووووووووووووووووك جائزة كتارا منعنا المرض وكثرة العلل من المرافقه اصبحنا علي عهدنا القديم نقرأ كما تعودنا كما تقول من زمن لا ياتي مرة اخري ابدا كل الذي تقوله كان بالسودان اذكر ان والدي المعلم اعطاني موضوع انشاء عن السنة السابقة لي للدخول للثانوي وامرني ان اكتبه بزمنه ذاك وان اضع القلم في حدود الزمن وان التصحيح سيكون بمقياس الامتحان لكل السودان لا ابوية فيه خاصه وحين انتهيت قرأ الموضوع وطلبني قائلا (هل انت احسن من يكتب انشاء بالفصل فقلت لا ولاحتي العاشر )قال (لي السنة الماضية اعلي درجة كانت14من عشرين وتستحق النمرة الكاملة لم اجد ولا غلطه لا املائية او نحوية اوتركيب ولم اعمل قلمي الاحمر مطلقا ولكنها الانشاء تستحق 16من عشرين وانا ظالمك ولكن لا استطيع اكثر من هذا ) هذا زمان لن يعود وفقك الله مع المعاناة !!!

  2. الممرضة دي قول ليها ببساطة إقرأي رواية المريض الانجليزي…بتمعن…

    The English Patient

    http://en.wikipedia.org/wiki/The_English_Patient

    ثم – بعد ذلك – شاهديها فلماً فقد حولت إلى فلم….

    ثم بعد ذلك…قلديها برواية مماثلة…

    ثم بعد ذلكك…كرري التجربة مع روايات أخرى….

    ثم…سيأتيك الابداع طائعاً….

    ثم….تأتيك الجوائز…

    ثم…تأتيك الشهرة…. و هي ما يبحث عنه هؤلاء الشباب

    و هذه الأخيرة…قد تتأخر….أو لا تأتي مطلقاً إلا بعد وفاتك…

    تحياتي…

  3. أنني أرى عكس ما رأيت. لم يكن الثنائي مخترعي الفيس بوك على معرفة ودراية تامة نؤهلمها لهذا الثراء والشهرة التي وصلا إليها…….. ولم يكن غيرهم في مجالات عدة يملكون الرصيد اللازم لانطلاق الإبداع………. صدقني حتى الروايات التي منحت جوائز في الماضي وتمنح حالياً على المستوى المحلي والإقليمي بها فجوات وأخطاء عديدة حتى في الإملاء فيها أخطاء……. اعتقد أنك صدمت هؤلاء الشباب وحكمت بإعدامهم، كان حري بك أن ترشدهم وتحثم على الإطلاع ومزيد من الإطلاع…….. أما أن تحب ممرضة مريضها المصاب بعدة جلطات فما المانع في ذلك؟ ثم أنه رربما يكون تعاطف وليس حباً……

    ما ذكرت هي سمة الناجحين والمشهورين في أي زمان ومكان، فما أن يحقق أحدهم النجاح ويحصد الشهرة،حتي يبدأ في القول أنه كان يشتري الكتب القديمة… وأنه ألف قصيدة أو رواية وهو في الروضة. بل حتى على المستوى الوظيفي والمهني والتجاري، نجد أن من نجح أخيراً يقول لك، أنه حمل الأسمنت على كتفه وأنه باع الماء البارد والصحف… وأنه وأنه أي أن النجاح لا يأت صدفة بل بالمثابرة والكد والكدح والإصرار على المعرفة والمزيد من المعرفة………… أخيراً، هل فكرت للحظة أنك تكتب لهؤلاء؟ للأسف هؤلاء هم نصف قرائك، أما الباقين فأحسن منهم قليلاً……… أنت صدى لهذا الواقع……… سوف تصيح ياعالم ويرد عليك الصدى ياعااااااالم…………

  4. نصيحتى لأمير تاج السر الآتى :

    انت كاتب جيد لكن حقيقة ابتعد عن النرجسية والتحدث عن نفسك دائما كما ارجوا مخلصا الا تحشر مسألة ان الطيب صالح خالك في كل قول او كتابة .

  5. مبروووووووووووووووووووووووووووووووك جائزة كتارا منعنا المرض وكثرة العلل من المرافقه اصبحنا علي عهدنا القديم نقرأ كما تعودنا كما تقول من زمن لا ياتي مرة اخري ابدا كل الذي تقوله كان بالسودان اذكر ان والدي المعلم اعطاني موضوع انشاء عن السنة السابقة لي للدخول للثانوي وامرني ان اكتبه بزمنه ذاك وان اضع القلم في حدود الزمن وان التصحيح سيكون بمقياس الامتحان لكل السودان لا ابوية فيه خاصه وحين انتهيت قرأ الموضوع وطلبني قائلا (هل انت احسن من يكتب انشاء بالفصل فقلت لا ولاحتي العاشر )قال (لي السنة الماضية اعلي درجة كانت14من عشرين وتستحق النمرة الكاملة لم اجد ولا غلطه لا املائية او نحوية اوتركيب ولم اعمل قلمي الاحمر مطلقا ولكنها الانشاء تستحق 16من عشرين وانا ظالمك ولكن لا استطيع اكثر من هذا ) هذا زمان لن يعود وفقك الله مع المعاناة !!!

  6. الممرضة دي قول ليها ببساطة إقرأي رواية المريض الانجليزي…بتمعن…

    The English Patient

    http://en.wikipedia.org/wiki/The_English_Patient

    ثم – بعد ذلك – شاهديها فلماً فقد حولت إلى فلم….

    ثم بعد ذلك…قلديها برواية مماثلة…

    ثم بعد ذلكك…كرري التجربة مع روايات أخرى….

    ثم…سيأتيك الابداع طائعاً….

    ثم….تأتيك الجوائز…

    ثم…تأتيك الشهرة…. و هي ما يبحث عنه هؤلاء الشباب

    و هذه الأخيرة…قد تتأخر….أو لا تأتي مطلقاً إلا بعد وفاتك…

    تحياتي…

  7. أنني أرى عكس ما رأيت. لم يكن الثنائي مخترعي الفيس بوك على معرفة ودراية تامة نؤهلمها لهذا الثراء والشهرة التي وصلا إليها…….. ولم يكن غيرهم في مجالات عدة يملكون الرصيد اللازم لانطلاق الإبداع………. صدقني حتى الروايات التي منحت جوائز في الماضي وتمنح حالياً على المستوى المحلي والإقليمي بها فجوات وأخطاء عديدة حتى في الإملاء فيها أخطاء……. اعتقد أنك صدمت هؤلاء الشباب وحكمت بإعدامهم، كان حري بك أن ترشدهم وتحثم على الإطلاع ومزيد من الإطلاع…….. أما أن تحب ممرضة مريضها المصاب بعدة جلطات فما المانع في ذلك؟ ثم أنه رربما يكون تعاطف وليس حباً……

    ما ذكرت هي سمة الناجحين والمشهورين في أي زمان ومكان، فما أن يحقق أحدهم النجاح ويحصد الشهرة،حتي يبدأ في القول أنه كان يشتري الكتب القديمة… وأنه ألف قصيدة أو رواية وهو في الروضة. بل حتى على المستوى الوظيفي والمهني والتجاري، نجد أن من نجح أخيراً يقول لك، أنه حمل الأسمنت على كتفه وأنه باع الماء البارد والصحف… وأنه وأنه أي أن النجاح لا يأت صدفة بل بالمثابرة والكد والكدح والإصرار على المعرفة والمزيد من المعرفة………… أخيراً، هل فكرت للحظة أنك تكتب لهؤلاء؟ للأسف هؤلاء هم نصف قرائك، أما الباقين فأحسن منهم قليلاً……… أنت صدى لهذا الواقع……… سوف تصيح ياعالم ويرد عليك الصدى ياعااااااالم…………

  8. نصيحتى لأمير تاج السر الآتى :

    انت كاتب جيد لكن حقيقة ابتعد عن النرجسية والتحدث عن نفسك دائما كما ارجوا مخلصا الا تحشر مسألة ان الطيب صالح خالك في كل قول او كتابة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..