أوان العلاج بالكي وكسر الحلقة الشريرة

أوان العلاج بالكي وكسر الحلقة الشريرة

تيسير حسن إدريس
[email protected]

للمرء -وهو يرى بأمِّ عينه حال الوطن؛ تناوشه الأقدارُ والأزماتُ من كلِّ حدبٍ وصوب- أن يحزنَ ويعترفَ في الوقت نفسِهِ بأن ما كان متعارفًا عليه بالسودان قد بدأ في التلاشي والزوال، وما نشهده اليوم من عجائب الأفعال والأقوال على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ما هي إلا مظاهر تؤكد تراجيديا النهاية لدولة كانت تسمى فيما مضي ببلد المليون ميل، وكانت دول الجوار والعالم بأثره تعول على أنه سيكون سلة غذائهم ومعينهم الذي لا ينضب لتجاوز الفجوات المائية، والعالم المتمدن ينظر لتجربته السياسية وتحدوه آمال عظيمة بأن يقدِّم مثالا جيدا لدول المنطقة؛ لتحتذي به وذلك لنجاح ورسوخ تجربة أحزابه السياسية التي قادت لنيل الاستقلال من المستعمر دون إراقة مزيدٍ من الدماء، مما يعني نضج تلك الأحزاب ومقدرتها على خلق أدوات نضالية متحضرة وسلمية، لم يملك المستعمر في مواجهتها غير الجلاء تاركًا الأرض لأهلها يديرونها وفق ما يرونه يحقق مصالحهم ودون وصاية من أحد.
كان هذا هو الحال يوم جلاء المستعمر البريطاني عن الوطن، الكلُّ معجبٌ بكفاح ساسته وفطنتهم، وينظر بعين الرِّضا لتجربته الديمقراطية، وواثقٌ من نجاحها، مما جعل الشعب السوداني والأمم من حوله تتطلع لرؤية البلد الذي استقل بجهد ونضال أحزابه، يشقُّ طريقَهُ نحو التقدُّم والازدهار، في طليعة دول القارة الإفريقية، فماذا حدثَ وأي لعنةٍ أصابتْ تلك الأماني والآمال العريضة، لتتبخر وتغدو سرابًا بقيعة؟!!
إن ما وصلنا إليه من حال أعوج، كان نتيجةَ تراكمِ سياساتٍ خرقاء، وأخطاء تاريخية، ارْتُكِبَ البعضُ منها بحسن نية، ولكنها ?للأسف- كانت قاتلةً، وكفيلة بنسْفِ التَّجربةِ، وسجْنها وراء قضبان الحلقة الشريرة (حكم مدني ديمقراطي ضعيف ينقلب عليه العسكر)، وهكذا طوال نصف قرن من الزمان ظلَّ الوطنُ يدور في دائرتها المفرغة، فالحكم المدني الديمقراطي لم تتعد سنين تجربته أحد عشر عاما، في حين فاقت سنوات حكم العسكر الخمس والأربعين حتى الآن، وهذا وحدَهُ كفيلٌ بالإجابة على السؤال المحير؛ لماذا انقلبتْ البداياتُ المبشِّرةُ للحكمِ الوطني لنهاياتٍ محزنةٍ نشْهدُ اليوم أسوأ فصولِها؟؟؟؟.
وفي هذا المقامِ نجد من العسير على الباحثِ استثناء حزبٍ سياسي أو إعفاءه من المسئولية فرغم تطور الحركة الوطنية، وعراقة الأحزاب السياسية، التي شكلت كافة ألوان الطيف من أقصى اليمين مرورًا بأحزاب الوسطى إلى أقصى اليسار ، ورغم عضويتها التي ضمَّت بين صفوفها أفذاذًا لا يشق لهم غبار في ميادين السياسة، إلا أن ذلك لم يدفعْ الحكم الوطني نحو المرامي النبيلة، التي ارتجتها الجماهير، وعلى العكس تحوَّل من نعمة إلى نقمة، اكتوى بسعيرها شعب السودان، الذي ظل في كل دورة من دورات الحلقة الشريرة، يؤمِّلُ خيرًا ولا يجده، حتى وصلْنَا اليوم إلى مِيس النهاية، ومحصلتنا من الانجازات تعاني البوار، وتحوي (أصفارًا) كبيرة في شتَّى المناحي.
إن تفسير أسباب الأزمة الوطنية يتطلبُ كثيرًا من الشجاعة والصدق مع الذات، كما أن اكتشاف جوهر العلَّة يستوجبُ الفحص المتأني بالمجهر الدقيق، للفرد أولا ومن ثم للمجتمع منتج القيادات -التي أدمنت الفشل واستسلمت للحلقة الشريرة- تمهيدا للوصول لتشخيصٍ علميٍّ يسمحُ بمعرفة وصفة العلاج الناجع، وهذا هو السبيل الوحيد أمامنا للنجاة والمحافظة على ما تبقى من كيان الوطن.
إن الوضْعَ المزري الذي وصل إليه السودان، ينذرُ بعواقب وخيمةٍ، تتطلب من شعبه وفي طليعتهم المفكرين والعلماء وكافة الشرائح المستنيرة، ضرورة النهوض بقوة من أجل إحداث تغييراتٍ جذرية في كافة المجالات، ابتداءً من المفاهيم السائدة والقيم الاجتماعية والثقافية المتوارثة، مرورًا بإعادة تركيب البنية المجتمعية، لكي تنتج أطرًا ومواعين سياسية فاعلة ومبدعة ذات مقدرة على استيعاب الطاقات الشبابية المهدرة، مما يؤدي لإفراز قيادات سياسية جديدة خلاقة، وأكثر انضباطًا وإخلاصًا لبرامجها وشعاراتها ، محصنة ضد الاختراق وبعيدة عن الخنوع الطائفي وعصبية القبيلة، وحريصة على مصالح الوطن والمواطن قبل مصالحها الذاتية والحزبية وانتهاء بترتيب الأولويات الوطنية.
فالقضية الملحة المطروحة اليوم ليست هي: مَنْ يحكُم السودانَ، ولا حتى كيف يحكم، إنما غدت قضية وجودٍ وهي: كيف نتجنبُ حال الانهيار الكامل للدولة ونحافظُ على ما تبقَّى من بلد المليون ميل؟؟ ومن ثَمَّ ندْلف لصراع (من؟ وكيف؟) المُخْتَلف عليه وفق ضوابط ومنهج جديد، تضعُ أسسه وقوانينه فترة انتقالية لا تقل عن العشر سنوات من حكم (التكنوقراط )، مع مراعاة اختيارهم وفق معيار الكفاءة بعيدا عن الترضية والمساومات الحزبية والقبلية، مع ضرورةِ صياغة ميثاق شرف ملزم يبعد الجيش عن التدخل في السياسة، ويجعل منه قوةً محايدةً ومحترفةً تدينُ بالولاء للوطن فقط.
إن قضيةَ انتماء السودان وهويته من القضايا التي برزت بحدة في الآونة الأخيرة، وفرضت نفسها على تفكير بنيه في ظل الصراع الدائر بين مكونات المجتمع السوداني (عرب وزرقة)، وذلك بسبب سياسات النظام الحالي، القائمة على الولاء والتمكين لمنسوبيه والمخاصصة على أسس عشائرية وجهوية، أيقظت فتنة القبلية والعنصرية العرقية والدينية من مرقدها، بعدما ظن الشعب أنه قد قبرها، ونتيجة لتلك السياسات المريضة اختار ثلث الوطن المتمثل في الأقاليم الجنوبية الانفصال وحمل أبناء الغرب والشرق السلاح فتعمقت الأزمات الوطنية لدرجة تنذر بتفكك الدولة السودانية واضمحلالها مما يعقد من أمر العلاج ويجعل من المسكنات التي أدمنها الجسد الوطني عديمة القيمة والجدوى ويفرض علينا وأجب البحث عن سبل للشفاء ناجعة ولو كان آخر العلاج الكي.
فقد بات من الضروري والحيوي لشعب السودان التراضي على عقد اجتماعي جديد يعيد التماسك للدولة والبنية المجتمعية عبر آليات ديمقراطية حديثة (منظمات مجتمع مدني) مؤثرة وقادرة على إنتاج ثقافة سودانية وفْقَ ثوابتٍ وطنية تتوافقُ عليها مكونات المجتمع المتباينة، ويتم صياغتها بوضوح ودون لبس في العقد الاجتماعي لتكون ملزمة تمنع حالة الانحدار المسارع نحو الثقافة الشيوفنية والعنصرية.
فما شاهدناه من خطل سياسات الماضي يضعنا في مواجهة حقيقية في منتهى الوضوح، تكشفُ زائفَ شعاراتِ الحاكمين، وضعفَ المعارضين في جميع فترات الحكم الوطني التي تعاقبت، ممَّا يعني فشل الطرفيين ويدعم صوت المنادين بضرورة توجه الجماهير لخلق أطرٍ تنظيمية جديدة أكثر ثورية ومقدرة على استيعاب الحراك الشبابي المتصاعد، وتقديم قيادات لها القدرة والجراءة على مواجهة قضايا الوطن الشائكة وحلها.
فالهزيمةٌ الماحقة لبرنامج الإسلام السياسي -الذي ظلَّ يدَّعِي أنه الحلُ- والفشل المريع لنظامه في إدارة البلاد طوال العشرين سنة الماضية بالإضافة لحالة الموت السريري الذي تعانيه الأحزاب السياسية مما جعلها (كخيال المأتاة) يبرهن ويؤكد على أن زوال حالة البوار الفكري والسياسي الذي يعانيه الوطن مرتبطٌ بجدلية زوال الطرفين (النظام الحالي والمعارضة) معًا، وإعادة إنتاج تجربةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تفرزُ قياداتٍ ملهمةً، تستطيعُ كسرَ طوقِ الحلقة الشريرة، وممارسة العلاج بالكَيِّ.

تيسير حسن إدريس 4/06/2011م

تعليق واحد

  1. يحتاج السودان فى هذا المنعطف الخطير إلى فريق قيادة يدرك تماماً الأخطار المحدقة بالبلاد والتى تكاد تعصف بكل شيئ. قيادة تتميز بالعلم والنزاهة والقدرة والعزيمة والقيادة والقوة. قيادة ترى الوطن الكبير وأبنائه بإنتماءاتهم المختلفة، تحمل الناس على العلم والعمل وتجتهد فى موالاتهم وإخلاصهم من أجل لم شمل الناس وتوحيد كلمتهم. تحملهم بالعلم والحسنى وتضغ عنهم الإصر والأغلال التى تقيدهم. تزيل الظلم والجور وتنشر العدل والرحمة. تهجم على الفقر وتعيد توزيع الثروة بينهم بالقسط والعدل. السودان يحتاج لتضافر جهود أبنائه جميعاً الآن. الخطر اعظم من أن نضيع فيه الوقت بحساب بعضنا، فتلك فرصة ستأتى لا شك ويتم حساب كل من أجرم فى حق البلاد. إننا كأفراد قرية وقع أحدنا فى بئر عميق، إن لم نخرجه مات، ولكننا إن ظللنا نتجادل فى من أوقعه حتى نحاسبه، مات الغريق فى البئر، فأولى لنا إنقاذ ثم نلتفت لمن أوقعه نقيم فيه حساب العدل والقسط.

  2. يحتاج السودان فى هذا المنعطف الخطير إلى فريق قيادة يدرك تماماً الأخطار المحدقة بالبلاد والتى تكاد تعصف بكل شيئ. قيادة تتميز بالعلم والنزاهة والقدرة والعزيمة والقيادة والقوة. قيادة ترى الوطن الكبير وأبنائه بإنتماءاتهم المختلفة، تحمل الناس على العلم والعمل وتجتهد فى موالاتهم وإخلاصهم من أجل لم شمل الناس وتوحيد كلمتهم. تحملهم بالعلم والحسنى وتضغ عنهم الإصر والأغلال التى تقيدهم. تزيل الظلم والجور وتنشر العدل والرحمة. تهجم على الفقر وتعيد توزيع الثروة بينهم بالقسط والعدل. السودان يحتاج لتضافر جهود أبنائه جميعاً الآن. الخطر اعظم من أن نضيع فيه الوقت بحساب بعضنا، فتلك فرصة ستأتى لا شك ويتم حساب كل من أجرم فى حق البلاد. إننا كأفراد قرية وقع أحدنا فى بئر عميق، إن لم نخرجه مات، ولكننا إن ظللنا نتجادل فى من أوقعه حتى نحاسبه، مات الغريق فى البئر، فأولى لنا إنقاذ ثم نلتفت لمن أوقعه نقيم فيه حساب العدل والقسط.

  3. يجب ان يفهم الناس هذا الفكر الراقى الذى ينقذ البلد من الدمار ويمزع المعوقات من جذورها— رايك سديد وان اؤيد بشدة- البلد تمر بمنعطف خطير وحل المشكلة فى استعجال العلاج والا اذا استفحل الله يكون فى العون

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..