سودان الزمن السمح

سودان الزمن السمح
شوقي بدري
[email protected]
كنت الحفيد الأقرب الى جدتي الدنقلاوية زينب بت الحرم . و ربما لأنني كنت اشقى احفادها . و كنت اهرب اليها عندما اجد تهديداً بالضرب . و كنت اقضى معها الاجازة المدرسية في منزلها في بيت المال فريق السيد المحجوب . و عندما كنت في العاشرة كان معي ابن خالتي بابكر محمد عبد الله عبد السلام ، و شقيقه الاصغر عمر الذي صار ضابطاً على رأس المخابرات العسكرية ، و شقيقتهم رجاء . و لم تكن شيطتنتنا تتوقف خاصة في حيشان بيت المال . و الحوش يفتح في الحوش ، و الجميع أهل . و في الصباح عرفنا أن خالنا ميرغني ابتر سيأتي للسكن معنا . و ميرغني هو ابن عم والدتي . و في المساء حضر شاب في حوالي العشرين من عمره , و هو وسيم ، أنيق الثياب ، كان معتداً بنفسه . و كان قد اتى مبعوثاً من النقل الميكانيكي في كسلا لكورس في النقل الميكانيكي في بحري . ميرغني كان ميكانيكياً و سائقاً . إلّا انه كان ينتقى ملابسه بدقة و يحافظ على نظافته و مظهره ، كما كان منضبطاً يحب النظام . الخال ميرغني كان من المفروض ان يذهب مشياً لمعدية شمبات في ابروف كل يوم ، فالكبري لم يكن قد شيد بعد ، ثم يركب البصات الى النقل الميكانيكا على ضفة النيل الازرق . و كانت خالاتي آسيا و اسماء رحمة الله عليهن يستيقظن في الفجر ، و يحلبن الغنماية ، و يحضرن له الشاي .
أول دروس الخال ميرغني كانت أن لا نفتح فمنا عندما نأكل . و أن نأكل ( براحة ) . و ان لا نقبض على الرغيف بيدينا الاثنين و نرفعه الى أعلى . بل نترك الرغيف في الصينية و نقطع القطعة التي سنأكلها . و كنّا ننسى في بعض الاحيان . و يكون الامر تحذيراً ، ثم ضربة على اليد . و قد ينتهي الأمر بكف ( صاموتي ) . عمر متعه الله بالصحة كان ينسى كثيراً . و قبل ان يقع الكف يبدأ في العويل . و عندما كان يحضر لزيارة والدتي بأستمرار في لندن عندما كان مبعوثاً ، كنت اذكره بكف الخال ميرغني و نضحك .
بعد تلك الفترة رجع الخال ميرغني للألتحاق بالتدريب المهني ، و كنت قد صرت في السابعة عشرمن عمري ، و لي كثير من الأصدقاء الميكانيكيين . أحدهم عثمان ناصر بلال و أحمد محمد صالح و آخرين . و كانوا زملاءً للخال ميرغني . المنزل كان مليئاً بكثير من الشباب ، منهم التجاني محمد التجاني سلوم ، الذي صار فردة الخال ميرغني و شقيقه صلاح التجاني و عبد المجيد محمد سعيد العباسي و حموده ابو سن . و بدر الدين احمد الحاج و شقيقه معتصم . و شقيقي الشنقيطي رحمة الله عليه . و كان هنالك آخرون يتواجدون بكثرة . كانت تلك فترة جميلة استمتعنا فيها بليالي العباسية . فالخال ميرغني كان يعزف العود . و لفترة سكن معنا ابن عمتي و الاستاذ في الاحفاد ، الطيب ميرغني شكاك . و كان له مسجل قرونيق . و كانت هذه طفرة في ذلك الزمن . كان الخال كعادته الاكثر أناقة و الاكثر انضباطاً . كما كان معتداً بنفسه لا يقبل أي اهانة أو استخفاف من احد .
في احد الأيام اصطحب احد المسئولين في النقل الميكانيكي ميرغني و سائق آخر للحضور الى الخرطوم من كسلا . و كان المسئول قد قال معلقاً على مظهر ميرغني : ( الليشوفك كدا يقول مسئول ) . فرد الخال : ( انا احسن من أي مسئول ) . و قديماً لم يكن السوداني يتقبل أي اهانة . و في الطريق انقلبت السيارة التي كان يقودها المسئول . و اصيب الخال ميرغني بكدمة في رأسه . و أراد المسئول ان يساعد ميرغني فرفض أي مساعدة . و واصلوا الطريق الى الخرطوم . ذهب الخال ميرغني الى الخال الدرديري نقد الذي كان مديراً للنقل الميكانيكي . فقال الدرديري منزعجاً : ( في أي مشكلة يا ميرغني ؟ ) . فقال ميرغني ان المسئول لقد اتى بسيارة و تعرضت السيارة لحادث ، إلّا ان عملية استلام السيارةو ادخالها للتصليح لم تتم بالصورة القانونية . و قديماً كانت السيارات لا تطلع إلا بسيرك و تسجل كل قطرة بنزين في كل مشوار . و بعدها عرف المسئول بقيمة ميرغني . و أنه لا يستهان به .
لفترة كان الخال ميرغني السائق للواء التجاني محمد أحمد . و كان اللواء التجاني مشهوراً بالحدة و الصلف . و هو الذي حكم بأعدام البديع ، و محمد علي حامد و شنان ، في محاولة انقلاب 1959 . و كان قد صار مديراً للنقل الميكانيكي . و في الطريق صرخ اللواء على ميرغني ، لأنه لم يكن يمسك الدركسون بيديه الاثنين . فرد عليه ميرغني بشده . فقال اللواء : ( لما نرجع النقل سلم العربية ) . فقال الخال ميرغني : ( اسلمها انت فاكر شنو ، انا عسكري عندك ؟ ) . اللواء كان في طريقه لأمدرمان لعزاء الخال الدرديري نقد في وفاة والدته ام الحسن ابتر ( التومة ) . فهرع الجميع لعزاء ميرغني و بدأ بعض النساء في البكاء . و عرف اللواء بأن المتوفية هي عمة ميرغني . فحاول ان يسترضيه و ان يعيده لخدمته . إلا ان ميرغني رفض بأباء .
اذكر ان الخال ميرغني قد حضر من كسلا بعد يوم واحد من وفاة جدتي زينب بن الحرم . و كان يبكي بصوت عال ، و ابكي الرجال و النساء كذلك . و عرفت أن ذلك الرجل القوي يحمل قلباً كبيراً عطوفاً . و كان يتبسط معي لأنه يعرف انني كنت قريباً من جدتي .
في الثمانينات كان الاستاذ غازي سليمان عنما يقابلني او يقابل شقيقي الشنقيطي ، يقول له : ( و الله يا شنقيطي خالك حيرنا ، ما عرفنا نعمل معاه شنو ) . و القصة أن الخال ميرغني بعد ان ترك النقل ، عمل كسائق شاحنة مع الشركة الكويتية . و كان الاستاذ غازي سليمان و الذي هو جارنا في العباسية في امدرمان ، محامي الشركة الكويتية .
أحد مديري الشركة شاهد بعض الحطب على ظهر الشاحنة الضخمة . و بالسؤال ، عرف من الخال ميرغن انها كمية حطب حريق صغير وجده في الطريق و سيأخذه للمنزل . فأثار المسئول مشكلة ، و زعم ان الخال ميرغني قد نقل ( بضاعة ) او شحنة على ظهر شاحنة الشركة . و لم يكن يعرف مع اي الرجال يتعامل . و تعرض الخال ميرغني لعقوبة .
و بعد فترة رجع الخال ميرغني و سلمهم مفتاح الشاحنة . و بالسؤال قال ان الشاحنة انكسرت في الخلاء . و بالسؤال اعطاهم اسم المنطقة . و عندما طلبوا منه أن يأخذهم الى الشاحنة قال انه قد استقال ، لأنه لا يحب ظروف العمل . و عندما طلبوا منه ان يوصلهم الى المكان قال انه ليس بدليل . و عندما احتجوا على عدم تواجده مع الشاحنة ، قال ان هذا ليس من شروط العمل و انه ليس ( حرّاس ) و ليس من المفروض ان يعرض حياته الى الخطر .
بعد استشارة محامي الشركة غازي سليمان ، و ضح للشركة ان الخال ميرغني على حق . و أنه ليس من المفروض ان يعرض حياته للخطر . و أنه من المفروض ان يقود الشاحنة من النقطة (أ) الى النقطة (ب) . و تعبت الشركة جداً لايجاد الشاحنة . و عرفت الشركة بأنه لايمكن اهانة او التلاعب بالسودانيين . آخر مرة اقابل الخال ميرغني كانت في الثمانينات . و كان قد حضر من بورتسودان مع احد اصدقائه ، و كانوا قد احضروا سيارة ليلى علوي و كانوا يعرضونها للبيع . و كنت ذاهب انا الى كسلا في صباح اليوم التالي . و كنت مصحوباً بالشيخ عبد الله النهيان بن عم الشيخ عبد الله النهيان وزير الخارجية الاماراتي . و كنا في طريقنا لمقابلة الاخ احمد ترك زعيم الهدندوة . التحية الى كل أهل السودان الذين لا يقبلون الضيم . و يؤلمني انني لم التقى بالخال ميرغني سوى في تلك الليلة في امدرمان .
التحية ع . س . شوقي بدري
( و قديماً لم يكن السوداني يتقبل أي اهانة );(
إذا لم تجد ما تكتب اكتب أي شيئ ربما عده بعض الناس أنفس شيئ.
شكرا استاذي الفاضل
فانت تنقلنا في من الكدر للامل والذكؤيات الجميله عسى ولعل الحال ينصلح
لانو متل الحال لاكان لا حصل
الاستاذ الرائع / شوقي بدري
اتابع دوما ما يخطه يراعك اليانع وكأنك ابن اليوم لما تتمتع به من روح الشباب وحيويته فضلا عن ذاكرة فولاذية ( ماشاء الله ) تضعك موضع الحسد من جل شباب هذا الزمن الاغبر الذين لا يتذكرون بما تعشوا ليلة البارحة ( وانا احدهم ) ولا ندري على اي شماعة نعلق الاسباب؟ اهو الزمن؟ام هي الظروف المعيشية ؟ ام حكومة الابالسة ؟ ام حومة الاحزاب ؟ام هو تطور الحياة العامة وتسارعها ؟ لا ندري حقيقة .
فتحنا اعيننا وعقولنا على هذه الدنيا في نهاية السبعينات ( خامس وسادس ابتدائي) من القرن الماضى ووجدنا الناس تهتف ( ابوكم مين ) وكنا نردد دون وعي وتفكير او تردد بانه بلاشك ( نميري ) وكنا نقولها بفرح غامر وقناعة تامة وعزز تلك القناعة ما كنا نسمعه ليلا ونهارا في الاذاعة من اغاني تمجد القائد الملهم نميري رحمة الله عليه .
حتى جاءت ما تسمى ثورة الانقاذ والتى اول ما بدأت به هو عملية غسل ادمغتنا ومسح ذاكرتنا من ما كنا نحفظه عن ظهر قلب وكنا على قناعة به وشرعت في تلقيننا ما زعمت انها تنادي به واتت لانقاذنا من ما كنا فيه من جهل وتخلف وبعد عن الله والدين وكانت شعارات ( هي لله ) و ( لا لدنيا قد عملنا ) و( جاهزين جاهزين لحماية الدين ) وغيرها من الشعارات والتي للحق قد ضربت فينا وترا حساسا في بداية الامر ، ولكن هذه المرة كنا قد بلغنا عمرا نستطيع فيه تمييز الابيض من الاسود والرمادي ، وعندما ادركنا بعد هذه الجماعة عن ما ينادون به ، تذكرنا قول المصطفى ( ص) أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فكانت هجرتنا من وطننا الحبيب والبعد عن الاهل والاحباب واصدقاء الطفولة وعن كل ما كان جزء من حياتنا وبالتالي ومع مرور الزمن وطول الغربة بدأت الذاكرة في التلاشي شيئا فشيئا خصوص دقيق تفاصيل مراحل حياتنا السابقة
لذلك احييك وانت في غربتك تتذكر وتذكرنا بالماضي الجميل وان جئنا الي الدنيا في نهاياته واني على قناعة بانه لن يعود ذلك الزمن السمح الجميل لان من كان سببا في سماحته وجماله ذهبوا الي غير رجعة ..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ..
اخوك الغير مجنون ليلى والهلال
والله يا عم شوقي انا بنتظر مقالك وبخليه اخر ما أقراء في الراكوبه لعلى اهرب من الكدر الموجود في باقي الاخبار
كلام جميل والسوداني لايقبل الاهانة هذا ديدن الشرفاء الذين لايجراؤن في اخذ اموال الشعب بلباطل لذالك لايهابون احد وشكرا عمنا شوقي بدري انك تتحفنا بشي جميل كهذه الشخصية العظيمة
المقال عن سواق وبطولات مزعومة ! هناك فرق بين الادب وسوء الادب وسوء الادب لايمكن ان يعد بطولة …وقديما قيل كل اناء بما فيه ينضح
الي السيد سوداني اللاجئ في بلاد السين …برضه كل اناء بما فيه ينضح:eek: