مقالات وآراء

الطوباوية في مفهوم الحركة الإسلامية السودانية … بين حلم الخلاص وخطيئة التمكين

 

معاوية ماجد

منذ أن صاغ السير توماس مور في مطلع القرن السادس عشر مصطلح Utopia في كتابه الشهير يوتوبيا، وهو يرسم مملكةً خياليةً من العدالة والمساواة يعيش فيها الإنسان متحرراً من شهوات السلطة وجور الإنسان على أخيه، صار المفهوم منذ ذلك الحين رمزاً للحلم الإنساني الأزلي بالمدينة الفاضلة، وللصراع الأبدي بين المثال والواقع.كانت الطوباوية في أصلها فعلاً من أفعال الخيال الأخلاقي، محاولةً لردم هوة الظلم بالخيال، وبناء عالمٍ يتسع للعدل والعقل معاً، لكنها ما إن عبرت من حقل الفلسفة والأدب إلى حقل السياسة واللاهوت، حتى تحولت من حلمٍ بالخلاص إلى وسيلةٍ للهيمنة والتبرير.
في الأدب كانت اليوتوبيا وعداً شعرياً بإمكانية الإنسان أن يكون أفضل، أما في السياسة فقد صارت أداةً لصياغة الجنة المزعومة على الأرض — جنةٍ لا يدخلها إلا من آمن بفكرة القائمين عليها. وفي الفلسفة، كانت اليوتوبيا مجالاً للتفكير في الممكن، أما في الاقتصاد واللاهوت فقد انقلبت إلى سلطةٍ أخلاقية تقيس البشر بمقاييسها الخاصة وتقصي من يخالفها باسم الطهر والنقاء.
ومن هنا ولدت مأساة الحركة الإسلامية في السودان. فقد استعارت المفهوم الغربي في شكله لا في جوهره، وحوّلته إلى طوباوية سياسية مغلقة تتحدث عن المثال الإلهي بينما تمارس أبشع أشكال الإقصاء الأرضي.حين كانت الحركة في بداياتها تنظّر لحلمها بالتمكين، كانت تبشر بميلاد مجتمعٍ جديد، نقيٍّ من الفساد، قائمٍ على الإيمان والعمل الصالح، مجتمعٍ ينتمي لا إلى الواقع بل إلى المثال الأعلى. بدا خطابها أشبه بدولة المدينة الاولى يَعِدُ بالعدل المطلق، لكنها كانت في حقيقتها تصوغ ملامح يوتوبيا التنظيم لا يوتوبيا الوطن.
في داخلها كانت الطوباوية تتجسد في صورة الصفوة المختارة، النخبة التي ترى نفسها ظلّاً لله على الأرض، تحفظ الإيمان وتوزع الرزق وتُحدّد للناس كيف يفكرون ويعيشون. أما خارجها فكان الشعب السوداني في معمعانٍ من الفقر والجوع والتشريد، يحمل همه اليومي على كتفه، ويكابد الحياة بينما تُرفع في وجهه شعارات المثال الزائف.
وحين استولى القوم على مفاصل الدولة باسم المشروع الحضاري، أغلقوا الدائرة عليهم وعلى أسرهم، وأقاموا جداراً بين الدولة والناس، بين الثروة والجياع، بين الحلم والخراب. صار الوطن حقلاً لتجاربهم السياسية والاقتصادية، وصار الإنسان أداةً في معادلاتهم لا غايةً فيها.
تحولت الطوباوية التي بشّروا بها إلى نظامٍ مغلقٍ من الامتيازات، تحرسه العقيدة وتبرره اللغة الدينية ويعيد إنتاج نفسه باسم الله. لقد كانت تلك الطوباوية في جوهرها نقيضاً لفكرة مور الأصلية. فبدل أن تبني المدينة الفاضلة بالعدل، بنتها بالإقصاء. وبدل أن تزرع الحلم، زرعت الخوف. وبدل أن تحرر الإنسان، كبّلته بالولاء والطاعة.
فكانت النتيجة أن تآكلت روح المجتمع، وانكفأ الإنسان السوداني على همّ يومه، فيما كانت البلاد تسير نحو عزلتها الكبرى، حتى جاءت الحرب الأخيرة فهدمت ما تبقى من جدران الوهم. سقطت الطوباوية إذن في امتحان الواقع، وانهارت المدينة التي وعدوا بها عند أول اختبارٍ للحقيقة.
خرج الناس من تحت ركام الخطاب النبيل ليجدوا أنفسهم في وطنٍ غارقٍ في الفقر والدمار، تحكمه شهوة السلطة لا روح الإيمان. ولم يعد للمثال مكانٌ في أرضٍ تحترق. كانت الحرب التي أشعلوها آخر فصول الحلم المريض؛ حرباً لم تبقِ من مشروعهم سوى الدخان. رأى الناس فيها عُري الفكرة، وسقوط الأخلاق، وذوبان كل شعارات النقاء في بحرٍ من الدم.
هكذا انتهت يوتوبيا الحركة الإسلامية كما بدأت: وعداً بالجنة انتهى إلى خراب الأرض. وربما كان أعظم دروس هذه التجربة أن اليوتوبيا، مهما سمت في الفكر، إن لم تتكئ على إنسانٍ حرٍّ وعادل، فإنها تنقلب إلى ضدها. فكل طوباويةٍ تُبنى على الإقصاء هي جحيمٌ يتزيّن بالآيات، وكل حلمٍ يحتكر الخلاص يُولّد الكارثة.
السودان اليوم يقف على أطلال تلك الطوباوية المكسورة، يبحث في رمادها عن معنى جديد للنهضة — نهضةٍ لا تأتي من فوق المنابر، بل من أعماق الإنسان نفسه.وهكذا، تنقلب الحكاية، من “يوتوبيا السماء” التي وعدوا بها، إلى “ديستوبيا الأرض” التي أورثوها. وما بين الحلم والكارثة ضاع وطن كان يمكن أن يكون جنة على الأرض ، لولا أن بعض الحالمين صدقوا وهمهم أكثر مما صدقوا إنسانهم.
ربما ما زال في الأفق بصيص حلمٍ آخر، لا يُكتب في كتب الفكر ولا في دفاتر الحركات، بل في ضمير إنسانٍ يتعلم من الخراب معنى البناء. فكل يوتوبيا تزعم امتلاك الحقيقة تولد ميتة، أما تلك التي تُبنى على صدق الألم، فإنها وحدها تملك أن تُعيد للوطن روحه.
فربما هناك، في البعيد، على كل ضفاف السودان الممتدة — من دارفور حتى الشرق، ومن الشمال حتى بحر الجبلين — تلوح يوتوبيا أخرى… ليست وعداً بالسماء، بل عهداً جديداً للأرض، يُولد من رحم المعاناة ويكبر في كنف الحرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..