فكي سعيد.. قطعت القلوب

لم تسقطه ذاكرتي يوما، فكلما يعدو على الواقع المتجهم بكل قسماته القاسية، أهرب إلى الوراء وأحن إلى الماضي بكل تفاصيلة الشاخصة أمامي.. بالطبع اتذكر جيدا ذلك اليوم الذي تم فيه قبولي بالمدرسة المتوسطة في نهاية سبعينيات القرن الماضي وأنا أحمل شنطة حديد بها ملابسي وكل مستلزماتي البسيطة أبحث عمن يرشدني ويجيب على أسئلة تزاحمت مناكبها بذهني، أين الداخلية؟ وأين الفصل؟ وكيف هو العيش هنا، الأكل الشرب.. أين.. وأين…؟… كنت خائفا مضطربا لا أجرؤ حتى على السؤال، ولم يسيطر على تفكيري إلا أمر واحد وهو الهرب والعودة إلى البيت (بلا مدرسة بلا بطيخ ) هكذا كان القرار للتخلص من الحيرة…
على مقربة مني كان يجلس رجل وسيم القسمات بهي الطلعه يشع بين عينيه الواسعتين نور كأنه شعاع نجم يطارد الظلام، ومحياه كأنه بدر يضاحك الثرى.. ابتسامته الوقورة ووجهه الصبوح استعادا لي ثقتي واستجمعا شجاعتي بما يكفي لطرح أسئلتي الحائرة، فقررت استفساره عما يدور بذهني، لكنه لم يمهلني فكان هو المبادر بالتحية والمصافحة والسؤال عن أحوالى واسمي وعائلتي وقريتي هاشا باشا في وجه يعبئ نفسي بكل ما هو مطمئن.. يا إلهي ما أجمل حظي، وجدته يعرف كل كبار العائلة كأنه منها.. (دي ما رحمة كبيرة خلاص)…
كلمات مطمئنة ومشجعة ومحفزة ألقاها على قلبي فكانت كفيلة بكسر كل حاجز الخوف والإضطراب.. كنت أظن أن الرجل يعاملني بكل هذا الاهتمام لكونه يعرف كبار عائلتنا، لكن خاب ظني عندما وجدته يتعامل مع كل “الدائشين” مثلي بذات الطريقة الودودة الحميمية، وقد تحلقنا يومها حوله كالفراشات على مشكاة يشق ضوءها الظلام، وهو لا يمل تكرار الأسئلة والاستفسارات والتعرف علينا واحدا واحدا وباهتمام لا يزيد ولا ينقص من شخص لآخر …
من فرط اناقته وهندامه المميز ومعرفته بكل التفاصيل كنت موقناً بأنه مدير المدرسة، لكن أخبرتني الأيام لاحقاً أن مولانا الفكي (سعيد محمد أحمد الخالدي) هو عامل فقط بالمدرسة لكنه بمحبة أودعها الله فيه أنا منهما مرموقة بين الأساتذة والطلبة…
تفرقنا من حوله، لنجتمع بعد هنيهة في مسجد المدرسة على صوت آذان يشق صمت المكان بنبرات هادئة مطمئنة وصوت عذب النداء.. إنه الفكي سعيد نفسه يؤذن ويقيم الصلاة ويؤم المصلين أساتذة وطلابا بصوت جهور رخيم، واضح المخارج، عذب التطريب والتجويد يتسرب إلى اعماق النفس فيضيء عتمتها بآي الذكر الحكيم …
في مدرسة الدندر المتوسطة أساتذة وطلابا وعاملين، وفي المدينة والقرى المجاورة لم أجد شخصا أحبه الناس كل هذا الحب الصافي الذي يضاهي ابتسامته الصافية وهندامه الناصع وأسنانه البيضاء التي يتضاءل بجانبها نور “الأقوحان”.. لا تجده إلا مبتسما حتى في أحلك الظروف، ابتسامته الدافئة، ومسبحته المبخرة بعطر اللبان لا تفارقانه أبدا…
كل تلك المناقب الباذخة.. والسجايا العاطرة، والصفات الملائكية هي التي وحدت أمس مشاعر الحزن لدى أهل الدندر وهم يودعون علماً من إعلام مدينتهم ويوارون الثرى… علما محبوباً مشهوراً حرص أن يكون مؤذنا لمسجد الدندر العتيق حمامة ساجعة في محرابه لا يشغله شاغل عن الآذان والذكر ولا يعكر ابتسامته الصافية حجراً يلقيه أبو الجهالة في ماء وجهه المتهلل.. اللهم أرحم أبونا الفكي سعيد، فإنا لفراقك لمحزونون ولكنا لن نقول إلا ما يرضي الله.. اللهم هذا قسمي فيما املك…
نبضة اخيرة:
ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب ان يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين..
الصيحة