
مجموعة غصة في الحلق – نموذجا
(١-٨) عن صديق الحلو نحكي:
الاستاذ القاص والروائي صديق محمد أحمد الحلو (1)، من السراد النشطين، في اتصال وكثافة انتاجهم، ويتميز بقدرته على التواصل مع مختلف أجيال المبدعين. وحمله لتلك الأفكار النبيلة، حول بناء مؤسسات للأدب. حتى يتم تداول هذا الأدب، وتقييمه على نحو واسع، وحتى تتم رعاية الموهوبين، في مناخ صحي، تتصل وتتواصل فيه الأجيال المختلفة، وتنقل تجاربها للأجيال الجديدة.
ولا نبالغ إذا زعمنا، أن الحلو لعب في المشهد الثقافي للنيل الأبيض والخرطوم، دورا لا يقل أهمية، عن الدور الذي لعبه القاص الرائد، أبو القصة القصيرة في السودان، أستاذنا الراحل عثمان علي نور. فالحلو أسس لكيانات أدبية مهمة، أبرزها رابطة الاصدقاء الأدبية بكوستي، ونادي القصة السوداني بالخرطوم، لجمع شمل المبدعين، ورعاية المواهب ودعمهم، مضحيا بالمال والجهد والحياة الخاصة. وأسهم الحلو في الحياة الثقافية، قاصا ومشرفا على الملفات الثقافية، فهو شعلة من العطاء لا تنطفيء.
يتصف الحلو بنبل أخلاق، يندر وجودها في قبائل المثقفين، و بكل المقاييس أعتبره استثناء، قل أن يجود بمثله الزمان، في مسيرة الحركة الثقافية في السودان منذ مبتداها!
أسهم الحلو عمليا في تأسيس الرابطة الادبية بكوستي، في ثمانينيات القرن الماضي. كما أسهم في تأسيس نادي القصة السوداني، بالخرطوم في خواتيم القرن الماضي.
وفي كل التكوينات الأدبية، التي عمل الحلو على تأسيسها، كان يجنح للسلم، عندما تحتدم الصراعات، فتنهب خيول الكلام الوجدان، و تشتبك الاقلام، وتخرج العبارات السجالية الحادة من أغمادها! لتغرز نصالها!.. كان الحلو حينها، يطلق حمامات السلام، ويرسل طيوره الزاجلة، تحمل رسائل تهدئة الخواطر بين الأصدقاء!
(٢-٨) بنية الزمن عند الحلو:
وتتميز قصة صديق الحلو بلغتها الشاعرية، وحسها الصوفي، واستلهام الحكاية الشعبية، والقص الديني، في كثير من نصوصه.. وربما لذلك تقلب في توظيفه للزمن، بين مختلف التقنيات، سواء كان تعاقبيا أو استرجاعيا أو استشرافيا.
وفي هذه القراءة سنتناول الزمن، كموضوع لقرائتنا، مجموعته “غصة في الحلق” (2). فنجد أن أحد أبرز تقنيات الزمن عند صديق الحلو، هي تقنية الاسترجاع، وهي تكنيك خاص بترتيب الأحداث وتسلسلها داخل القصة، حيث يترك الراوي الشخصية الأولى، ويعود إلى الماضي ليصحب الشخصية الثانية، ثم يلتحم مستوى القص الأول مع الاسترجاع، ويستمر سيره بعد ذلك.
وهذا النوع من الاسترجاع يقل استخدامه في النص التقليدي، لأنه يحافظ على التسلسل الزمني داخل زمن القص. وفيه يترك القاص مستوى القص الاول، ليعود الى بعض الاحداث الماضية، ويرويها في لحظة لاحقة لحدوثها (3).
(٣-٨) الاسترجاع عند الحلو:
ولابد لنا هنا من الاشارة لبعض التقنيات، في بناء الزمن عند صديق الحلو، في مجموعته “غصة في الحلق” (4)، كما تتمثل هذه التقنيات ابتداء، في القصة التي استهل بها مجموعته “أحلام المواطن جار النبي قسم السيد”.
ففي هذه القصة يعالج الراوي، التحولات التي تطرأ على السلوك الإنساني، عندما يرتبط بالسلطة وتحولاتها، فجار النبي قسم السيد “رجل في الخمسين بادي الوسامة. في الأيام الخوالي أتى مديرا للادارة من العاصمة، منقولا. أنفه المستقيم.. شعره المسبسب.. عيناه غزيرة السواد (..) دهاء يقاوم الخروج، وحيل كثيرة تود الظهور (..) الموظفات بهر عقولهن (..) راح يحدثهن في أول لقاء له، عن حقوقهن المهدرة.. (5)”.
الزمن في هذه القصة تعاقبي، بطيء.. إذ نمضي في تتبع حياة جار النبي قسم السيد، من خلال راوي مهيمن، يعالج سلوك جار النبي تجاه رؤسائه وموظفيه “تقلبت الأيام خريف فشتاء (..) صار يمارس هوايته في القسوة عليهم بجبن، أصبحوا يحتقرونه. لقد سلبهم كل شيء حتى أمل النصر (6) ويظل جار النبي غارقا في الصراعات والأوهام، إلى أن يتم اعتقاله “انتهى جار النبي قسم السيد، وقوة مدججة بالسلاح، جاءت لاعتقاله بتهمة اختلاس المال العام (7)
كذلك قصته الهرة المتوحشة، تسفر عن تعاقبية في الزمن، منذ لحظة صحو الراوي “نهض ذات صباح مثقل. ارتشف كوب الشاي الدافيء..(8).. لتستمر في إيقاعها التعاقبي البطيء حتى الخاتمة..
وفي قصصه “الخل الوفي” و “زهور لا تعرف الذبول” و “مهر الأميرة” و “غابت الزهرة” و “النور والنهر” و “أيام للتضحية.. أيام للوطن” و “اللعبة” و “القافلة”.. في كل هذه القصص وغيرها، نجد أن الزمن تم بناءه على أساس تعاقبي.
وربما يعود ذلك لمحاولة الحلو، توظيف الحكاية الشعبية، في القصة القصيرة، مثلما تحيل قصة “الخل الوفي” و “غابت الزهرة” و “مهر الأميرة” و”القافلة”، إلى مرجعياتها في الذاكرة الشعبية، أو نتيجة لهيمنة الراوي، مثلما في قصة “زهور لا تعرف الذبول”.
كذلك نجد تعاقبية الزمن في “النور والنهر” التى نشرت بمجلة حروف العام 1993.
وفي قصة “سارة تموت مرتين”، نجد أن الزمن يتماهى في تقنية “انعكاس المرايا ” “وأنت يغزوك الحرمان والصد وهجر الحبيب.. في الوطن غربة، صهدتك التباريح ابداعا (9)”.. حيث يتبدد الزمن في صوت الراوي المخاطب، وهو يتنقل بين محطات حاسمة، في حياة سارة التي يحب. حينا “كانت سارة حلوة الأماني. متزوجة من فتاها العاشق (10)” وحياته، حينا آخر “تظل تبحث عن الدروب الموصلة، عن غيمة تطرز منها ياقات تلاميذ المدارس (11)”.. وفي قصة (عيون لا تعرف الغفو)، يتحرك الزمن في مسارين. مسار أساسي هو انعكاس المرايا، من خلال المخاطب “التقيتها.. صار للعشق لون قوس قزح، وللحياة دوران آخر، وانداح المدى الأخضر في ذاتك، التي تعج بالبوار (12)”.. يتخلل هذا المسار الزمني الاسترجاع من خلال نفس الضمير “ما بنيته البارحة، جرفه الموج في تعريشة منزلها، الجهنمية الحمراء تزداد احمرارا في الأصيل، تأتي نحوها.. تقترب وفي ذاكرتك ليلة مضت (13)”.. وفي قصته “عبر الصحراء الى ليبيا”، على الرغم من أن البنية الأساسية تعاقبية، إلا أنه يتخللها استرجاع بضمير المتكلم، و باستخدام العبارات المباشرة “قبل حضوري إلى هنا، قالت لي والدتي الحاجة. لقد أخبروني بأنك ذاهب الى ليبيا. اذهب على بركة الله (..) و في الطريق وأنا على الجسر الضيق المليء بالعابرين، وجدت صديقي التوم (14)”
و تهيمن تقنية الاسترجاع على قصة “وتبعد المسافات” التي يستهلها الراوي المهيمن، ببث تجاربه الذاتية “فشل يحوطك.. أجمل سنوات عمرك مرت كهباء منثور. صديقك الحميم افتقدته كثيرا. وشرخ أصاب حياتك والدنيا كربات لاتنتهي.. ملل احتواك (15) مستعيدا -الراوي- بعض التجارب “قالت عفاف أنك لا تصلح لشيء. صمتك الزائد. بلاهتك البائنة. أسئلتك الكثيرة. الوقت يمر بطيئا (16)” وهكذا تتحرك بنية الزمن على هذين المستويين (التداعي – الاسترجاع).. إلى أن تنتهي القصة.
وفي قصته “حكاية بنت اسمها خدوج”. نجدها أيضا كسابقتها، يتحرك الزمن فيها على مستويين: زمن تعاقبي تقليدي، يحكم بنية الحكاية التي يرويها راو مهيمن.. وزمن استرجاعي، تكشف عنه الحاشية، التي تضع النص في مواجهة سؤال: ما إذا كان الراوي، يحكي عن خدوج بطلة القصة. أم أن خدوج وزميلاتها، يناقشن قصة في هذا المعنى مع زميلهن القاص؟!.. إذ يلعب الإيهام دورا فاعلا، في نسيج الحكي!
ونجد أن من قصص الاستاذ صديق الحلو، التي اعتمدت تقنية الاسترجاع في هذه المجموعة: “وردة بيضاء لعيني ومضة” و “أيام للحزن.. أيام للشجن” و “الحلقات” و “البدايات والنهايات” و “رياح الجنوب النديانة” و “متاهات لا تنتهي” و “أمونة بت حمودة الراجل” و”الخروج من القوقعة” و “الجذور” التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وكذلك قصة “جنوح نهى”.. و قد نشرت هذه القصة الأخيرة بصحيفة ” صباح الخير التونسية 1992 مع عدد من نصوص شعراء وقصاصين رابطة الاصدقاء الأدبية. بواسطة الصديق الشاعر الراحل الصادق كباشي، إبان فترة دراسته بجامعة تونس الأم.
وفي قصة “الذئاب” نجد أن بنية الاسترجاع، تتشكل منذ استهلال الراوي، في كشفه عن خلاصة ما يريد أن يرويه “لعلك عرفت أن المرأة الاضافة لم تخلق بعد.. أم حسبت أن الحب يضمد الجراح (17)” ليعود الراوي بعد ذلك الى الماضي، الذي جعله يتوصل إلى هذا الحكم “قلبن له ظهر المجن، وتحولت سهير من بلسم شافي، الى جرح نازف، صار الحنان صحراء بقيع (18)”.. ” جاءت أيام الجذر.. تراجعت أم سهير، بعد أن رأته يرفل في سندس أخضر نامي (19)”..
أن استخدام تقنية الاسترجاع في القصة القصيرة، يحقق عددا من المقاصد الحكائية، مثل ملء الفجوات التي يخلفها القاص وراءه، سواء باعطائنا معلومات، حول سوابق شخصية جديدة، دخلت عالم القص، أو باطلاعنا على حاضر شخصية، اختفت من مسرح الأحداث، ثم عادت للظهور من جديد. وهاتان الوظيفتان تعتبران، من أهم الوظائف التقليدية لهذه التقنية الزمنية.
وهناك وظائف أخرى للاسترجاع، اقل انتشارا ولكنها أيضا ذات أهمية كبيرة، مثل الاشارة الى أحداث سبق للسرد، أن تركها جانبا، واتخاذ الاسترجاع كوسيلة لتدارك الموقف، وسد الفراغ الذي حدث في القصة، أو العودة إلى أحداث سبقت. بغرض اثارتها، أو التذكير بها، أو حتى لتغيير دلالة بعض الأحداث الماضية. سواء باعطائنا دلالة لما لم تكن له دلالة أصلا . أو لسحب تأويل واستبداله بتفسير جديد.
وكل ذلك يجعل الاسترجاع، من أهم وسائل انتقال المعنى، داخل العمل السردي. ويمكننا بالتالي التحقق مما يرويه السرد، عن طريق الاسترجاعات، التي تثبت صحته أو خطأه (20)..
(٤-٨) بنية الاسترجاع عند الحلو
في (دروب جديدة – أفق أول):
سنحاول أن نتناول هنا بتفصيل أكثر -تطبيقيا- بنية الاسترجاع، في قصص الحلو الثلاث، التي نشرت في مجموعة دروب جديدة: أفق أول (منشورات نادي القصة السوداني) وهي قصص:
(1) عشوشة تفتقد الصواب (2) الخالة سكينة (3) البرنسيسة.
ابتداء يمكن التمييز بين نوعين أساسيين من الانظمة، أو كما يقول توما تشفسكي، في كتابه عن نظرية الأدب “يتم وضع العناصر الموضوعية، طبقا لأحد مبدأين: فأما أن تخضع لمبدأ السببية، وتنتظم داخل نوع من الإطار الزمني، وأما أن تعرض بشكل لا يخضع لمنطق الزمن، ولكنه يتتابع دون مراعاة السببية الداخلية “ويطلق على النوع الأول اسم “النظام الزمني”. كما يسمى الثاني “النظام المكاني”.
وعلى ضوء هذه الخلفية، يمكننا قراءة الاسترجاع في القصص الثلاثة، موضوع تطبيقاتنا العملية (21)”.
(٥-٨) الحكاية في عشوشة تفتقد الصواب:
انها حكاية شيخ -سليمان- عاشق لزوجته “كانت تحبه وكان يضللها، والحياة بينهما شد وجذب (22)..
يعالج الراوي في هذه القصة، أحد مظاهر السلوك الأنثوي السلطوي “فقدت عشوشة صوابها، وهي تأمره ان يبني لها قصرا، من الريش يفوق ما أتى به الأولين طرا (23)”..
والحكاية في تأويلها، إسقاط لقصة (سليمان الحكيم مع بلقيس ملكة سبأ).. فعندما جاء الهدهد بعد تأخر طال، وسئل عن سبب غيابه، كانت إجابته “- ذهبت أحصي عدد النساء أكثر أم الرجال.. قال سليمان: – وإلى ماذا توصلت؟ قال الهدهد: – وجدت أن النساء مع الرجال الذين يسمعون رأيهن أكثر.. عندها فهم سليمان! .. وأمر جموع الطير بالعودة الى وكناتها.
طارت الطيور، وفي زحمة طيرانها تساقط آلاف الريش، الذي يشيد قصرا فأكثر (24) وتنتهي القصة بامتلاك سليمان معرفة جديدة، فيما يخص النساء، تكون دليله للتعامل مع زوجته عشوشة.
ولكن أيضا تحصل عشوشة على مرادها -بالمصادفة- “كانت عشوشة المشتهاة، تسند رأسها على راحتها، وفي عينيها دفء دلال، مليء بالرضا. ما أحلى الولوج ببطء، في متاهات الأحلام. في شتاء ليل طويل. لقد أرخت لحلمها وما تشتهي. وبذرت بحماسها والغنج نبتة مورقة، واستراحت.. وتابع سليمان سرب الطيور المغادرة، حين راى الهدهد في زيل السرب يطير، دون أن تسقط منه ريشة واحدة (25)”..
تعتمد هذه القصة في دلالاتها، لا على ذاكرة القصص الديني المشتركة، على مستوى الوجدان الثقافي العام (قصة سليمان الحكيم)، بل وفي أحد مستويات هذا المجال (السودان: إذ تسمى فيه إحدى العصافير النزقة بعشوشة).
(٦-٨) الحكاية في الخالة سكينة:
وهي حكاية أسرة يكيد أفرادها، بقيادة امهم المستبدة، لزوج اختهم “الخالة سكينة وجهها الشبيه بوجه جرز هرم، تدير المكائد.. قالت لحسن زوج ابنتها سميرة، أنك تثير المشاكل، وسوف تقابلك نتائجها.. من يومها وهي تنفخ في المزمار، بناتها يصفقن لها، ويرقص الجميع على انغام ديسكو خفي بلا حياء. إنه شخص لا يرجى منه.. قالت الخالة سكينة. بخيل وقذر! أرسلت الخالة سكينة لحسن اهوالا بأظافر وأنياب (26)
ويشارك الأم “الخالة سكينة” زوجها ضعيف الشخصية.. “قال زوج الخالة سكينة، الذي دائما ما يتظاهر بأنه يفهم كل شيء (..) سميرة الضعيفة تحضر نقودها من المدرسة، لتنفقها في منصرفات المنزل المتعددة (27)”..
يحاول الراوي في هذه الحكاية، معالجة ازمة عائلية، بالكشف عن أسبابها المتمثلة في خيبة أمل هذه الأسرة، ذات الأحلام المحلقة، في واقع حال هذا الزوج، الذي لا يلبي هذه الأحلام العريضة. فيتضارب واقع حاله مع أحلامهم، ويبدأون في تسريب كل ما يسيء اليه، ومن هنا ينشب الصراع بينه وبين هذه العائلة، التى تفسد حياته الزوجية، إلى أن تصل الأمور بينه وزوجته، إلى حد الإنفصال. فيشعر بأنه خسر الرهان “غام العالم في عيني حسن. لقد خسر الرهان. ضيق ألم به، وعرف أن المكائد وصلت ذروتها (28)”.. ونجد أن قصة البرينسيسة، هي بمثابة إعادة إنتاج لهذه القصة.
(٧-٨) الحكاية في البرنسيسة:
لكن قصة البرنسيسة، تختلف عن قصة الخالة سكينة، في أنها تسلط الضوء أكثر، على زوايا أخرى من أزمة يعيشها زوج وزوجته، إلى حد الإنفصال، عن بعضهما، بسبب تسلط الأم “الأم البرنسيسة تتحدث كالعواء. أزماتها النفسية، والاخفاقات.. قالت لنا أن ننسى كل تلك المرارات، ورددن خلفها بناتها الثلاثة، في غضب وتحدي (..) ريم أختهن التي بالعاصمة، سكبت كثير من الماء المراق، على أمل ضائع (..) والدهن المترهل، رغم أمراضه العديدة، إلا أنه مكابر (..) أماني كالبغلة تهدده بالطلاق (..) قال لاخته العجوزة، ليأتي أحمد ويأخذ أبناؤه (29)”
وهكذا تحاول هذه القصة تسليط الضوء، على النفسية المعقدة لأفراد هذه الأسرة، التي جعلت زوج ابنتهم “أحمد” يبتعد ليحلق في سماوات، لا تطالها أجنحة أحلامهم..
(٨-٨) الزمن والاسترجاع:
في التصور الفلسفي الزمن هو: كل مرحلة تمضي لحدث سابق، إلى حدث لاحق.. على حين أن غيوم ينظر إلى الزمن على أنه “لا يتشكل، إلا حين تكون الأشياء مهيأة على خط، بحيث لا يكون إلا بعدا واحدا هو(القول)” وقد يكون الزمن من المفاهيم الكبرى، التي حار الفلاسفة والعلماء والرياضيون، في الإجماع على تعريفها! مما يدع الباب مفتوحا لكل مجتهد، وما يفترضه من تعريف. ولكل مفكر وما يتمثل له من تحديد.
ويبدو أن اللغة البشرية لا تزال عاجزة، عن عكس مفهوم الزمن حين يراد الدلالة عليه بشيء، من الدقة والصرامة. فاللغة يرضيها أن تتحدث عن هذا الزمن في المستوى التقريبي، تاركة المبادرة لآلات القياس الزمنية الجديدة، التي تحاول الدلالة عليه.
والزمن مظهر وهمي يستغرق الأحياء والأشياء، فتتأثر بمضيه الوهمي غير المرئي. فالزمن مظهر نفسي لا مادي، ومجرد لا محسوس، ويتجسد الوعي به من خلال تأثيره، لا من خلال مظهره في حد ذاته. لكنه يأخذ مظهره في الأشياء المجسدة (30) ومما يساعد العلماء على تصور النظام الزمني، ربط الزمن بالحيز، حيث لا يرون أى وضع حيزي، إلا مصبوبا في وضع زمني، كدوران آلة من الآلات، أو محرك من المحركات، فإن الحركة تدل على الزمن و(تظرف) فيه. إذ يستحيل حدوث أى حركة، خارج نطاق النظام الزمني المتسلط (31)..
ونجد أن الزمن السردي -خاصة- أنه هو الزمن الإنساني الواقعي. كما أنه الزمن الباطني المتدفق، بحيث يشكل ذلك الجانب الغامض، في التجربة الشعورية، وهكذا يرادف معنى الزمن في السرد، معنى الحياة الداخلية.. معنى الخبرة الذاتية للفرد. ورغم تغلغلها في أغوار النفس البشرية، فهي خبرة جماعية، والزمن السردي، هو الصورة الحقيقية لهذه الخبرة.
ومن ثم فالزمن السردي زمن نفسي، بمعنى أنه لا يعني الزمن الموضوعي، الذي يتم الاهتداء إليه بمعالمه الفلكية (..) لم يعد الزمن مجرد خيط وهمي يربط الأحداث بعضها ببعض.. أصبح السرديون يرهقون أنفسهم، في اللعب بالحيز واللغة والشخصية، فأصبحت الأعمال السردية فنا للزمن (32) وعلى ضوء هذه الخلفية، نلاحظ أن الحلو في قصته “عشوشة تفتقد الصواب”، التي يستهلها بزمن المضارع المستمر “الطرق العاشقة والعشب ذو النكهة المارقة على مد البصر، وعشوش تحمل قلبا يضحك مع الضحى، تكفكف اساورها، وتتمنى لسدرة روحها أن تثمر..
والشيخ صلى ركعتين، وشرب مزيج القرنفل والنعناع، ومسبحته تتساقط قناديلا من الأحلام لمساء رائع (33) يعمد إلى استخدام مستويات زمنية مختلفة، في إطار الزمن المركزي (المضارع المستمر) فيتداخل زمن المضارع المستمر مع الماضي، مع مستوى زمني آخر، هو مستوى الزمن “الاستباقي” ف (الاستشرافي) “أخبرته زوجته عشوش، أن يبني لها قصرا من الريش، يفوق ما أتى به الأولين (34) ثم تمضي القصة بصوت الراوي، لتلج مستوى زمنيا آخر، هو مستوى الزمن الحاضر “حل الأصيل. جاء الهدهد منتفش الريش، يبدو الإجهاد على محياه (35): إلى أن تنتهي القصة في المضارع المؤكد بالأفعال ( تابع – يطير – يسقط – تزيح – تجعل – تفيض – يشعلن – تسبح..) في خاتمتها “وتابع سليمان بنظره، سرب الطيور المغادرة، حين رأى الهدهد في زيل السرب، يطير دون أن تسقط منه ريشة واحدة (..) أنها الجذوة والنساء يشعلن بالتهجي، حكايات الشجن القديم. عشوش تسبح في موج لهوها، في قصر من ريش (36) “..
كذلك في قصته “الخالة سكينة”، التي يستهلها بالاسترجاع “الخالة سكينة وجهها الشبيه بوجه جرز هرم، تدير المكائد: قالت لحسن … (37) ” وينتقل السرد من هذا المستوى الزمني الى مستوى آخر هو مستوى “الاستشراف” الذي أشرنا إليه “كن يحلمن به يمتلك السيارات المحملة، والبوتيكات الممتلئة، ذات الاضاءة المتلألئة ليلا (38) “ليعود مرة أخرى لمستوى الاسترجاع “مرت بخاطر حسن سكينة عند حضورها لإبنتها في وضعها الأول (39)” لينتقل من هذا المستوى إلى مستوى الاستباق “ضيق ألم به. عرف أن المكائد وصلت ذروتها (40)”.. لنجد من خلال ما تقدم أن الحلو يوظف تقنية الاستباق أو الاستشراف، في اطار سياق زمن الاسترجاع.
ونلاحظ على قصته “البرنسيسة” أنه قد وظف الاستشراف في سياق الاسترجاع “ناسيات أن الدنيا تعقبها آخرة، وأن الأيام مصيرها إلى زوال (41)”
وما نلاحظه على التقنيات الزمنية المذكورة، طبقا لما تقدم. أن الزمن بصورة عامة، يتجلى عند الحلو في اللغة.. لغة الوعي واللاوعي والإحساس، الذي يذكي الخيال، فينقلنا من لحظة إلى أخرى، ومن لذة إلى لذة، حينما نسترجع حدثا جميلا، مر بنا كالبرق الخاطف، فعبر سماء حياتنا الموحشة، في لحظة هي أقصر من اللحظة!
وقد ينقلنا الخيال من ألم إلى ألم، عندما نشعر بفقدان عزيز، أو ضياع ثمين. وهكذا تحاول الذات المبدعة، باسترجاع الماضي الجميل، وصنع المستقبل البديل، إيقاف الزمن واللحظة الهاربة، عن طريق الكتابة للتمتع بها، أو للتحسر عليها.
وبهذه الطريقة يتم تمديد لحظة الإحساس (قصيرة العمر)، حتى تصبح (أطول عمرا) بزمن القراءة، الذي قد يشغل حيز صفحات كاملة.
أن اللغة هي التي تعبر عن (كون الزمن) الذي يشكل بحضوره المستمر خلفية التجربة. لذا فالزمن داخلي وكامن في طبيعة اللغة، المعبر بها في الخطاب، فبنية الكلمات هي (البنية العامة)، الوحيدة لفكرة الزمن الداخلي (42).
أحمد ضحية
القاهرة، سبتمبر 2005
هوامش:
(1) قاص، وصحافي من جيل أواخر السبعينيات. صدرت له عدة مجموعات قصصية وروايات.
(2) صديق الحلو. غصة في الحلق. دار جامعة أم درمان الإسلامية للطباعة والنشر. الطبعة الأولى 2001
(3) محمد السيد محمد ابراهيم. بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، طبعة أولى 2004 ص: 154
(4) مجلة فصول للنقد الأدبي. المجلد الخامس. العدد الرابع. يوليو. أغسطس. سبتمبر 1985 ص: 57
(5) محمد السيد محمد ابراهيم .”مرجع سابق”. ص: 80
(6) صديق الحلو. غصة في الحلق. دار جامعة أم درمان الاسلامية للطباعة والنشر. الطبعة الاولى 2001 ص: 1
(7) السابق: ص: 1
(8) السابق: ص: 3
(9) السابق. ص: 11
(10) السابق: ص: 5
(11) السابق: ص: 4
(12) السابق: ص: 4
(13) السابق: ص: 6
(14) السابق: ص: 7
(15) السابق: ص: 18
(16) السابق: ص: 25
(17) السابق: ص: 25
(18) السابق: ص: 21
(19) السابق: ص: 21
(20) السابق: ص: 22
(21) محمد السيد محمد إبراهيم “مرجع سابق”: ص: 81
(22) دكتور صلاح فضل. نظرية البنائية في النقد الأدبي. مكتبة الأسرة . 2003. ص : 280 .
(23) دروب جديدة مرجع سابق. ص : 71
(24) السابق: ص: 71
(25) السابق: ص: 71
(26) السابق: ص: 72
(27) السابق: ص: 73
(28) السابق: ص: 73
(29) السابق: ص: 74
(30) محمد السيد محمد إبراهيم “مرجع سابق”: ص: 67
(31) السابق: ص: 68
(32) السابق: ص: 69
(33) دروب جديدة “مرجع سابق”: ص: 71
(34) السابق: ص: 71
(35) السابق : ص: 71
(36) السابق: ص: 72
(37) السابق: ص: 73
(38) السابق: ص: 73
(39) السابق: ص: 74
(40) السابق: ص: 74
(41) السابق: ص: 74
(42) السابق: ص: 7