أهم الأخبار والمقالات

سودان ما بعد البشير “الديمقراطية” في خدمة العسكر

ماذا يمكن أن نقول عن السودان بعد عام من الثورة التي أطاحت بنظام عمر حسن أحمد البشير الذي حكم البلاد قرابة ثلاثة عقود؟ فقد تخلص منه حكام السودان الحاليين بعد ما فشل في وقف ثورة شعبية اندلعت نهاية عام 2018 بسبب زيادة أسعار الخبز وتوسعت مطالبها من عطبرة إلى الخرطوم. وكانت نتائج الثورة أو الانتفاضة مهما كان اسمها، هو الإطاحة بالبشير الذي أودع سجن كوبر الشهير الذي سجن فيه نقاده من المعارضة طوال السنوات التي قضى فيها سيدا على الخرطوم. وعندما استقر النظام السياسي في مرحلة البشير جاءت صيغة النظام على شكل مجلس يشترك فيه العسكريون والمدنيون. وأصبح رأس النظام الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي كان معروفا أو مرتبطا بدور السودان في حرب اليمن التي تقود فيها السعودية تحالفا ضد المتمردين الحوثيين. وبموجب الصيغة الجديدة يحكم الجيش فترة مضاعفة قبل تسليم السلطة للمدنيين من أجل عقد الانتخابات والعودة إلى الحكم المدني، وعودة المؤسسة العسكرية إلى الثكنات.

حروب الوكالة

ورغم ما جرى من دماء في الخرطوم وقبول الممثلين المدنيين لشروط التحول، إلا أن تجارب الثورات العربية السابقة لا تبشر بخير، فقد تدخل الجيش في مصر باسم إعادة الأمن ولكنه أقام أكبر نظام قمعي في تاريخ مصر الحديث. وفي اليمن وليبيا أصبح البلدان ساحة لحروب بالوكالة وسوريا ليست بعيدة. وفي السودان “الجديد” وجدت النخبة الجديدة، مدنية وعسكرية نفسها أمام استحقاقات إن أرادت العودة إلى الحلبة الدولية والخروج من العزلة، وتخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان. وبدأت النذر في لقاء البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العاصمة الاوغندية كمبالا، ويثير اللقاء تضارب مواقف المؤسسة المدنية والعسكرية، وبدأ كل طرف يلقي اللوم على الطرف الآخر. وبعد مداولات بين المسؤولين اتفقوا على صيغة بدت موحدة ترضي المجتمع الدولي والقواعد الشعبية التي اعتبرت المقابلة مع مسؤول إسرائيلي بارز مهمة ورسالة لواشنطن مفادها أن النظام الجديد يتسم بالمرونة في العلاقة مع إسرائيل طالما خدمت “المصلحة الوطنية” لكن الشارع رآى فيها تطبيعا واضحا مع كيان لا يقيم السودان علاقات دبلوماسية معه. بل وأغضب نتنياهو الشارع العربي والسوداني عندما قال إن لقاءه مع المسؤول السوداني ألغى اللاءات الثلاث المعروفة في مؤتمر الخرطوم الذي عقد مباشرة بعد الهزيمة العربية في حرب 1967. ولكن نتنياهو الداخل على انتخابات جديدة في الشهر المقبل والمثقل بهدايا دونالد ترامب من صفقة القرن، أخذ الهدية الجديدة وأضافها لفتوحاته في الجارة تشاد وعمان والدول العربية الأخرى التي ترى في التحالف مع إسرائيل حماية لها من الخطر الإيراني. وبدون الدخول في تقييم لحالة التطبيع العربي مع إسرائيل فنتائجها واضحة للعيان، سواء مع مصر أو الأردن التي ظلت اتفاقيات السلام معهما باردة. وفي سياق آخر اتفق السودان مع الولايات المتحدة لترتيب أوراق تفجير المدمرة كول قرب الشواطئ اليمنية وأدت إلى مقتل 19 جنديا أمريكيا ونفذه ناشطون من تنظيم القاعدة، والمبلغ الذي سيدفعه لعائلات الضحايا هو 30 مليون دولار، ولكنه ثمن ضروري لإخراج السودان من دوامة العقوبات الأمريكية. وقد حاول قادة السودان الجدد فك الحصار عنهم من خلال فتح تحالفات جديدة مع دول الخليج وحلفاء أمريكا في المنطقة، كما قدموا بعض المبادرات مثل الاتصال مع شركات علاقات عامة. ورغم ما حظي به السودان من اهتمام دولي إلا أنه اختفى بعد سقوط البشير من الرادار الدولي. وكان من المؤمل أن تكون محاكمة البشير بتهم الفساد والتي أثارت انتقادات دولية وأدت إلى سخرية من العدالة الثورية التي لم تقتص من مرتكبي جرائم حرب أثناء الثورة واكتفت بتوجيه تهم بسيطة إلى الرئيس السابق، مع أن النخبة الحاكمة، العسكرية، تحديدا هي ضالعة في الفساد نفسها. وفي هذا السياق تأتي موافقة النظام الجديد على تسليم البشير لمحكمة جرائم الحرب، هي موافقة مبدئية لم يتم تحديد مبادئها وشروطها وما ينبي عليها من رفع للعقوبات واستجابة للمطلب الدولي منذ حرب دارفور وصدور قرار الجنائية الدولية ضد البشير عام 2009 وهو قرار تحداه الرئيس السابق وشارك في أكثر من مؤتمر دولي وإقليمي بدون خوف رغم مطالب المنظمات الحقوقية والجماعات المدافعة عن حقوق منطقة إقليم دارفور. لقد كانت الثورة السودانية أفضل مثال عن القوى الدافعة باتجاه الديمقراطية ضد سلطة ديكتاتورية. وأخافت التجربة السودانية كما يقول ديفيد فيلبي في صحيفة “فايننشال تايمز” (12/2/2020) الأنظمة الديكتاتورية بنفس المستوى الذي أحدثته التظاهرات في الجزائر وهونغ كونغ. لكن التجربة التي قادت إلى مرحلة انتقالية مدتها 3 أعوام ونصف تتعرض للتهديد، وعادت مشاعر الإحباط من خلال طوابير الانتظار وتراجع مستوى الأداء الاقتصادي. والشيء الوحيد الذي ينمو في السودان وباضطراد هو أسعار المواد الغذائية. وفي ظل غياب البشير عن الساحة لم يبق ما يفرق بين القوى المدنية والجماعات المسلحة. والمشكلة التي تواجه القوى المدنية أنها تتشارك في السلطة مع القوى العسكرية نفسها التي ثارت ضدها.

نموذج بورما

وبات بعض المعلقين السياسيين ينظر للنموذج الجديد كما “نموذج ميانمار” في إشارة إلى ثورة أخرى أطاحت بنظام عسكري واستبدلته بآخر، ولكن تحت غطاء داعية الديمقراطية انغ سان سوتشي. ولا يغيب التشابه بين النموذج البورمي والمصري، حيث أطاحت قوى ديمقراطية بنظام مستبد ليحل محل نظام أكثر ديكتاتورية. وفي السودان فالشخصية التي اختيرت لرئاسة المرحلة الانتقالية من الجانب المدني هو عبد الله حمدوك، 64عاما، ولم يكن معروفا بمعارضته السياسية أو تجربة السجن لكنه جاء كتكنوقراط، ومثل البرهان لم يكن معروفا بدرجة كبيرة في الأوساط الشعبية، إلا أن الدعم الذي حصل عليه سرعان ما تلاشى. وما لا يملكه حمدوك هما أمران: القوة والمال، فهو يعتمد في سلطته على العسكر الذين يحاول إبعادهم عن السلطة، فالعسكر هم من يقررون الميزانيات والقوانين التي يجب أن تمرر. وكل ما استطاع إنجازه هو إلغاء قانون السلوك العام وتطهير الإسلاميين الذين سيطروا على الحكم والاستعداد المبدئي لحكومته تقديم البشير إلى محكمة الجنايات الدولية. وهناك شكوك في إمكانية تسليم الجنرالات البشير، لأنهم هم نفسهم شاركوا في الأحداث المتهم بها البشير. وهناك إمكانية لموافقة السودان على تسليمه ومحاكمته في الخرطوم كتسوية، نظرا لمخاوف العسكر أن تثبت شهادته تورطهم في الجرائم. ولو وقف البشير أمام محاكمة فستكون رسالة قوية للمجتمع الدولي عن العدالة الدولية التي تريدها الثورة وإشارة لأمريكا لشطب السودان عن قوائم الإرهاب. وحتى يتم تحقيق تقدم في هذه الملفات فلن تتمكن الخرطوم من دفع 60 مليار دولار كديون متراكمة عليها. ويظل مسار السودان خارج العقوبات طويلا، فهناك بالإضافة للمدمرة كول، تعويضات عن مقتل 200 شخص في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين، في نيروبي ودار السلام عام 1998. وتظل الثورة السودانية معلقة بدون مساعدات مالية خارجية مما يعني أن التجربة الديمقراطية ستتراجع فيما يؤكد العسكر قوتهم. وفي عصر ترامب لا أمل للديمقراطية في السودان، فيما لا تهتم دول الخليج، خاصة السعودية بظهور ديمقراطية حية في السودان. وفي الوقت الحالي لا تزال الثورة السودانية حية ولكنها عرضة للسحق في أي وقت. فالعسكر والإسلاميون ينتظرون فرصتهم، وبدعم خارجي حقيقي هناك إمكانية لأن تستعيد هذه الثورة عافيتها.

الذهب في السودان

لدى السودان بعد فقدانه معظم الثروة النفطية ثروات طبيعة أخرى مثل الذهب الذي بات في يد الميليشيات المسلحة، تحديدا قوات الدعم السريع التي أصبحت عاملا مهما في السياسة السودانية في مرحلة ما بعد البشير، وهي من بقايا قوات الجنجويد التي أرعبت سكان دارفور في بداية القرن الحالي ولكنها تحولت مع مرور الوقت إلى جزء من المؤسسة العسكرية وصار قائدها محمد حمدان “حميدتي” دقلو من أهم اللاعبين  في الحياة السياسة بعد البشير، وهو اليوم نائب رئيس المجلس السيادي والمستفيد الوحيد من تجارة الذهب في جبل عامر حيث يتم تصدير معظم الذهب الذي تستخرجه شركة تابعة لشقيق حميدتي إلى أبو ظبي. وأشارت صحيفة “الغارديان” (10/2/2020) إلى تفاصيل التجارة والمال الذي يتم تحصيله منها بدرجة جعلت من حميدتي أثرى رجل في السودان. ونقلت الصحيفة عن مساعدين له من أن الدور الذي يقوم فيه هو ثوري من أجل الحفاظ على الأمن في البلاد. ولكن تاريخ حميدتي الملون يجعل من دوره مثارا للجدل، فهو واحد من أهم رموز العهد الماضي، خاصة قتل المتظاهرين أمام مقر القيادة العامة. وبالإضافة لأطياف الماضي يواجه السودان تحديا طبيعيا نابعا من تشغيل سد النهضة الإثيوبي والخلاف بين أديس أبابا والقاهرة. ولا تزال ملفات المتمردين في غرب السودان بدون حل حيث تم استبعاد قادتهم في العملية الانتقالية. فالسودان في مرحلة ما بعد البشير يقف على صفيح ساخن، والثورة التي ألهمت خيال المنطقة بأنها مرحلة للتغيير، ربما انتهت بيد العسكر الذين لا يريدون التخلي عن مكتسباتهم، في ظل اصطفاف إقليمي يرفض عودة القوى الديمقراطية. وتواجه حركة التغيير نفسها تشققات، فما تم تحقيقه من وحدة للتخلص من الديكتاتورية قد يحصل على حساب استبعاد قوى واستفادة أخرى، والعامل المهم في نجاح الثورة هو الاقتصاد، فطالما لم تعد الاستثمارات الخارجية وتم تأهيل السودان في المجتمع الدولي، فآمال الثورة تظل غير منجزة. ومن الواضح أن ثمن عودة السودان، ستكون باهظة وعليه أن يفي بالكثير من الشروط. والواضح أن البوابة الإسرائيلية لن تقدم للسودان أكثر مما قدمته لإسرائيل من ورقة لدعم التطبيع بالشروط الإسرائيلية.

إبراهيم درويش

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..