مقالات وآراء سياسية

نحو منهج تعليمي يحترم عقول طُلابه (5)

د. عثمان عابدين عثمان

المعرفة في عقل أيدلوجيا الإسلام

يشارإلى المعرفة (العلم) في العديد من الآيات القرآنية ب – النور؛ والنور صفة من صفات الخالق المتناهي التي ينير بها طريق عبده المؤمن؛ وحتي لا تغشي سحابة الشك علي ضوء اليقين بالإيمان، على المسلم أن يلتزم بقيم وتعاليم القرآن والسنة؛ وهو في ذلك مفهوم شامل يغطي جميع جوانب الحياة من ثقافية و إجتماعية و علمية وغيرها.

بما أن كل المعرفة في العقل الإسلامي مضمنه بين دفتي كتاب القرآن فإن المقابل في الإسلام لعلم المنطق الذي يحاول الوصول للحقيقة الموضوعية عن طريق البناء اللغوي والمفاهيمي، هو علم الكلام (الفلسفة الإسلاميّة) الذي يهتم بإقامة الحجج والبراهين على صحة عقائد الإيمان ونقل الفرد المسلم من الإنسياق والتقليد إلى التوحد واليقين. في ذلك، يتصدى علم الكلام للديانات الأخرى الموازية أو لوجهات النظر العقائدية المختلفة في تبرير طبيعة معرفة الوحي أو سيرة النبوَة؛ فهو “علمٌ يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسرُّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التوحيد” – كما عرفه إبن خلدون في مقدمته.

نظراً لطبيعة الوجود الدنيوي المحدود للإنسان مقارنة بالوجود اللامتناهي للخالق وصعوبة تفادي الوقوع في متناقضة التجسيم الإلهي، واجهت مختلف مدارس الفلسفة الإسلامية معضلة تأكيد قدسية الذات الإلهية من غير اللجوء لإحالات المقارنة الجسدية والإشارات الزمنية عند تفسير وتبرير معرفة النصوص المقدسة. لذلك، على الرغم من التأسيس على مبدأ فقه التوحيد، قامت حجة المنطق في لاهوت الإسلام علي ثنائية طبيعة الذات المقدسة وصفاتها، بالأخص الكلام الإلهي المتجلي في كتاب قرآنه المبين. قياسا على ذلك، قالت مدرسة الإسلام السني – الأشعري بأزلية النص وتماهيه مع ذات الإله القدس في حين قالت المعتزلة بزمانيتة تنزليله وخضوعه لسلطة العقل وعامل التغيير.

للتوفيق بين العدالة لإلهية وفقه الحساب والعقاب وتفادي السقوط في متناقضة لتجسيم الإلهي، إعتمد المعتزلة،  وبإلإجماع، مذهب مبدأ ‘الخلق من عدم’ لإعتبار أن الكلام الإلهي جزء من عملية الخلق الرباني التي بدأت من لاشيء ومن ثم حتمية إستقلاله عن ذات الخالق المنزه عن النقائص؛  فإن كانت صفة الكلام – لغة القرآن تخضع لعامل والوقت والتنزيل، فمن الممكن، في تقدير المعتزلة، مصالحة النص القديم مع تفسره في سياق زمانه الجديد حتى يكون في متناول عقل الإنسان وتقدير تفكيره. القاضي عبد الجبار، أحد أوائل مؤسسي مدرسة المعتزلة، قال في كتابه “شرح الأصول الخمسة” في ما معناه: “عندما لا يمكن تفسير النص وفقا لمعناه الظاهري، وعندما يكون هناك تفسيرات مجازية ممكنة ويكون أحدهما هو الأقرب  للمعني الظاهري فعلينا تفسير النص وفقا للتفسير المجازي القريب ومن ثم التفسير المجازي البعيد، إذا دعت الحاجة (عبد-الجبار، 1996).” أما المدرسة الأشعرية المعاصرة فقد ركنت إلى إعتماد الإنسان في معرفته علي نيابة الوحي في إستنتاج الحقيقة وخضوع إرادته لخير تسيير  بارئها ومن ثم وجب عليه تحمل تبعات خطيئة قصور معرفته وإيمانه. هذا لأنه، في رأي الأشعرية، أن نهج المعتزلة لم يأخذ في الإعتبار قصور العقل البشري في إختراق حجب عالم ما وراء الطبيعة للتحقق من جوهر المعرفة ومنبع القيم والأخلاق، الشيء الذي يتطلب قدرات معرفة الإلهام والوحي وإلا لبقي كلام القرآن محفوظا – مصون في اللوح القديم ومنذ الأزل.

رواية “الإنسان المُعلَق”، لعالم الطب والفيلسوف ذو الأصول الفارسية, إبن سينا (Marmura, 1986)؛ رواية “حَي بنْ يَقْظان” لعالم اللاهوت الأندلسي إبن طفيل (ابن-طفيل، 2012)، و”الرسالة الكاملية في السيرة النبوية” للطبيب – الفيلسوف – الدمشقي، ابن النفيس (ابن-النفيس، 2019) والتي سارت بين الناس في ما بين القرن التاسع والثالت عشر الميلادي على التوالي، – ثلاثتها كانت متشابهة في كونها روايات نصف – فلسفية؛ نصف-لاهوتية حاولت معالجة التوفيق بين  معرفة الوحي والمعرفة المبنية على الغرائز والحواس. أبطال الرواية الثلاثة: ‘الإنسان المُعَلق’ في رواية إبن سينا؛ ‘حَي بنْ يقظان’ في رواية ابن طفيل و ‘كامل’ في رواية إبن النفيس؛ ثلاتهم عاشو تجربة الحياة  والتعلم في عزلة تامة عن المجتمعات البشرية كحبكة مركزية دارت حولها الأحداث لإماطة اللثام عن أصل وطبيعة المعرفة وعلاقتها بالذات وعالم الحس واللامرئيات.

الإنسان المعلق في الهواء، والذي من خلال تجريده الظاهري من التجربة الحسية، حمل تشابه ظاهري مع حال الراوي نفسه، إبن سينا، حينما كان حبيسا للسجن فى قلعة ‘فردقان’ النائية والتي تبدت وكأنها “في وادٍ غير ذى زرع”، تحيطه قفاراً من قبلها وبعدها غفار والتي في كنف عزلتها المجيدة توصل إلى حيث رابط الوحي الذي يهديهه لمعرفة الحقيقة فإرتقى عقله الصاحي(1) وتجلت ذاته عن روحه المثالية، الواعية بنفسها والمستقلة عن جسده الفاني.

إختلفت الروايات عن سبب سجن ابن سينا، الكاتب الموسوعي، والطبيب والفيلسوف والروائي والسياسي، الفارسي المسلم، الذي أخذ عن الفارابى فلسفه الوجود التي تنزه الخالق عن معرفة الصغائر وتؤكد على فناء الأجساد بعد الممات. أما عن أرسطو فقد أخذ ابن سينا نهجاً شبيهاُ في مقاربتة لمعرفة المسلمات التي لم تستثني حتى التساؤل عن وجود الخالق المنزه ليقوم بتأليف كتابه “برهان الصديقين” على طريقة حوارات سقراط. هذا التعدد المعرفي والتحرر الفلسفي لأبن سينا، حمل إبن القيم أن يقول في عنه في كتابه “إغاثة اللهفان”: “وأما هذا الذى يوجد فى كتب المتأخرين من حكاية مذهب أرسطو فإنما هو من وضع ابن سينا؛ فإنه قَرَّب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجَهْميَّة الغالين فى التَجَهُّم فهم فى غلوهم فى تعطيلهم ونفيهم أسد مذهباً وأصح قولاً من هؤلاء”.

هذه هي الظروف والأحكام التي تآمرت لتقود الشيخ الرئيس إلى السجن وحياة العزلة والتأمل والتفكير والتي قال فيها على لسان الدكتور يوسف زيدان فى روايته “فردقان ــ اعتقال الشيخ الرئيس”: “متى سأنتهى من هذه الدنيا، ثقيلة الوطء – سخيفة الإيقاع وقد صارت ساعاتها مريعة؛ فلا مشتهى لى فيها يشاغب باطنى فيشغلنى حينا عن فنائى المحتوم؛ ولا مطلب يذهب عنى، ولو بالخادعة، يقينى باقتراب خراب هذا العالم…أعالج مريضا، فتفتك بالألوف الأمراض والحروب وهوس السلطة وسطوة السلطة (زيدان، 2018).” العزلة إذاً، بالنسبة لأبن سينا، هي عالم المكان وظرف الزمان الذي ألهمه روايته حى بن يقظان وفيه خط كُتبه “الهداية”، “رسالة القولنج” و جزء من كتابه العظيم، “القانون فى الطب”.

إختار ابن طفيل وابن النفيس شخصيتان متشابهتان ليمثلا الدور المحوري الذي تدور حوله أحداث روايتي خيال تجربتهما الفكرية. من ناحية، وبنظرة لعنوان رواية ابن طفيل “حي بن يقظان”، نجد أن كلمة ‘حي’ في اللغة العربية تتجزر في معني كلمة الحياة السعيدة، الغنية بالمعرفة والإنجازات، في حين كلمة ‘يقظان’ تعني العقل الفضولي، الصاحي والمنتبه لتلقي تلك المعرفة. أما إذا نظرنا إلى عنوان رواية إبن لنفيس “عالم اللأهوت العصامي”، في إطار حبكة العزلة التامة، فهي تشير إلي طبيعة تفرد الإستعداد العقلي والبدني المُسْبق لبطلها ‘كامل’ والذي يدل إسمه علي سمو الروح ورجاحة والعقل وكمال الجسد. في كلٍ من القصتين، وكل في حاله، لعب حي و كامل  دور البطلان الذان يمتلكان بالفطرة القدرة علي التعلم الذاتي ( أوتوديداكتيك).

الطفل الوحشي، حي، أرضعته أُمه بالتبني، الظبية التي فارقت الحياة وتركته وهو لم يزل طفلا صغيراً – يافعاً ليتررع ويبلغ مرحلة النضوج من العمر وهو جاهل بالعالم الذي يعيش فيه. بدأ حي مشوار معرفه جوهر ذاته، نفسه – بنفسه،  عندما قام بتشريح جثة أمه الظبية ليكتشف أنها قد توفيت بسبب فقدان الحرارة “الغريزي”. من بعد ذلك، ومن خلال تجربة حياة الإنعزال التام  مر حي عبر تجربة من التفكير العقلاني والممنهج والذي بدت في ظاهرها تسلسل مرحلي من معرفة المفاهيم القائمة علي تجربة إدراك الحواس، تمكن من إكتشاف غريزة الأمومة، ثم غريزة الوفاة، ثم إدراكه للأشياء من خلال حواسه واهمية المتاع المادي في تحقيق الراحة والتوافق الإجتماعي ليدرك في نهاية المطاف من القدرة علي التامل وتلقي معرفة الوحي والإلهام.

أما ‘كامل’، بطل رواية “عاِلمْ اللأهوت العصامي, فقد نشأ وترعرغ وحيداً إلي لحظة وصول ‘عبسال’ الذي تقطعت به السبل عندما تحطم مركبة على شاطئ الجزيرة المهجورة فتنزل بها مرغماً ومن غير إختيار كسر طوق عزلة كامل ثم إصطحبه معه في طريق عودته إلى مجتمعه الحضري ليترعرع كامل وينمو في كنف المدينة وحضن الحضر إلى أن بلغ مرحلة التَعقُّل والنضوج. وصل سعي كامل  للمعرفة ذروته حين وصل العالم إلى فنائه المحتوم وعبر هو، بروحه وحدها، إلي عالم الخلود وغاية المعرفة والحقيقة. هكذا، بإختلاف وتباين الأخر وبتجربة مماثلة لتجربة حي المعرفية،  بدا كامل مشوار معرفته في مكان محدود ومن خلال حس ووجدان مصدود ليكمله في حاضرة المدائن وبين زحمة مناظر الأشياء وتباين الآراء فنفذ  إلى معرفة روح ذاته المثالية، المستقلة عن وجوده المادي، الأقل أهميةً وإعباراً.

المعرفة المستمدة من النص الديني على طريقة الأشعريين أو تلك المستمدة عن طريق سيادة العقل على النص في الفهم والتفسير كما رآها المعتزلة؛ معرفة الغرائز؛ معرفة المفاهيم القائمة على الإدراك من تجربة الحواس لابن سينا وابن نفيس وابن طفيل؛ كلها  طرق للمعرفة وإن قادت لحقائق مختلفة عن الوجود، لكنها تبقى وسائل للمعرفة وردت في عقل ايدلوجيا الإسلام لتؤكد على تعدد أصول المعرفة ومنشئها والأم من ذلك، قصورها الذاتي في الوصول لحقيقة الحقائق.

هوامش

  1. في علم ألرياضيات، التجريد الارتقائي هو عملية تحويل المسند إلى شكل آخر من أشكال علاقة المسند؛على سبيل المثال: ‘الدين مقدس’ إلى الدين لديه قدسية.

 

د. عثمان عابدين عثمان

[email protected]

https://www.facebook.com/notes/osman-abdin-osman

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..