سنيّ الحسرة والانتكاس..!!

لوجه الوطن/ عمر العمر
لو الحكمة تجلت لرجل من أهل الإنقاذ لكان هو بكري حسن صالح يوم قال معالجة الأزمة الاقتصادية تتطلب مدرسة مغايرة، ربما يكون من العسير الاتفاق على وجود مدرسة بعينها تدير اقتصاد البلد منذ هبوط الإنقاذ، فرضية وجود مثل هذه المدرسة يثير أسئلة ملحاحة عن طبيعة مناهجها، هي أقرب إلى مدرسة المشاغبين من توصيف أي مدرسة أخرى، حتى لا نظلم الكوميديا الشهيرة، فهي مدرسة للمجربين المغامرين، وضع الاقتصاد تحت الإنقاذ ظل في حالة انتكاس، يمرض ولا يبرأ، يتدهور ولا يتقدم.
الواقع ليس وحده الاقتصاد يتطلب مدرسة مغايرة.. البلد بأسره يحتاج مدرسة جديدة بغية إصلاح حاله؛ في التعليم، في الخدمات، في الإدارة، في الثقافة، في الرياضة كما هو الاقتصاد.
جميع تلك الميادين تشهد اعتلالاً مريعاً حد الموات. إذا شهد بعض منها جهداً للعلاج فذلك جهد ساقها إلى طور الانتكاس، أيما مقارنة بين ما كانت عليه قبل الإنقاذ وما هو عليه الحال يثبت لا محالة هذه الخلاصة المحزنة.
في ظل القتامة المكتنفة الأفق تعرض الشعب بأسره إلى مرض الحسرة.. نحن لا نشعر فقط بالألم باعتباره إحساساً إنسانياً طبيعياً، بل كذلك يعضنا الحزن على نحو مؤلم فنسعى إلى تخفيف الألم والحزن بالهروب إلى الماضي، هذا لا يتخذ نوبات الحنين، وهي كذلك مشاعر إنسانية مألوفة، بل هي حالة مرضية مزمنة.. هكذا طال بنا المقام في ظل الإنقاذ بين الانتكاس والحسرة، هذا الوباء لم يستثنِ أحداً بما في ذلك شريحة عريضة من أنصار النظام.
لو أردنا الاستشهاد بما يشهد على ذلك التدهور المريع لاستغرقنا العد حد الغرق، هناك شواهد لا تستولد فقط الحسرة والحزن، بل تثير الحيرة والدهشة، نهاية مشروع الجزيرة معجزة إنقاذية شاخصة على الإخفاق، هذا شاهد لا يوازيه إلا انفصال الجنوب، لو جرى تكريس قسط من عائدات النفط لتطوير المشروع لجنينا تأمين مستقبل أجيال، يا للمفارقة المبكية إذ بشر عدد من متطرفي النظام إثر «الجمهورية الثانية» العمي بتأسيس الانفصال لكنما ما حدث لم يكن أكثر من التوغل في سني الانتكاس والحسرة على نحو أشد ضراوة أتى الإنقاذ ولدينا دولاب خدمة مدنية بالغ الفعالية يقوم بأمره كفاءات مهنية عالية ذوو أخلاق فوق الشبهات، لكن الإنقاذ أتت عليه فتركته كالرميم.
مع كل بارقة أمل تلوح لوقف الاستنزاف في منعرجات متباينة في المشهد السياسي ينهض متمرسون في نشر العنف وإجهاض الفرص ليس من أجل وأد تلك البارقة، بل أكثر من ذلك بغية تحويلها في الاتجاه المضاد تماماً.. بعض بمبادرات ذاتية وبعض بتحريض.. هؤلاء يشكلون طبقة ممانعة إسفنجية ما تزال تمتص كل محاولة من شأنها تفكيك تروس النظام ذي العين الواحدة قصيرة البصر، لذلك تبدو الانتخابات، المؤتمرات كما لقاءات المصالحة ضربًا من عصير طواحين الهواء.
ما يطلق عليه النهج الحضاري يمثل إحدى مظلات الوهم المرفوعة فوق الرؤوس في العهد الإنقاذي، تلك أكذوبة أخرى تشكل الحسرة ملمحاً من أعراضها، أما جانبها المدموغ بالانتكاس فيتجسد في انتشار ثقافة الخوف الناجم عن الاستبداد، هي ثقافة أتاحت للجهلاء الحديث بصوت عالٍ بلسان الدولة متسلحة بكل عتاد شرس متاح في ظل الثقافة نفسها احتكرت فئة
مشابهة حق التفكير بالإنابة عن الشعب والتعبيرعما يجول في خاطره أو يراود آماله أو أحلامه.
ما من نتيجة منطقية عن هذا الاحتكار الشرس غير الإقصاء كلاهما؛ القمع والإقصاء حملا المواطن العادي على النأي بنفسه من الانغماس في الشأن العام، بل بلغ به اليأس حد تخليه عن الدولة تواجه مأزقها الضاغط مع نظام حزبي يتسم باللامبالاة تجاه القضايا الوطنية، كذلك في السياق نفسه ضمن القانون الفيزيائي القائل لكل فعل رد فعل مواز له في الاتجاه المضاد عزفت نخب عن المشاركة في الإدارات الحكومية تاركة مدرسة الإنقاذ تتحمل أوزار التدهور المريع، الدولة ليست جهازاً فوقيا كما يتصور أساتذة مدرسة الإنقاذ، بل هي كائن حي يتفاعل مع المواطن ومنظماته، وحدهم القادرون على التنازل عن قناعاتهم الذاتية أو من ليس لديهم قناعات ارتضوا التورط في المأزق مقابل إغراءات مادية موقوتة.
في ظل الاحتكار والاستبداد المتزامنان مع الأزمة الاقتصادية استشرت أمراض اجتماعية ليس أدناها التفسخ الاجنماعي كما ليس أرذلها البطالة، ليس بغريب تحول الوطن إلى منطقة طاردة يتناثر شبابها في مدارات الدنيا هرباً من وطأة الحسرة والانتكاس بحثاً عن الكرامة كما لقمة العيش.
كل ذلك الغبن المتراكم لم يثر انتباه أي من عباقرة مدرسة الإنقاذ من أجل العمل أو التحريض على احتواء تداعياته البادية في التشكل منذ السنوات الأولى للإنقاذ حتى بعدما حملت بعض بؤر الغبن السلاح أكثر تردياً في الحسرة أنه ما من عبقري أو واحد تصدى لمهمة تشريح انفصال الجنوب مبيناً حقيقة أسبابه، نتائجه، انعكاساته على الوطن والشعب وآفاقه المستقبلية، إذا كان الانفصال رغبة جنوبية مزمنة فهو نوبة شمالية طارئة استفحلت إبان الإنقاذ، لعل أعراضها بدأت في الزوال تحت الإحساس بصدمة فقدان الريع النفطي بينما تصاعدت حمى الحسرة والانتكاس في جسد الوطن العليل.
هذه المدرسة التجريبية لن تفتح أفقاً للمداواة والعلاج طالما ظلت تتوهم قدرة غير علمية لمغادرة المأزق، أي توصيف لا يركزعلى زيادة الإنتاج أفقياً ورأسياً لن يحدث فارقاً على صعيد الأزمة ولو قيد أنملة.
الجريدة