أجازة بدون مرتب ..!

كل عام وأنتم بخير .. أعاده الله عليكم كما تحبون .. وتقبل شهداء كارثة الأمطار الأخيرة قبولاً حسناً وألهم ذويهم الصبر والسلوان، ورحم أمواتنا جميعاً وأدخلنا وأحياءنا في درعه الحصينة وسترنا بستره الواقي، وكفانا ما أهمنا من أمر الدنيا والآخرة ..!

بمناسبة روحانيات العيد التي تغسل القلوب إليكم هذه الحكاية النبيلة التي سمعتُ ضيفاً تلفزيونياً يقصها على مشاهديه بعد أن غيرت مجرى حياته ..!

كان الرجل يستقل قطاراً في سفر طويل جمعه بغرباء مختلف ألوانهم، وكان من بين جلوس المسافرين أسير أو سجين، في يديه أصفاد، وعن يمينه وشماله عساكر يحرسونه، وكأنه سفاح متوحش في طريقه إلى تنفيذ حكم بالإعدام ..!

وكان من بين وقوف المسافرين طفل صغير دون الخامسة غارق في النعاس .. رق قلب السجين لحاله فأخذه بين يديه .. وأراح رأسه الصغير على فخذه .. فـتأمل راوي الحكاية منظر الطفل الذي نام في سلام، تربت على رأسه كف الأسير التي تمردت على أصفاد العساكر ..!

تلك اللمحة الإنسانية التي بدرت عن ذلك السجين ـــ رغم عتمة حاله وإظلام ما كان مسافراً إليه ـــ غسلت روح الراوي، ومنحته قبساً من نورها، فأخذ على نفسه عهداً أن يحذو حذو ذلك الأسير ما بقي حَياً ..!

هذه الحكاية الجليلة، الجميلة، أمسكت بتلابيبي .. وأعادتني بدورها إلى حادثة أكثر نبلاً بطلها فقيد العلم والفكر الدكتور الفيلسوف، محمود أمين العالم، صاحب نظرية المصادفة الموضوعية ـــ رحمه الله ـــ

والذي غادر دنيانا قبل بضعة أعوام .. حينما اعتُقل «العالم» في الخمسينيات كان سجانه يجلده بالسوط صباحاً وعندما يأتي المساء، كان ذات السجان يجلس إليه فيعلمه القراءة والكتابة، مجتهداً بإخلاص في محو أميته .. وكانت فلسفته في ذلك أن كل منهما ـــ السجان وهو ـــ يؤدي عمله في الحياة ..!

السجان يجلده لأن قادته أقنعوه بأنه عدو الوطن والدين، وعليه فجلده بالسياط واجب وطني .. أما هو فقد كان يؤدي عمله أيضاً، ذلك أن تعليم السجان وتنويره واجب وطني .. وهو حق الجاهل على المثقف الذي يدرك أن محنة أمته تكمن في وعيها، وأن دور كل مثقف هو أن يجتهد في بناء وعي الناس قبل أن يحاسبهم على أخطائهم ..!

الإنسان الحق يفعل مثل سجين القطار، النبيل .. فـلا يسقط معاناته على الآخرين ولا يقسو على الناس بحجة قسوة الغير عليه .. والمثقف الحق لا يقابل أخطاء الآخرين بالخطأ .. هو يعلم تماماً أنهم ليسوا أعداءه .. ويدرك جداً أن الجهل ـــ في كل مكان وزمان ـــ هو العدو الأولى بالمعارك ..!

ويبقى عيد الفطر مناخاً جيداً لنمو الإيماءات الإنسانية، بعد كساد سوق المعاصي بسبب عطلة إبليس الرمضانية.. حتى الأرواح الشريرة تأخذ ــــ في مثل هذه الأيام ــــ أجازة بدون مرتب .. فما بالكم بوجوه الإحسان! .. كل عام وأنتم وأحباءكم كما تحبون ..!

الراي العام

تعليق واحد

  1. مقال جميل يا بنت ابى زيد .. وهاك قصة احداث حقيقية ربما لا يعلمها الا نفر قليل من موعودى الثمانين من العمر.. الرئيس الراحل اسماعيل ألأزهرى ايام نضاله ضد ألأنكليز قاد العديد من المظاهرات وكان يتم اعتقاله ويقدم للمحامه وطبعا تم سجنه .. فى احدى اعتقالاته تعرض لصفعة بالكف من المرحوم بابكر الديب عندما كان ضابط بوليس .. ودار الزمان وظل بابكر الديب يترقى ويترقى الى تولى منصب وكيل حكومة السودان فى مصر فى اواخر حكم ألأداره البريطانيه فى السودان ..
    * بعد فوز الحزب الوطنى ألأتحادى فى اول انتخابات برلمانيه تولى ألأزهرى -الى جانب رئاسة الوزاره- حقيبة وزارة الداخليه التى كان منصب وكيل حكومة السودان يتبع لها .. طبعا بابكر الديب ظن انه لا محالة سيغادر موقعه بجكم عمله فى كنف ألأستعمار وتنفيذه سياسات ألأنكليز فضلا عن صفعه رئيس الوزراء ووزير الداخليه “ألأزهرى” فى سوابق الأيام ..
    * تخيلى ايتها السيدة الفضلى ماذا حدث لبابكر افندى الديب .. استدعاه ألأزهرى وابلغه بترقيته وابقائه فى منصبه فى مصر – اول سفير للسودان فى القاهره .قائلا له: يا بابكر الديب:
    الحكومه قررت تعيينك سفيرا للسودان فى مصر ..نظرا لكفاءتك وتفانيك فى القيام بواجبك حسبما افادت به تقارير رؤسائك الموجوده فى ملف خدمتك ..و نحن نعلم ان كل ما كنت تقوم به من عمل خلال تلك الفتره كان من وحى اخلاصك لمخدمك وقيامك بواجبك (لم يذكر ألأزهرى من بعيد او قريب صفعة الكف التى تلقاها من الديب) وان الحكومه عندما قررت اسناد منصب سفير السودان فى مصر لك لعلى ثقة كامله انك ستواصل تفانيك واخلاصك لخدمة السودان .. تفضّل الى مقر عملك راجين لك التوفيق من عند الله…
    تقولين ماذا تقولين فى عظمة حكام السودان فى سوابق االازمان .. بالله موش كانوا كبارا بحق!!! اولاد بمبه موش بيؤولو “ايش قاب لقاب” ,,,

  2. موضوعك جميل جدا يا مني و لكن وددت لو كنت وضحتي لنا من هو الدكتور/ محمود أمين العالم، صاحب نظرية المصادفة الموضوعية و ما سبب اعتقاله في الخمسينيات حتي تعرف الاجيال التي لم تعاصره عن هذا العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..