المحارب.. رواية.. الحلقة العاشرة..

مر يومان على حادثة السقوط وقلب اشرف يزداد تعلقا بالحورية، فاراد ان يعرف ان كانت تبادله ذات المشاعر، ولكن انى له ذلك؟ يومان مرا ولم تظهر حنان مع رفيقاتها اللائى يأتين الى النهر للسقيا، خشى أن يكون قد اصابها مكروها، أو انها اقلعت عن ورود الماء بعد ذلك الحادث، لا سيما وهى المدللة التى لايمكن ان تُعرض حياتها للخطر.
مرت الايام تباعا واشرف ينتظر ظهورها على احر من الجمر فما من طريقة اخرى يستطيع بها رؤية حنان، وبعد مرور اسبوع باكمله ظهرت ورآها اشرف وهى تتمخطر بين صويحباتها وهن يتهادين وحَمْلُ الماء على رؤوسهن، طار لبه وتسارعت دقات قلبه، وتأوه فى صمت .. اسبوع باكمله وهو يذرع الطريق المفضى الى البحر جيئة وذهابا، والألم يعتصر قلبه الذى لم يعرف مرارة الوجد من قبل .. ها هى الان مقبلة نحوه تفصلها عنه خطوات .. لم يصدق عينيه فى البداية، ولكن ها هى الآن امامه.. تبادلا النظرات.. ابتسمت فى دلال واضح دون ان تحس بها رفيقاتها.. رفعت يدها كانها تمسح قطرات الماء التى نزلت من وعائها على خديها، ولكنها فى الحقيقة كانت تحية لاشرف الذى شعر بانه اصبح ريشة فى مهب رياح الغرام وان الارض تميد تحت قدميه، وحنان ترمقه بنظراتها الولهى، وتتثى فى غنج كانها غصن تتلاعب به الريح.
بلقائهما العابر الصامت هذا، والذى تحدثت فيه لغة العيون، قدر اشرف ان حنان تبداله ذات المشاعر وانه يجب عليه ان يخطو خطوة ايجابية ويخطبها من ابيها، تذكر ان اباها رفض كل من تقدم اليها دونما اسباب واضحة، فهل يا ترى سيحظى بالارتباط بها ؟ احس بالضيق وهو يفكر فى ذلك، الا انه لم يشأ ان يفسد بهجة المشهد السالف، فغرق فى احلامه الوردية وهو يتجه صوب دياره.
دخل على والده متهلل الوجه فجلس قبالته بعد ان حياه، تحدثا فى مواضيع شتى، وكانت تتخلل حديثهما فترات رتيببة من الصمت، فاشرف يريد ان يفصح عن مافى صدره ولكنه لا يدرى من اين يبدأ، وماذا يقول؟
ماذا بك يا اشرف؟ القى حامد بسؤاله على اشرف وهو يلف المسبحة ويطوق بها معصمه..
– ليس هنالك شيئا.. فقط اردت ان..
– اردت ان تفتح معى موضوع الزواج، قالها حامد وهو يقاطع ابنه..
– نعم هو كذلك، قالها اشرف وابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيه..
– ووجدت العروسة؟.
– تقريبا..
– لا اريد اجابة فضفاضة.. الديك فتاة بعينها تودّ الارتباط بها؟
– نعم.. كريمة عبد القادر الشيخ.
صمت حامد قليلا قبل ان يقول، ولكن سمعت ان عبد القادر رفض كل من تقدم لها.
– فالنجرب، ربما كانت من نصيبى.
– لا ادرى ماذا اقول لك، ولكن فاليوفقك الله، عبد القادر الشيخ من خيرة رجال القرية، استطرد حامد وابتسامة غامضة ترتسم على شفتيه: هل اخبرت امك؟
– لا.. لم اخبرها.
– اذن اذهب واخبره، فهى تتمنى سماع ذلك منذ عدة سنين.
– ماهى خطوتنا التالية؟ قالها اشرف وهو يحس كان صخر ازيح عن صدره بعد ان اباح لابيه برغبته .
– كما ترى فانا رجل مقعد لا استطيع ان اذهب الى عبد القادر، ومن الافضل ان تطلب من عمك الصافى وخالك محى الدين ان يذهبا معك، وارجو ان تمروا على قبل ذهابكم.
انطلق من عند ابيه والفرحة لا تكاد تسعه فذهب الى امه اولا، وزف اليها بالخبر الذى انتظرته طويلا ..
استقبلت رقية الخبر بفرحة عارمة ، فانطلقت من حنجرتها زغرودة طويلة جراء النبأ الذى جعلها تخرج عن سمتها الذى عرفت به، فاشرف ابنها البكر قد حرمته الحياة من مباهج الشباب، وسجنته الظروف إذ حبسته المسئولية عن الانطلاق فى رحابها الفسيح، فمنذ شبابه الباكر القيت على عاتقه مسئولية اعالة الاسرة، فكان ان تحملها بشجاعة وصبر نادرين، مما جعله اقرب ابناء حامد لقلبى والديه.
انبسط اشرف وهو يرى الفرحة تغمر والدته، واطربته زغرودتها التى عبرت عن احساسها بالسعادة، فقال لها وهو يهم بالخروج: ارجو ان تدعى لى بالتوفيق، ثم استأذنها وانصرف تشيعه دعواتها.
خرج قاصدا منزل عمه الذى لا يبعد عن منزلهم الا امتارا قليلة.. دخل على عمه واخبره ان اباه يريده فى الحال، دون ان يعلن عن الاسباب التى دعته لذلك.
– خير.. هل جرى لابيك مكروه؟ سال الصافى وقد اتسعت حدقتاه الى آخرها..
– لا، خير، فقط يريد ان يستشيرك فى امر طارئ.
– وما هو الامر الطارئ هذا الذى لا يحتمل التأجيل.
– ستعرفه من ابى حينما تقابله.
– اذن هيا بنا، قالها الصافى ثم هب واقفا وحمل عكازته وخرج بصحبة اشرف الذى تحدث مع عمه قائلا، لدى مشوار آخر، سأغيب خلاله عشرة او خمسة عشرة دقيقة وسأوافيكم بعدها بالبيت.
استاذن عمه واتجه نحو منزل خاله والبشر يطفح من وجهه، والآمال بالظفر بحنان تملأ فؤاده الذى فاض صبابة .
استأذن بالدخول على خاله فأذن له فدخل على محى الدين الذى رحب به واجلسه بجانبه، لم يكن لدى محى الدين صبر، فسأل اشرف المنبسط الاسارير كغير العادة عن سبب انبساطته والزيارة المفاجئة التى شرفهم بها ، فأخبره ان اباه يريده لامر ضرورى ،الح محى الدين الذى تملكه الفضول فى معرفة السبب، الا ان اشرفا رفض ان يخبره باى شئ متعللا بانه لا يدرى شيئا عن السبب الذى دعى والده لان يطلبه.
خرجا سويا وهما يتحدثان عن موسم الحصاد الذى شارف على المجئ، ايام قليلة تبقت على حصاد القمح، والقطن الذى بقى على نهاية جنيه ( لقطة ) او ( لقطتين ).. كان محى الدين يتحدث عن نجاح الموسم واشرف لا يكاد يسمع منه شيئا، إذ سافر بخياله الى عالم حنان، وحلقت روحه ترفرف هائمة حول ذلك العالم الساحر الذى شاده بخيوط من نور.
وصلا الى البيت ودخلا على حامد وكان بمعيته اخوه الصافى، جلسا اليهما بعد ان اديا التحية، قال حامد الذى كان مستلقيا على ظهره مبتدرا الحديث: بعثت اليكما لموضوع يخص ابننا اشرف ، فكما تعلمان فهو فى التاسعة والعشرين من عمره ولا يزال اعزبا.. نريد ان نضع حدا لهذه العزوبية، ونكمل له نصف دينه فما رأيكما؟
نود ان نعرف رأى اشرف اولا.. قال محى الدين ذلك وهو ينظر الى اشرف شذرا.
– هذه المرة اشرف هو من طلب ذلك . قالها حامد وهو يركز بصره على مروحة السقف التى تدور فى هدوء ورتابة، واصابعه تعبث بحبات المسبحة.
– تحدث الصافى قائلا: اذن على بركة الله، واستطرد مستفسرا؟ وهل وجد عروسته؟
– هذا ما طلبتكما من اجله، ابننا يرغب فى مصاهرة عبد القادر الشيخ، واريد منكما ان تذهبا اليه وتطلبا يد ابنته ولا باس ان تأخذا معكما اشرف ان لم يمانع.
دخلت على مجلسهم رقية تسبقها رائحة القهوة التى جاءت بها، وضعت الاناء على المنضدة بجانب زوجها، فقال محى الدين موجها حديثه لرقية: لعلك تعرفين لماذا نحن هنا، فما رأيك؟
– رأيى فى ماذا؟، قالت رقية ذلك وهى تقوم بصب القهوة، ثم اردفت: ان كان فى مبدأ الزواج فهذه امنيتى التى خشيت ان الا تتحقق، اما ان كنتم تريدون رايى فى العروس، فما كنت رافضة امرا تفصلون فيه انتم، وفى النهاية الراى عند اشرف، فهو رجل عاقل ولا بد انه فكر كثيرا قبل ان يقبل على امر كهذا.
– عين العقل، هذا ما اردنا سماعه يا رقية، قالها الصافى وهو يتناول منها الفنجال الذى كانت تفوح منه رائحة البن مع غلالة البخار المتصاعد.
جلس اشرف صامتا يتنقل ببصره حولهم الى ان توجه اليه خاله بسؤال جرئ جعل ضربات قلبه تزداد فى تسارع محموم، فقد سأل محى الدين فى جرأة يحسد عليها: أوتحبها يا اشرف؟
ازدرد اشرف ريقه إذ لم يتوقع مثل هذا السؤال، فقال متلعثما : الامر لا علاقة له بالحب، رايتها مرة واعجبتنى فاحببت ان تكون زوجتى، قال اشرف ذلك وهو يعلم انه لم يقل الحقيقة، خشى ان يستشف الحاضرون ما بدواخله فقال بادب وهو يطأطئ براسه الى الارض وقد احس بمرارة القهوة فى حلقة لاول مرة: حنان كل شباب القرية يتمنون الارتباط بها.
حسنا، متى سنذهب لوالدها؟ القى الصافى بسؤاله، وقبل ان يجيبه احد قال: من رأيى ان نذهب مساء اليوم بعد صلاة المغرب.
ثنى محى الدين على كلام الصافى، واضاف خير البر عاجله، قالت رقية وهى تجمع الفناجيل وتضعها على الصينية: أسأل الله ان يتمم من غير عسر.
نهض الصافى ومحى الدين مودعين حامدا ثم غادرا بعد ان اتفقا مع اشرف على ان يلتقيا به فى المسجد ويتحركون من هناك بعد صلاة المغرب.
مشاعر عدة اعتملت فى نفس اشرف؛ الخوف، والرجاء، والفرح، والشوق.. مشاعر جعلت الزمن فى حالة توقف تام، كان منذ ان انفض جمعهم يترقب فى قلق موعد انطلاقهم لبيت من ملكت قلبه خلال ايام .
الله اكبر.. الله اكبر.. سمع صوت الأذان، فانخلع فؤاده، وتشتت فكره، وظل يسائل نفسه هل ساحظى بقبول عبد القادر؟، وكيف ستكون ردة الفعل إن رُفض؟ تنهد من اعماقه محاولا طرد هذه الخواطر السوداء، فطلب من والديه الذين كانا ينظران اليه باعجاب ان يدعيا له بالتوفيق.
خرج فى كامل زينته، تشيعه دعوات حامد ورقية، وتوجه صوب المسجد وهناك التقى بعمه وخاله، واقيمت الصلاة، صلى بقلب لم يعرف الخشوع اليه سبيلا، لدرجة انه لا يتذكر بم قرأ الامام .. انتهت الصلاة وخرج ثلاثتهم نحو وجهتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..