مِصْرُ..أسْئِلَةُ الرَّهَانِ السِّيَاسِيِّ

كيف يمكن التعامل مع فكرة بناء الوطن بغير استدعاء الانتماء المذهبي والطائفي للفصائل المشاركة في هذا البناء؟
بقلم: د. بليغ حمدي إسماعيل
لا يحتاج المواطن المصري إلى دليل أو برهان قاطع كي يؤكد به ما توصل إليه من استنتاج بأن بضاعة المسألة السياسية في مصر أصبحت بالفعل كاسدة، وأن دعوات الحوار والاتفاق والوصول إلى حالة من التراضي بشأن المصالح والمطامح المتباينة صارت فاشلة أو بالأحرى لا طائل منها ما دامت القوى السياسية نفسها متناحرة ولا تسعى جدياً في تحقيق مصالحة سياسية من أجل نهضة وطن كثيراً ما أكدنا وشددنا على أنه بالحق يستحق لكنه يُسحق الآن من خلال الصراع السياسي والحشود التي دخلت المشهد السياسي، وهي لا تعي أصوله أو قواعده لذلك فهي لا تنصاع إلى ضوابط هذا المشهد وشرائطه.
والحوار السياسي بدلاً من أن يحل مأزق المشهد السياسي الراهن زاد عقدته، وأفرز طوفاناً من التصانيف والتقسيمات السياسية التي تدل على انشقاق الصف الوطني بوضوح، وأسهم الإعلام بجميع ألوانه في الانحراف عن مسار الحوار السياسي الإيجابي فتعمقت التصنيفات وزادت الهوة بين كل فريق سياسي ينتمي إلى صنف أيديولوجي متباين في الرؤية والرسالة والتوجه ومن ثم العمل.
ولم يفلح الإعلام في الإجابة عن أسئلة الرهان السياسي مثلما لم تفلح موائد الحوار والتفاوض أيضاً، وللأسف صار الحوار جدلاً صاخباً وعدائياً ووحشياً في بعض الأحيان، وظهرت الطائفية والمذهبية بحدة من خلال التصريحات والشعارات في الوقت الذي لم يتوقف فيه نزيف التصنيفات التي اجتاحت المجتمع المصري عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير وازدادت باضطرام واستعار منذ عزل الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي من منصبه.
وأصبح من قدر مصر أن تتعامل كرهاً أو طوعاً مع هذه التصنيفات والتقسيمات الأيديولوجية، لكن المشكلة أن أصحابها في حالة قطيعة مستدامة مع الآخر، وكل فصيل ذهب يكيل الاتهامات للفصائل الأخرى مستخدماً في ذلك كل ما أوتي من أسلحة مشروعة وغير مشروعة مما استحال الحوار والاتفاق في ظل هذه الحرب التي لا تنقضي، والمشكلة أن كل فصيل سياسي في المشهد الراهن يحاول أن يقصي الآخر ويرى أن بإمكانه إلغاءه فعلاً، وإذا اجتمعت كل الفرق والطوائف السياسية الموجودة الآن على المشهد فهي تتفق على أن المجتمع يجب أن يتوحد على رأي سياسي واحد. ورغم ذلك فإن الانتماءات السياسية والحزبية تفرق كلمتهم وتمزق جهودهم في الاتحاد وإيجاد مخرج مناسب وطبيعي من أجل توافق إيجابي بغير خسائر.
ومن الصعوبة في مصر عبر تاريخها الاجتماعي والسياسي المؤسسي حيث إن مصر أولى الدول التي عرفت شكل وأنظمة المؤسسات أن تعترف بإلغاء التنوع واعتبار أن المواطنين جميعهم كتلة بشرية واحدة وهو ما لا يمكن تصوره أو تحقيقه، وما يشكل أيضاً ضربة قاصمة للتنوع الثقافي والفكري الذي تطمح إليه مصر بعد ثورة مجيدة قامت أساساً على التنوع الأيديولوجي وإعلاء مكانة الفكر والتفكير.
ولكن سرعان ما يبدأ الحوار السياسي العام في مصر حتى تظهر جلية الانتماءات المذهبية والطائفية وهو ما نراه الآن من صراع بين مؤيدين للرئيس المعزول مطالبين بشرعيته في حكم مصر وبين معارضين لرجوعه مغلقين لفكرة العودة للوراء مرة أخرى، وسنرى هذا الطرح الثقافي المتصارع في أثناء صياغة وتعديل دستور البلاد والعباد على أرض مصر.
وأسئلة الرهان السياسي في مصر يمكن حصرها في تساؤل رئيس وهو كيف يمكن التعامل مع فكرة بناء الوطن بغير استدعاء الانتماء المذهبي والطائفي للفصائل المشاركة في هذا البناء؟
والسؤال جد خطير لأن بعض الفصائل السياسية حينما تدعى إلى الحوار بصورة رسمية أو من خلال منتديات نقاشية فهي قلما تهدئ من تصاعد صراعها الطائفي مع بقية الفصائل، بل تأتي ومعها كل الطروحات الأيديولوجية التي من شأنها تقوض أفكار ورؤى الفصيل الآخر، وكل هذا يقود بالضرورة إلى تكريس ثقافة الانشقاق في المجتمع.
وهناك رأي أكاديمي يرى أن الإعلام لا يصنع هذه الصبغة المذهبية ولا يعبر عن الصراع السياسي الراهن ويمجد لأحد أطرافه دون الآخر، بل يرى في الإعلام وسيلة لعرض المشكلة وعكسها فقط دون صناعتها.
ولكن لا يمكننا الأخذ بهذا الرأي في ظل حرية العرض والتعبير الذي تعيش في كنفها كافة وسائل الإعلام من غير قمع أو تعتيم، لذا فتلك الوسائط الإعلامية بإرادتها تشارك بفعالية في صنع المشكلة القائمة وزيادة غموض التساول السابق الذي طرحناه. ولا يمكن لأي عاقل أن ينكر دور الإعلام الوجه وغير الموجه في أنه أوقد جذوة الصراع، بل وزاد الاحتقان بين بعض الفصائل السياسية، وعلى الجميع أن يدرك خطورة انتقال أسلحة التدمير السياسية من أيدي الكبار أي من يمثل الفصائل والقوى السياسية إلى يد الصغار والصبية الذين يهرولون منددين بأفكار لم يفقهوها وبآراء لم يسمعوها من مصادرها الرئيسة.
ولا شك أن عملية تصنيف الآراء السياسية وإن كانت منهجية ومعترفاً بها في كافة الأوساط السياسية الدولية لكن في المسألة المصرية فهي ظاهرة تعصف حقاً بعملية البناء، فنجد من يُصنف على أنه ليبرالي وآخر إسلامي وثالث علماني ورابع شيعي وخامس بهائي وسادس إخواني إلى ما لا نهاية من التصنيفات، وهذه العملية في المرحلة الآنية تفتت عملية التشييد التي تقوم بها مصر اليوم من بناء لمؤسسات تشريعية وبرلمانية وأجهزة رسمية ونقابات، لأن التعامل مع المؤسسة الرسمية حسب الهوية يفقدها السيطرة على عملية التخطيط والتنفيذ، ويدخل كافة المؤسسات والأجهزة في مصر في معركة لا تنتهي من المرجعيات والسياقات الفكرية.
وحقيقة الأمر أن الاعتراض لا على تصنيف هوية المواطن، بل على ما يترتب على ذلك من منهجية في التعامل مع التيارات والهويات والأيديولوجيات الفكرية المتباينة نظراً لأن مصر منذ عقود لم تكرس لثقافة التنوع والاختلاف وأن الثورة رغم ما أحدثت من تغيير في النظرة النمطية الجمعية للمواطنين إلا أنها في ذات الوقت لم تقدم نظرية محددة الملامح في التعامل مع نماذج مختلفة في التوجه والثقافة، وترتب على ذلك وجود تصنيف إقصائي لبعض الفصائل السياسية، بمعنى أن يتم الإلغاء الكلي فكرياً واجتماعياً وربما يصل أحياناً إلى إلصاق التهم بالتخوين والعمالة والتجسس لبعض هذه الفصائل ويظل الوطن هو الخاسر الأكبر.
نعم، إن التعدد والاختلاف الثقافي أمر مرغوب فيه ويفتح أبواباً جيدة للاجتهاد والإبداع، والتعددية الثقافية تخلق مناخاً خصباً للطروحات الفكرية المتميزة، لكن واقع المشهد السياسي الراهن في مصر اليوم تتنافس فيه الأفكار على بعضها البعض في معركة الصعود والسقوط، وهذا الاختلاف في مثل ظروف آنية مضطرمة تقود حتماً إلى الخلاف والاختلاف.
د. بليغ حمدي إسماعيل
ميدل ايست أونلاين