مقالات وآراء سياسية

السودان.. إغلاق “سوبرماركت” القبيلة

عثمان ميرغني

في التراث الشعبي السوداني، مبلغ المدح في وصف الرجل بأنه ”ود قبايل“، والمرأة ”بت قبايل“؛ فالقبيلة في الذهنية المجتمعية قيمة أخلاقية قبل أن تكون مرجعية جينية، لأنها تربي وتنسج حول منسوبيها أكاليل الفخر وجُدر العيب، الفخر بالكرم والشجاعة ونجدة الضعيف، والعيب في البخل والجبن وغيرهما من شيم القصور البشري.

وقد خص القرآن الكريم ”القبيلة“ بالذكر مرة واحدة فجعلها في مقام الآصرة التي تنمى العلاقات الإنسانية (وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) الحجرات 13.

في السودان؛ الأسبوع الماضي وفي يومين فقط، أزهقت أرواح أكثر من مئة بولاية النيل الأزرق. قَتل بالهوية الجينية لقبيلة بعينها في المنطقة.

عشرات المقاطع المصورة وجدت طريقها لمواقع التواصل الاجتماعي تكشف أن القاتل حين يَقتل لم يكن يعرف المقتول، ولا اسمه و لا سيرته الذاتية ولا مقدار فضله وصالح عمله، فكل ذلك ليس في ميزان القرار عندما تُطلق الرصاصة أو تُغرس السكين أو تُرفع الفأس لتهوي على رأس الضحية، فقرار الإعدام هنا يعتمد على تهمة واحدة، هي الجينات.

والحادثة التي صدمت السودانيين كلهم لكونها في أكثر الولايات هدوءا وتعايشا سلميا بين مكوناتها المجتمعية، لم تكن هي الأولى، فقد سبقها قبل أسابيع قليلة مجازر في ولاية غرب دارفور قُتل فيها ضعف هذا العدد، وفي ولاية جنوب كردفان ثم ولايات الشرق، يتغير الموقع الجغرافي وتظل المجازر الدموية هي ذاتها لا تختلف إلا في أعداد الأرواح البريئة التي تحصدها ريح صرصر عاتية من الكراهية.

الرابط المشترك بين كل هذه المجازر هو الاستخدام السياسي للقبيلة كواحد من أسلحة الدمار الشامل، رغم إنكار الساسة المستمر لذلك، لكنها الحقيقة العارية التي يتستر عليها الضمير السياسي بالسودان.

قصور التنمية والخدمات وسبل الحياة الكريمة في غالب مناطق السودان يظل أحد مواجع المواطنين المزمنة التي يتعايشون معها بالصبر والعشم في مستقبل أفضل، ولكن الساسة يصنعون من هذه المواجع فواجع بتحويلها إلى بارود لا ينقصه إلا عود الثقاب. وما أسهل الحصول على عود الثقاب.

كل حركات التمرد المسلح في السودان، حتى قبل انفصال جنوب السودان، ثم في دارفور ثم في المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق (المناطق التي تشملها اتفاقية السلام الموقعة بمدينة جوبا أكتوبر 2020) كلها قامت على أكتاف ورايات ترفع شعارات التهميش والظلم لهذه المناطق.

إغلاق إقليم شرق السودان العام الماضي لقرابة الشهرين، مما أثر كثيرا على الاقتصاد السوداني، كان على حيثيات الظلم والتهميش والغبن الذي تنتجه مرارات غياب التنمية والخدمات الحتمية.

لكن على مر التاريخ السياسي السوداني المعاصر كانت تنتهي كل هذه المواجهات والتمرد بقسمة مناصب وكراسي في المركز يحصد ثمارها الساسة ويظل سكان هذه المناطق على حالهم لا يتغير قط.

وفي المقابل، كلما حَمي وطيس المعارك السياسية في العاصمة بين القيادات العليا أرسلوا في المدائن حاشرين للنظار والعمد والسلاطين من زعماء القبائل، الذين لا يرفضون دعوة داع ولا يسألونه فيم يدعوهم طالما البسط ممدودة.

وتنقل شاشات التلفزيون صور لقاءات حاشدة لزعماء القبائل الذين يستضافون في أفخر الفنادق ثم توزع عليهم الهدايا من السيارات الفاخرة، ولا يُطلب منهم سوى أن يضمنوا ولاءات قبائلهم بلا مقابل لمواطنيهم.

هذه الصور التي لم تنقطع عن المشهد السياسي السوداني توضح بجلاء بشاعة الأداة السياسية المستخدمة في حشد التأييد، دون أن تتمدد لمصالح المواطن وتغيير واقعه المتخلف القاسي.

لا أحد يجد تفسيرا لأن يحمل مواطن فقير سكينا ليقتل بها مواطنا آخر، لا يعرفه، وفقيرا مثله، بينما السياسي الذي حرض وشحذ الغبن والغضب آمن بين أحضان أسرته في الخرطوم يرجو أن تتحول بحور الدماء إلى نقاط فوز في حلبة السياسة.

ومع ذلك في تقديري أن الحل الجذري (قبل انتظار تداوي الذهنية السياسية الذي قد يطول)، هو بفك الارتباط بين المواطن والقبيلة في تمثيل المصالح.

صحيح أن القبيلة تبقى في موقعها الكريم في نفس المواطن عنوانا لمنصة أخلاقية، لكن تُسحب القبيلة من كونها الممثل لمصالح المواطن، طالما أن الساسة يستخدمون هذا الزر بالتحديد لإدارة مصالحهم وطموحاتهم.

ولتوضيح الفكرة أكثر، فإن العلاقة بين الحكومة المركزية أو الولائية والمواطن تقوم على مبدأ مختل تماما، في الواجبات تخاطب الحكومة المواطن مباشرة، وعند قصوره عنها تعاقبه مباشرة، فالمواطن الذي لا يدفع الرسوم الحكومية تدفع إليه الحكومة ”أمر قبض“ ممهورا باسمه الرباعي وتلقي به خلف جدران السجون..

وفي المقابل عند المغنم، لحظة الحديث عن المصالح فإن الحكومة – المركزية أو الولائية- لا ترى إلا المجموع المتواري خلف لافتة قبيلة أو جهة أو طائفة.

تعجز عين الحكومة عن رؤية المواطن مباشرة بلا وسيط – رغم كونها في المكاره تراه – وهذا ما يجعل مطالب المواطنين سلعة في المتجر السياسي، تباع بعيدا عنه وتساوم وتقايض بمنافع شخصية أو حزبية أو سياسية.

إغلاق ”سوبرماركت القبيلة“ يفتح نافذة للمواطن أصيلا عن نفسه لينال حقوقه كمواطن معرف بالرقم الوطني لا بالقبيلة، وحينها لن يذهب ناظر أو عمدة أو سلطان قبيلة إلى الخرطوم ليساوم باسمها، طالما أنه لا ينوب عن المواطن في حقوقه ومصالحه.

في برنامج ”ثمرات“ الذي استحدثه البنك الدولي لمساعدة المواطن السوداني لمواجهة مترتبات الإصلاحات الاقتصادية التي طالب بها البنك الدولي، كانت العلاقة مباشرة مع المواطن، بتعليمات البنك الدولي تدفع الحكومة مباشرة للمواطن لا عبر أي وسيط أو جهة تتاجر في النيابة عنه، كما هو الحال في العلاقة بين الحكومة وزعماء القبائل في السياسة.

مثل هذه العلاقة التي فرضها البنك الدولي على الحكومة من خلال برنامج ”ثمرات“ هي التي تنهي المتاجرة بمصالح المواطن وتحفظ القبيلة في معناها القيمي المعنوي لا المادي.

عندما يدرك المواطن أن مصالحه تأتيه مباشرة أو عبر النظام الهرمي للإدارة المحلية، فهو لن يبحث عن ولاء قبلي أعمى، بل حقوقه ومصالحه الشرعية التي يحصل عليها لكونه حاملا للرقم الوطني لا تابعا لزعيم القبيلة.

تصحيح العلاقة بين الحكومة –في مختلف مستوياتها- والمواطن، وإنهاء وساطة القبيلة أو الجهة أو الطائفة، يحرم الساسة من أحد أهم أسلحة الدمار الشامل التي تستخدم في اللعبة السياسية بالسودان.

‫9 تعليقات

  1. ( الضمير السياسي) تعبير ملتبس لأن من يمارس القتل وسفك الدماء او يعين عليه او يسكت عنه هى القوى التى تحمل السلاح من عسكر ودعم سريع وحركات مسلحة.

    المجتمع المدنى في كافة ربوع الوطن يئن تحت وطاة هذه الانتهاكات..

    كلما تباطا العسكر في الاعتراف والانسحاب من المشهد االسياسي فعلا قولا كلما اوجدنا فرص النجاة للمغلوب على امرهم من الابرياء .
    على القوى المدنية السياسية التوحد مع لجان المقاومة لانهاء الوضع المأزوم نحو الانتقال الصعب .

  2. المشكل يا استاذ ميرغني في القبيلة والادارة الاهلية، القبيلة خاضعة للادارة الاهلية والادارة الاهلية خاضعة لمن يدفع ويملأ البطون المنتفخة. كانت من شعارات ثورة اكتوبر الخالدة إلغاء الادارة الاهلية ولكن من ارجعها ومن استغلها الاحزاب الطائفية والاخوان المسلمون والجيش والحركات المسلخة.

  3. الجهل و عدم التعليم هي المشكله

    زي ما قلت ما الذي يجعل مواطنا يقتل مواطن اخر مثله متساويان في الفقر انه الجهل و عدم التعليم

    مجانية التعليم و الصحه نادت بهما الثوره ممثلة في وزيري الصحه و التعليم لكن قوي الشر و الاجرام ابعدتهما

  4. كما عودنا الاستاذ عثمان ميرغني بعد كل فترة من الزمن يخرج لنا الدرر. وهذا المقال من هذا النوع. خاطب مشكلة حقيقية عميقة كانت ولا زالت سببا رئيسيا في معاناة المواطنين في هذا البلد المنكوب.
    لهذا لابد من تشريعات قانونية قوية تجرم استخدام القبيلة في العمل السياسي وان تلغي بالقانون ما تسمي بالإدارات الأهلية والتي اصبحت معول هدم كما فعل الناظر ترك

  5. يجب الغاء الادارة الاهلية تدريجيا وذلك بالاستعاضة عنها بمجالس بلدية منتخبة، الادارة الاهلية سبب المشكلة وليست جزء من الحل. لا يمكن ان يعيش البعض كمواطنين من الدرجة الثانية في حمى قبلية اخرى، يجب الغاء الامراء والمكوك والنظار والسلاطين. رئيس وزراء بريطانيا السابق من اصول تركية واحد المرشحين لخلافته من اصول هندية ونحن ما زلنا في جاهلية الحواكير والسلاطين.
    كما يجب ان يفرض قانون الاحزاب ان يكون على راس الحزب قيادة لا يتجاوز اعمارهم الاربعين على ان يجدد للقيادة فترتين على اقصى تقدير، ويمكن تكوين مجالس استشارية من القيادات المخضرمة التي تمثل مستودع الخبرات تكون عونا للقيادة التنفيذية. نفس الامر ينطبق على الوزراء، يجب الا يتجاوز عمر الوزير الاربعين.
    على الثوار ولحان المقاومة في دارفور والشرق خصوصا وبقية مناطق السودان تكوين مجالس بلدية مؤقته تمثل كل منطقة ويتم سحب البساط من امثال ترك ومناوي وجبريل ومن هم على شاكلتهم من اصحاب الذمم المبذولة لمن يدفع.
    ليكن الشعار دولة فتية يقودها الشباب.

  6. المشكله ليست فى القبيله فهذه مقدور على حلها, لنا من علماء الإجتماع والمؤهلين لهذا العمل ما يكفى. المشكله الحقيقيه فى السودان هى تدخل العسكر فى السياسه. أولآ, لا يمكن لأى سلطه ممارسة الحكم دون أجهزه عسكريه تنفذ قراراتها. الأجهزه العسكريه التى مارست السلطه دون رقابه وإرتكبت المخالفات والجرائم لن تقبل الرضوخ لمن يحاسبها. من يشرف على إعادة هيكلة الجيش لابد أن يعى هذه الحقيقه. هم يصرون على إجراء عملية الدمج وإعادة الهيكله (برهان و حميدتى). إذن سيبقى على قيادة الجيش الوطنى الموحد,من يخاف المحاسبه ولن يستجيب لأى سلطه حزبيه تأتى عن طريق الديمقراطيه بتنفيذ قراراتها كما فعلوامع قرارات لجنة التفكيك أو غالبية قرارات حمدوك وستفشل أى حكومه غير التى يسندها هؤلاء العسكر. إذن الحل فى أن تشرف على عملية الدمج وإعادة الهيكله جهه تضمن أن يكون الجيش الواحد المؤهيكل تحت إمرة الحكومه الديمقراطيه الإنتقاليه أو المنتخبه.

  7. مشكلتنا مع السياسيين كانوا مدنيين أو عسكريين وحتى لو الغينا كلمة قبيلة من قاموس اللغة سيجدوا غيرها لممارسة تسلطهم على القطيع مره باسم المدنية ومره باسم الاستقرار والتنمية لذلك إصلاح السياسيين يجب أن يكون هو الهدف خاصه من النخب المثقفة والمتعلمة….اني لاعجب أن يكون هناك مثقفين أعضاء في احزابنا السياسية التي هي مجرد عصابات تسعى للحكم واتحدى اي عضو في حزب سوداني يقنعني بغير ذلك.

  8. كلام سليم يجب العمل به ويجب إعادة السلطات للضباط الإداريين ، قام الراحل جعفر نميري بإلغاء الإدارة الأهلية وأجتهد الراحل جعفر محمد علي بخيت في بسط الظل الإداري ولكن جاءت الأحزاب من بعدهم ومسحت كل ذلك وألغت به في سلة المهملات لأغراض معروفة نراها الآن .

  9. العنصرية كلمة مرادفة للقبلية.

    العنصرية في السودان مشكلة لا للحكومة وللاحزاب ولا للسياسة دخل فيها.
    هي مشكلة جهل ونظرة دونية لمكون من مكونات السودان.
    هذه النظرة بادرة من شخص في الأغلب جاهل تماما ولا يعرف كتابة اسمه.
    وهذه النظره متاصلة في السودانيين ويقوم بعض الآباء والاجداد بتلقينها وغرسها في أبنائهم واحفادهم لذلك تتاصل في نفوس البعض.
    اقول لمن يرى نفسه اشرف من غيره، بالله عليك قم بزيارة اي دوله من دول جوار السودان وسوف تعرف قدرك جيدا.

    ستعرف انك عبد لا أكثر ولا أقل… لذلك اتقى الله في نفسك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..