مباريات بين تلباثي الروح والواقع!!!

نواصل حديث الذكريات عن حديث الحب، من حيث هو حب، وكما يقولون من الحب ما قتل، وأمر ضحايا هلاريخ مشهود، فقد رحل أناس في سبيل حبهم، هكذا بلا تسجيل، وللأسف لأن أنديتنا ليس لها سجلات، وتاريخها كتاريخ السودان جزر متباعدة، فقد ضاع هؤلاء الشهداء بدون مجرد ذكرى، أو حتى الوقوف حدادا عليهم، وهذه من محننا المتطاولة الأمد حتى يوم الناس هذا، ولا شك أن مثل هذا الحب له فيوضات على آخرين في وجدانهم وقلوبهم وأرواحهم، سنواصل حديث الذكريات مع هذه الفيوضات لعلها ترقق وجداننا المجدب والمتصحر الآن من جمال وروح الإنسان.
أذكر في أوائل السبعينات، أنني خرجت من المكتب للإفطار برفقة صديقي المحامي الهلالي الكبير والوسيم الذي كنا نلقبه بالطيب عبد الله لوسامته وحسن معشره، وكان إفطارنا ببانت، وكان صباحا لمباراة هلاريخ في الدوري، ودخلنا مطعم عمنا برشم بسوق بانت، وبينما نحن في مكاننا، سمعنا نقاشا عن الكرة، فاقسم أحدهم قسما مغلظا أن المريخ غالب ثلاثة أهداف لواحد، وبدأ الرهان على ذلك، وأثناء تناولنا الطعام، تكاثر الناس، واحتدم النقاش، وأجمعوا كلهم أن النتيجة اليوم ثلاثة للمريخ لواحد للهلال، ثم قفلنا راجعين، وكنت قرأت صباحا في إحدي الصحف أن الناس شاهوا المرسيدس الأسود تجول في مايرنو بسنار، وهي كناية عن (ناس المريخ)، وأن المرسيدس لللأديب الأريب الحبيب القبطان: حاج حسن عثمان رحمه الله الذي رحل يوم جمعة، وكان رحيله مفجعا أبكي وأدمي العيون، ولمن لا يعرفون الرجل، فقد تربينا على أدبه الجم، وأسلوبه الثر الغني بروائع الأدب مع صفيه وخليله اللواء: عمر علي حسن رئيس نادي الهلال، ونجمه الساطع في الرد عليه، بينما يتواجه شاعر الروائع أبو آمنة حامد مع بدر الدين أبو رفاس سكرتير المريخ ومرور الخرطوم سابقا، والذي خلف في هذا المنصب الهام المرحوم العم: محمد علي عبد الدايم وهو من عائلتنا آل خواجة، ورحم الله من مات وأطال الله عمر من بقى.
وفي منزل العم محمد علي نفسه كان غدائي بامتداد الدرجة، فقد كنت حرا طليقا أتجول بين بيوت الأهل مثل طائر المحنة، نغرد بالمودة في كل بيت، وكان بالناس والبيوت سعة في الروح والمادة يومها، لكن غدائي جاءني قدرا، فقد كنت أمشي في الشارع لغير ما وجهة، واختطفني العم المرحوم محمد علي عبد الدايم بسيارته لبيته العامر دوما بضحكاته الأنيقة، وتطرقنا للحديث عن هلاريخ اليوم، وكان مريخي الهوى (من منازلهم) وهو الهوى الذي شاركه إياه صهره عمنا علي حسن الذي يحترق حبا للمريخ، بينما بقية منزله من الهلالاب، ولما رويت ما سمعت وقرأت، حلف إسماعيل ابن عمنا محمد علي أن الأمر خلاف ما أقول تماما، فقلت له: هلال مريخ لا منطق يحكمها.
ولكن المباراة جرت كما سمعنا في مطعم برشم ببانت صباحا، وعاد إسماعيل يروي أنه قبل المباراة دخلت حمامتان المرمى، وحاول شرطي طردهما بكل الوسائل، ولم ينجح، فولج هدفان في المرمى، وبين الشوطين حط صفر على المرمى الآخر، ودخل الهدف الثالث للمريخ، أما هدف الهلال، فقد سدده قاقارين، لأنه كاتف الهادي سليم والكرة في يده، ودخل بها المرمى، فاحتسبه الحكم: قنديل هدفا.
واحتج الهادي سليم فنال كرتا أصفر، وحصل التعديل للقاعدة لاحقا، والذي برر تصرف قنديل، حيث كان قنديل واعيا ومطلعا على التعديلات في وقتها، وهو ما أوضحه في برنامج الرياضة الراحلان منصور رمضان مدرب المريخ وأحمد قنديل الحكم، وأكدا صحة هدف الهلال، وجلب منصور فيديو لآخر تمرين للمريخ، وهو يكاتف الهادي سليم، محضرا إياه للاحتمالات كلها، خاصة أن قاقارين يعرف قانون الكرة، ويفهمه جيدا.
وانظر يا هذا عمرك الله – كيف كنا متقدمين وعيا وفكرا كرويا ناضجا ، يثير الدهشة، وقارنه بلاعبي اليوم من هم لا في العير ولا في النفير، أشباح تجري لا فكر، ولا موهبة، ولا انضباط، ولا أجسام، ولا لياقة، محنة والله وحكاية !!!
أما ما هو أغرب من ذلك، فهو ما حدث معنا، ونحن بطرابلس ليبيا أوائل الثمانيات، وكنا مجموعة بينها ألفة وتجانس لحد بعيد، وفي مساء عدنا من عمل مسائي متأخرين، ودخلنا بيتنا المبارك، لأن للأماكن كما للأوقات بركة وروح، وتألفنا للصلاة، أنا وصديقي محمد عبد الرحيم وضيف كان ثالثنا، وأمنا الأخ محمد رحمه الله، وقرأ بصوت شجي رخيم، كما العهد به، فقد كان صناجة اربا في التلاوة، وحداء في الحقيبة، وجلسنا لأداء الباقيات الصالحات، ونحن أفرغ من فؤاد أم موسي في أي شأن، ناهيك عن الكرة وخاصة هلاريخ، لأننا في ليبيا منقطعون عن العالم الخارجي تماما، وكنا نتبادل الأفلام المصرية والمسرحيات مثل تجار المخدرات، بل أكثر حذرا، ربما لو قبضوا، لما مسهم لغوب، كما لو قبضنا ومعنا فيلم من أي نوع، وقبل أداء السنة، وأنا أترحم على الأموات فجأة، وأنا أبتهل في الدعاء، ودون سابق إنذار، فإذا بي أشاهد أمامي عمي شقيق والدي، والذي كفلني بالتربية والرعاية واقفا في سوق السجانة، ويشرب شاي لبن لابسا جلابية سمنية، واضعا عمامته على كتفه، وكأنه رآني، فأشار إلى ضاحكا: أن الهلال فاز على المريخ، وهويضحك ضحكة مجلجلة، وقبل أن أفيق مما أشاهد، فإذا فيلم آخر يعرض هكذا أمامي، بلا حول ولا قوة مني، فإذا بي أشاهد مباراة لهلاريخ، وأن النقر الصغير أحرز هدفا في حامد بريمة، فتمالكت نفسي، من الفرح، فقلت في التو والحين: الهلال فاز على المريخ بهدف، مما أثار ولفت انتباه من حولي، وسألني محمد: متين وكيف؟ قلت له: شفتها الآن، فقال: وين؟ قلت له: على الهواء مباشرة، تآنسنا، ونسينا الموضوع تماما، لآنه لا أخبار سابقة، وخلال يومين لا أخبار لاحقة.
وفي اليوم الثالث أتى محمد عبد الرحيم من سوق المدينة، حيث يعمل، وإذا به تأبط خيرا جريدة، وقال لي: حرم إنت مجنون، يا أخي بالصدفة، ماشي في شارع أول سبتمبر، قابلت سوداني سلمت عليه، وعرفت انه جا من السودان يا دوب، وسألته عن الخبر، فقال: أهم خبر لو يعجبك الخلال فاز على المريخ بهدف جابو النقر الصغير، وأعطاني الجريدة فيها الخبر، وفيها بعص التفاصيل، والله على ما أقول شهيد، وهكذا تفعل كرة القدم بأهلها وأحبابها عندما تكون هي شهية، وفيها جمالها التي نعرف، ونعشقها بها، وعندما نكون محبين لها ولعشاقها من كل لون، لا يحمعنا إلا حبها، ولا يفرق بيننا إلا اختلاف ألوانها الزاهية، لذلك تلفي وجداننا أصفى من اللبن وأحلي من العسل.
ولا أذكر حين كنا ندخل المباريات أنه وقعت مشاجرة أو عراك، بل كانت النكتة وخفة الروح والدعابة هي المسلك، لأننا دخلنا للترويح عن النقس، وقضاء الوقت مع الأصحاب، ومن نعرفهم داخل الملعب، ونفترق آخر الليل أصدقاء أحبة لا يكدر صفونا هزيمة، ولا يبطرنا النصر.
وقد اختلف الوضع الآن في كل شيء، وما ذاك إلا أن الجيل القديم علاوة على التربية المنزلية، كان يجد أقلام الرياضة مليئة بالتسامح والمحبة، وكنا نتبادل ما تكتبه صباح المباراة داخل الملعب، بتعليقات فكهة وساخرة، متناقلين ما يقوله قبطان المريخ حاج حسن عثمان وبدر الدين أبو رفاس رحمهما الله رحمة واسعة، وكذلك عمر علي حسن وأبو آمنة حامد ومروان الفاضل الضابط الشهير، الذي أفتقد ظهوره واسمه اللامع، لقد أدى ذلك الجيل ما عليه لوطنه وناديه، وخلدوا أنفسهم السمحة في وجدان الأجيال المتعاقبة، وخلدوا إلى الراحة النفسية خفافا من أوزار الوطن، ورحم الله أيام الوطن فقد رحلت مع أساطينها لعبا وفكرا وأدبا وخلقا رفيعا، وتركونا والوطن في هجير عذابات المحدثين الذين لا أرضا قطعوا، ولا ظهرا أبقوا، وتركوا لنا الحسافة والمحن على الوطن الذي ينازع للبقاء فقط، وليس الحياة الجميلة التي نهوى ونعشق !!
لا يمكن أن نتكلم هنا عن مثل هذه المباريات المرتبطة بما وراء المنظور، ولا نذكر مباراة المحلة والهلال عام 1974باستاد الهلال إيابا بالبطولة الإفريقية، وكانت الذهاب قد انتهت بفوز كاسح للمحلة أيام السياجي وعمر عبد الله وعماش وغيرهم من عتاولة الكرة المصرية يومذاك، وكان مدرب الهلال الراحل الكبير الهادي صيام، وكان معظمنا يريد فقط رد الاعتبار، ولا نفكر في التأهل حتي لو ظلمنا الحكم الليبي بوختالة، والذي رغم ظلمه يومها، كان من نجوم المباراة، لذلك لم يخطر ببالنا نحن سكان الخرطوم أن ندخلها من شدة اليأس والفارق الكبير في الأهداف، إلا أن عصر يومها جاءني خلي الوفي محمود خليل الشقيق الاكبر للراحل فتحي خليل، وكنا جيرانا، ولكثرة التداخل بيننا، سأل أحد المارة زوجة محمود أي البيتين تسكنين، وكان يأتينا فيشاهد التلفزيون حتى لو كان في أي موضع، وكان يعد والدنا والده، يستشيره في أموره كلها، فجاءني ذلك اليوم، وهو متهلل بوجهه الصبوح ذاك قائلا: تصور خالتك صحت من النوم قبل شوية، وقالت الهلال حيفوز 4 لواحد، وظننت أنه يغريني بدخول المباراة، ويحمس والدنا لدخولها، ليصحبنا بالسيارة وحين عرضت ذلك قال:
لا والله هو في النهاية حلم، وليس حقيقة، وإن كانت زوجتي كل ما تراه يحدث، وشاهدنا المباراة بحوشنا حيث كنا نفرش الأبسطة، ونجتمع شبابا ورجالا في ألفة، بينما يجلس الكبار على الكراسي خلفنا، وانتهت المباراة كما هو معلوم للكافة، ووقع ظلم الحكم بنقضه لهدف قاقارين في نهاية الشوط، متعللا بانتهاء الزمن، حتى أن المستكاوي الكبير رحمه الله قال (هذا عدل عمر بن الخطاب) هذه دقة غير معهودة، ولكنها من ناحية هي لعنة الحظ االتي تلازم الهلال حتى الأن، ويجافينا درهم ليهزم قنطار الشطارة، ومن سوء حظنا في ضربات الجزاء أن الدحيش أضاع ضربة باستهتار غريب غريب، عطفا على حالة حارس المرمي عبد الستار الذي كان يبكي ويمثل، حتى فوت الفرصة علينا، وتلك سنة أخرى، ضاعت على الهلال، حيث كان الأحق بالفوز بالبطولة، وأذكر أن الدولة بومها تبرعت للهلال بمبلغ 3 آلاف جنيه تساوي اليوم 30 مليار، لاسترداد كرامة الكرة السودانية، ويومها فازت المحلة بالكأس، وهذا دليل أخر أن حب كرة القدم، لا يرتبط بصلاح أو بشخص معين، وإنما يرتبط بمقدار شفافية روح المحب، وصدقه تجاه محبوبه، وحق لمجنون ليلي أن يفقد عقله، ولديوان الشعر في الحب نهر خالد لا يتقف رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة وآليات التعبير !!!
وقد خذلتني الرؤيا في المقابل، فمع ما سردت أعلاه من ذكريات حلوة، إلا أن الرؤية خذلتني في مباراة الرد بنهائي أفريقيا أمام الأهلي المصري عام 1987، وكنا في (بيت عزابة) بقطر التي كنت وصلتها حديثا حينذاك، رفقة إخوتي خالد محجوب وحارث يوسف ومعاوية يس رحمه الله وحفظ الجميع، وأصر علي خالد أخي على الدعاء للنصر للهلال، وكان الجو مريحا والنفس صافية، فأكثرت الدعاء، وأريت في المنام أن الهلال سيفوز بهدف مقابل لا شيء، ويحرزه وليد طاشين، وهو الهدف الذي نقضه الحكم المغربي لاراش، مطابقا لما رأيته تماما، وبشرت خالد عندما سألني، لكن يبدو أنني رأيت نصف الخبر، بينما بقي النصف الآخر مخبوءا، والغيب كله بلا شك عند عالمه جلت قدرته وتقدست أسماؤه..
سيف الدين خواجة
[email protected]