أخبار السودان

المقال الصحفي للمعارضة

المقال الصحفي للمعارضة

صلاح شعيب
[email protected]

كنا، قبل أربع سنين، قد ألقينا باللائمة على الأحزاب، ولكن استدركنا أنها قد اندست في باطن الصحافة تعارض. فالأقطاب السياسيين، آنذاك وما زالوا، يتستعيضون عن الشغل الحركي السياسي بتدبيج مقالات صفحات الرأي، تلك التي تقرظ الحكومة، وتوعي الشعب، وتريح ضمير الكاتب. وبرغم ان معظم المعارضين من كبار البعثيين، تاريخيا، كانوا يولون الكتابة تقديرا، وحرصا، دون غيرهم. سوى أن أمر إحتراف كتابة الرأي الصحفي صار منتشرا وسط جل عضوية تنظيماتنا السياسية. والحقيقة أن هذه الرؤى المتضمنة في مقالات القادة السياسيين كانت ولم تزل، على بعض تراجعها في الداخل الآن، أقوى معارضة من مختلف الأعمال السياسية التي تتعدها الأحزاب التي ينتمي إليها هذا النوع من الكتاب.

إن هذا (الإندساس) في صفحات الرأي مفهوم، أيضا، بسبب أن الإنقاذ قد أغلقت بالضبة والمفتاح أي منفذ للإحتجاج. بل أن من الطبيعي أن تنفذ مادة الأحزاب المعارضة عبر أية كوة إنفتحت أمامها. وقد كان. ففترة ما سمي بالتحول الديمقراطي مثلت ذروة تسييس الرأي الصحفي من قبل العضوية الكاتبة من الأحزاب. هذه الفترة صحبتها، كذلك، عودة بعض الروح للعمل السياسي المتمثل في التعبئة السياسية عبر الندوات، والتحالفات العملية حول قضايا حيوية تمس المواطنين. وكذلك عبر الوسائل التي تصل القادة الحزبيين بالمواطنين القريبين والبعيدين، وعبر قليل من الحراك وسط النقابات ومنظمات المجتمع المدني، وعبر غيرها من وسائل العمل الحزبي الصفوي والجماهيري. وللأسف كانت نيفاشا قد بدت للسلطة إنفراجا من إحتقانات نشأت ضدها. ولكن الحكومة خافت أن تزول، فعادت بعد الإنتخابات إلى قديمها: الضرب، ثم الركل، فالبصق على الجثث التي تلقيها في قارعة الطريق. ربما للكلاب أو للتذكير وشتان ما بين الفكرتين.

شح المبادرات السياسية من ما نلحظه هذه الأيام برغم أن البلاد منقادة بواسطة حكومتها نحو الإنفصال إلى جزئين. كما أن قضايا مذابح دارفور اليومية، ومآسي أبيي، والتحولات السياسية والعسكرية في جنوب كردفان من ما لا تخطئه العين المراقبة للأحداث وغير المراقبة لها. ومع ذلك لا نلحظ إلا بعض مقالات في الصحافة الورقية والإليكترونية لرموز وقيادات الأحزاب، وهي من بعد تعبر عن رأي كتابها وليس الحزب. وحتى البيانات التي كانت الأحزاب تنشط فيها لتؤكد متابعتها للقضايا غاصت في الغياب. ورصدنا أن أحداثا متلاحقة تستحق تبيينا للمواقف السياسية قد مرت دون أن تدركها مواقف الأحزاب، أو قياداتها (السمينة والثمينة).

وبجانب هذا نلاحظ أن القواعد التي تنطلق منها أحزابنا لتأكيد وجودها قد كانت سباقة في تسجيل مواقفها ما يعني أنها كبرت على مسألة إنتظار تنوير القيادة السياسية. وهناك في الأنترنت عدد مهول من آراء العضوية الحزبية، والتي لكأنها قد شاهدت غياب المواقف القيادية، وبالتالي حاولت سد الفجوة بما ترى أنها كتابة تتجاسر ضد الواقع العصي على إفصاح الزعامات التاريخية، والوسطى.

وبرغم غضبنا المتكرر من قياداتنا المعارضة إلا أنه من الصعب أن نلقي الآن باللائمة عليها فقط. ونحن قد تركناها هناك تناضل مع من تبقى من الجيل الوسيط، والحديث. فالذي يعايش ظروف الداخل يلمس محدودية الحركة، كما اننا برغم أحجامنا الكبيرة التي تفوجت إلى القارات الدنيا والقصية عجرنا أن ندعم هذه القيادات بالمال الذي يعين في هذه الحركة. فضلا عن كل هذا، فإن النظام قد جفف مواعين الأحزاب تماما. فالعضوية الرأسمالية التي كانت تدعمها قد دخلت السجن أو تم إفلاسها، أو ماتت سريريا بفعل هيمنة المؤتمر الوطني على قطاع التجارة والصناعة. أما القواعد التي تعتمد عليها الأحزاب فهي مشغولة أولا بتأمين مستلزمات أسرها، فوقا عن أن اسئلة الحياة اليومية لا تتيح لها وقتا للتفرغ للعمل الحزبي إن كان مثمرا. ويمكن أن تضيف أن النظام علم هذه القواعد من ممارساته الوحشية كيفية الإحتفاظ بمسافة إزاء المخاطرة ببعض الجسد، أو كل الروح.

إذن هناك براح المقال الصحفي. فهو أسهل من عقد ندوة ساخنة في الكباجاب البعيدة. أو قل إنه يعفيك عن السفر للتواصل مع المزارعين والرعاة في بادية الدالي والمزموم التي خلقت رموزها المتماهين مع السلطة. وربما تكون مسؤولية المقال المنشور في صحف القطاع الخاص غير المعارض، جملة وتفصيلا، أخف ضررا من التظاهر بالهتاف المعارض في شارع السيد عبد الرحمن، أو ميدان الحرية بالأبيض. وإذا قارنت أكثر لوجدت أن الاستاذ ياسر عرمان يدبج أيضا المقالات وقصائد التفعيلة المفهومة في غايتها. والاستاذتان رباح وأم سلمى الصادق، ويعرفان تقديرنا لكتابتهما (المناضلة) في صحيفتي الصحافة والرأي العام يفضلان قضاء الساعات الطوال في تجويد المقال. ذلك عوضا عن توظيف هذا الوقت لعمل حزبي وسط نساء البقارة اللائي يمتن في حالات الطلق بالآلاف. فالسفر إلى تلك الفيافي في كردفان أو دارفور يكلف كثيرا إذا تجاوزنا عيون الأمن المبثوثة في كل مواقف الاسواق الشعبية. وقدر الله ما شاء فعل، وهذا هو الواقع التقليدي المرير يمد ألسنته ساخرا من قادة المستقبل الحزبي الوضاء كما نظن.

الإخوة البعثيون، ومنهما عبد العزيز حسين الصاوي ومحمد علي جادين، فضلوا أن يتحفونا بشكل منتظم بمقالات مميزة عن الواقع السياسي، ولكن لا وجود لحزبيهما بنسخته السودانوية على أرض الواقع. فلا تواصلات أحدثها مع القواعد التي تؤمن بفكرة القومية، ولا مؤتمرات عقدها ليواصل فكرة الصراع لإنجاز العروبة المسودنة للدولة ومؤسساتها. أما الشيوعيون فبدا أن الدكتور الشفيع يدبج في مقالات مطولة لها قيمتها عند الصفوة وبعض الجماهير، ولكن الحزب العتيق لا ينتظم في تنوير قاعدة البلاد إلا عبر صحيفته التي تناضل للوصول إلى القارئ في ظروف بالغة القسوة كما نقول مرارا. وبرغم المواقف العظيمة التي تضمها مقالات المذكورين أعلاه ودورها في إستنهاض الوعي الجماهيري إلا أن هذه المجهودات الفردية لا تغني عن مسائلة أدوار هذه الأحزاب في تنشيط بياناتها حتى تواكب كل القضايا الكثيرة التي تحفل بها الظرف قبل الصحف.

من الموافق عليه، تماما، أن بعض العمل السياسي يقوم على السرية ما يعني ذلك غياب المعرفة به من قبل كل الناس. وإذا كانت قيادات الأحزاب، ومكاتبها العليا تدرك دون القاعدة هذه الاسرار إذن فما بالك بالذين يلاحظون هذه الأحزاب، ومن ثم يفلسفون، من الخارج، مقابل حراكها مثار النقاش. بيد أن هذه السرية المضاعفة في زمن يستهدف الأحزاب، ورموزها بشدة لا بد أن تثمر عن حراك سياسي فاعل. وإن كنا ظالمين في الحكم على الأحزاب من حيث إيجاد صحافيا فقط بسبب أن هناك نشاطا سريا لا يتمظهر أمامنا، فإن إستدامة الأزمات المريرة في بلادنا تستدعي التساؤل عن قيمة هذا الحراك العلني والسري، معا، وإنعكاسه على مجمل حركة التغيير السودانية.

غالب التأويل هو أن هناك خللا، كما نظن، في التنظير الحزبي وحركته الميدانية. وهذا التعطيب جاء أما لسببين، أو أنه، في حد ذاته، ليس هو كذلك ما دام أن هذه الحركة الحزبية هي أجمل ما يكون ويمكن في ظروف العالم الثالث. بل وربما تصبح هذه الحركة، برؤية أحدهم، قد قدمت لواقعها المتخلف أكثر مما يجب، هذا إذا افاض لنا هذا الشخص في إنغلاق التركيبة العضوية لواقعنا.

وعلى أي حال، فمرجح أن السببين المشار إليهما عاليه هما: تواضع الفكرة الحزبية، وضمور التنظيم إزاء بلد مكبل بتنوعه العشائري والآيدلوجي والحزبي.

وأخيرا، في ظننا أن الكتابة الصحفية الورقية والإليكترونية وحدها لا توجد التغيير. والأكثر من ذلك أن أدوات الصحافة جميعها لا تقدر على إنجاز الثورات الديموقراطية. فهذا التثوير بحاجة إلى خبرات مجتمعية تراكمية. فلا مناص أن تكون للحزبي، والصحفي، والكاتب، والمزارع، والمذيع، والدبلوماسي، والصانع، والموظف، والفنان، والعامل، والمزارع، والمهندس، والعسكري، وغيرهم مساهمات نوعية وديموقراطوية الطابع في صناعة التغيير المنشود. وفي ذلك قد نختلف، ولا يهم كثيرا أو قليلا.

تعليق واحد

  1. المبدع دوماً شعيب ,,, قراءة مقالٍ لك يشعرنى بسعادة(مدمن) وجد جرعته بعد زمن طويل ..!! وانا مدمن لكتاباتك,,,

    يا صديقى انا اعتقد ان لجوء سياسيينا المعارضين لمقالات الرأى هو تقزم فى نضالاتهم (لو كان لهم نضالات) ولكأنى بهم يتعاملون بمبدأ اضعف الايمان ,,,, واتفق معك ان النظام قد علم القواعد من خلال اساليبه المعروفة الاحتفاظ بمسافة، وقد اتفهم ذلك لاسباب كثيرة اهمها غياب الوعى والحس الوطنى ثم اللهث وراء ادنى اسباب الاستمراريه فى الحياة كل يوم (رزق اليوم باليوم) فى دورة مستمرة تكاد تكون لا نهائيه ,,, وللاسف فان تنظيماتنا المعارضه لم يكن لها ارتباط بجماهيرها,,!! حتى فى فترات الديمقراطية ، هذه الديمقراطيه التى اقتلعها الشعب (القواعد) لهم من خلال نقاباته واتحاداته ومنظمات مجتمعه وهذه الاحزاب تقطف الثمره دونما عناء,,,, ثم تسهل للانظمة الانقلابيه الشموليه واحيانا تدعمها بصورة مباشرة او غير مباشرة

    استاذ صلاح دع عنك الجماهير العريضه , لقد لاحظت شيئاً ايام كنت بالجامعه (تخرجت2005) جامعة الجزيرة ,, انه من بين التنظيمات الطلابيه فان التنظيم الوحيد المتواصل والملتصق بطلابه ولهم نفس الخطاب هو الحركه الاسلاميه (بشقيها) ,,, واذكر ان لى صديقا يدرس بجامعة الخرطوم كلية القانون وقد كان كادر نشط فى تنظيم الطلاب الانصار حزب الامة وكان يقول لى انهم حتى عندما فازوا كتحالف باتحاد الجامعه وبمجهودهم كطلاب ضد الاسلامويين – والذين كانت معهم كل الدوله بامكانياتها وامنها – فانهم لم يجدوا اى دعم ولو معنوى او حتى بالتوجيهات من تنظيماتهم الام مما افقدهم الاتحاد فى الدورة التاليه

    اخيرا استاذى هذه التنظيمات تحتاج الى مراجعات شاملة وممارسة نقد ذاتى بشجاعة فى داخل المنظومة وليس بصورة فردية كما فعل الاستاذ كمال الجزولى (مشكوراً) فى كتاباته ,,, وممارسة الديمقراطيه داخل الحزب يعتبر نقطة اساسيه لان فاقد الشئ لا يعطيه

    ودمت استاذنا الكريم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..