ثقافة وآداب، وفنون

فيلم «السد» لعلي شرّي محوره الإنسان المقهور بأبسط أحلامه

في 23 من الشهر الجاري ينطلق في الصالات اللبنانية فيلم «السد» الروائي للمخرج اللبناني علي شرّي، والذي شارك في مهرجان كان عن فئة نصف شهرية المخرجين 2022.

وفي هذا الشريط يجوب المخرج الصحاري، وصولاً إلى رمال السودان الشقيق، يحط الرحال في أرض مقفرة إلاّ من العمّال صانعي حجارة الطوب للبناء، وقريباً من سد مروي القائم على النيل.
ثمانون دقيقة بين ليل ونهار، شقاء وأسى، وشمس ساطعة وشتاء مفاجئ غزير، وأحلام تذوب، كما الملح في الماء. إنه تعايش كليّ مع حياة بالكاد يعبرها نسيم من أمل. وتفتقد كلياً للعاطفة والأسرة والحياة الاجتماعية. إنه الكد المتواصل.
بدايات «السد» تختصر البطل بجملة مكتوبة ضمن الجنيريك «رجل شكّل الطين حياته». إنه ماهر العامل في صناعة حجارة الطوب، مع مجموعة من العمّال الشباب. يقيمون جميعهم في المكان نفسه. يعملون دون توقف، حتى خلال العتمة مستفيدين من طمي نهر النيل.

فيلم سمته الصورة والصمت البليغ. هما اللذان ينطقان بمكنونات الصدور، ويرسمان مسار ناس المكان. هناك تنتشر حجارة الطوب على مدّ النظر، نور الليل مصدره القمر، وبعض من نار الحطب المشتعل. وعندما اخترقت المكان من بعيد أنوار اقتربت رويداً رويداً، كانت لسيارة صاحب الورشة المتراقصة على أنغام أغنية سودانية تصدح منها. تفقد أحوال المكان دون تكبد عناء النزول إلى الأرض. دفع للعمال أجورهم، تجنّى على أحدهم ولطش بعضاً من أجره. غادر وترك خلفه غضباً دفيناً، وحسرة وغباراً.
غليان ابريق الشاي يشبه غليان الشارع السوداني طلباً لإسقاط نظام عمر البشير، والذي سقط بعد أيام من المظاهرات. وتدفق مياه النيل من الأنابيب الكبيرة له رمزيته التي تحاكي غليان الشاي. وهما معاً يلتقيان مع تظاهرات الشعب طلباً للحرية والعدالة والسلام.

الصور الرمزية في فيلم «السد» تُشكل بديلاً بليغاً عن الحوار المقتضب جداً. من مشهد ماهر وهو يراقب المطر الغزير، وقد أتى على حلُمه بكوخ خاص أو بمجسم ما لم يحدد هويته. إلى حضور الكلب مراقباً من بعيد للحلم يرتفع، وللحلم يهوي، ولدمعتين انهمرتا تباعاً على وجنتي ماهر.

ومشهد مدّ الطمي على جدار بناء في المكان، يحمل صوراً حسية ونفسية متعددة. يد ماهر ترمي الطمي على الجدار، وتمسده من تحت إلى فوق، مراراً وتكراراً، فيما المطر ينهمر، وعيناه جاحظتان تتحديان، وتنظران إلى البعيد.

وحدها رحلته المسائية المتكررة إلى عمق الصحراء على دراجة نارية مستعارة، يقف عند مجسّمه الحلم، تكسر رتابة الحياة. يعمل ماهر ويراقب حُلُمه يرتفع. إنه بناء الدائري، ويضيق بالتدريج وصولاً إلى مراحله الأخيرة، وغصن يخترقه من الجهتين. غصن يتحرك دون نسمة هواء، وكأنه يحاكي حاله أو من حوله. فالمجسم والحركة معاً لغزان ربما يدركهما ماهر. مشاهد رمزية أخرى في فيلم السد، منها الجرح الذي لا يبرأ في خاصرة ماهر. ومشهد الحارس الذي غط في ثبات عميق فسقط سلاحه من حضنه أرضاً. إلى مشهد وصول رب العمل لتقديم العزاء بأحد العمّال، والغناء يصدح من سيّارته.

في السد إنسان، واقتصاد، وسياسة، وأرض، وحلم وشقاء. أهداف حفّزت المخرج علي شرّي لأن يكون في صحراء السودان وقريباً من نهر النيل وسد مروي، مستكشفاً علاقة الناس بالمشاريع وكيف لها أن تُدمّر ذكرياتهم وتقتلعهم من أمكنتهم. العناوين السالفة الذكر نطق بها فيلم السد من خلال الصورة دون الحاجة لحوار وسيناريو مكتوب. اشتغل المخرج علي شرّي على مشهديات فيلمه وقدّم ما يشبه الوثيقة المتعددة المضامين. إنه فيلم للإنسان وعنه، أبطاله عمّال حقيقيون، يترك ألماً في القلب، وتقديراً لأهداف المخرج.

أدى دور البطولة ماهر الخير ونال جائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي، ومنتج الفيلم أمجد أبو العُلا، الذي قدّم قبل سنوات الفيلم الروائي «ستموت في العشرين».

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..