المشهد السياسي في عشية 30 يونيو .. قراءات في المآلات الثورية والممكنات السياسية

د. بكري الجاك
سنخرج نحن جموع السودانيين غداً بالملايين إلى شوارع بلادنا، صدورنا عارية لكن قلوبنا ممتلئة بالعزيمة والإصرار، تحفنا إرادة التاريخ من لدن بعانخي، ونفوسنا ما هي إلا عنفوان المستقبل الذي جعل أطفالاً دون سن الخامسة ينشدون أهازيج ثورة ديسمبر في طرقات السودان المعفرة بالفعل الثوري والمتسخة بكافة أشكال الزبالة (السياسية وغير السياسية). ستشق هتافاتنا عنان السماء، وستلهج ألسنتنا بدولة المواطنة المتساوية، وستحفنا أرواح الشهداء الذين مضوا، وستخضب أرضنا بالدماء. إنها إرادة شعوب السودان في التحرر، وهي ماضية إلى مبتغاها وإن طال المسير الثوري وتعقد المشهد السياسي بحالة توازن الضعف الكلية والحشد المليشوي والإشاعات والتضليل والاحتقانات الإثنية المصنوعة.
أما على الأرض، فهنالك تياران عريضان: تيار ثوري تقدمي يعمل على تغيير البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويسعى لإقامة بنى سياسية واجتماعية جديدة على أساس المواطنة المتساوية التي لا يمكن أن تتحقق دون توطين نظام ديمقراطي، تشاع فيه الحريات العامة وتفصل فيه السلطات (تشريعية وتنفيذية وقضائية)، وتصان فيه الكرامة بتطبيق سيادة حكم القانون، حيث يتساوى الحكام والمحكومون. وتيار انقلابي يسعى لتعطيل عملية التغيير الديمقراطي والمحافظة على البنى الاجتماعية والسياسية حتى لو بإعادة هندسة المشهد السياسي بإثارة النزعات العنصرية والحشد الإثني، وبث الإشاعات والأكاذيب.
التيار الثوري فيه قوى في أقصى اليسار تحمل تصورات أيديولوجية عما يجب أن تنتجه ثورة ديسمبر في آخر المطاف من نظام اجتماعي واقتصادي، وأيضاً فيه قوى في أقصى اليمين تؤمن بضرورة قيام دولة ديمقراطية مدنية ولها توجهات اقتصادية واجتماعية محافظة، وبينهما تيار وسطي يتوافق مع الطرفين في أقصي اليسار وأقصى اليمين، في ضرورة تأسيس دولة ديمقراطية مدنية وترك مسائل البرامج إلى صناديق الاقتراع. وفي تقديري هذا التيار يشكل الغالبية العظمى من السودانيين المنخرطين في هذا الحراك فعلاً وصمتاً، هذا التيار فيه قوى تسعى للوصول إلى حلول سياسية عبر التفاوض، وتعتقد أنها تستطيع أن تصل إلى ترتيبات تغير في الأشكال البنيوية. أعني علاقة المنظومة العسكرية بالاقتصاد والسياسة، بإخراج المؤسسات العسكرية والأمنية من السياسة والاقتصاد، وحتى هذه اللحظة هذه المجموعة ممثلة في قوى الحرية والتغيير لم تقدم سوى أهدافاً عامة في أطروحتها، لكنها لم تشرح الوسائل ولا حتى عوامل الضغط التي ستستخدمها في تحقيق تلك الأهداف سوى التعويل على حراك الشارع والضغط الخارجي. وأيضاً هنالك شق داخل التيار الثوري يتحدث عن تغيير جذري يحقق ذات الأهداف عبر الضغط الثوري المتواصل، وليس لهذا التيار تصور عن الآلية المادية التي ستقوم بالضربة القاضية، بينهم من يتحدثون عن جعل البلاد غير قابلة للحكم لأطول فترة ممكنة وإعادة بناء الدولة قاعدياً وسحب السلطة من القوى الانقلابية المركزية، لكنهم ليس لهم تصور عملي عن كيفية فعل ذلك ولا يضعون في الحسبان نتائج أخرى يمكن أن تنتج من حالة عدم القابلية للحكم. وداخل هذا الشق هنالك من ينتظر انقلاباً وانحيازاً من ذات الجيش الذي يصفونه بقوات الاحتلال ويعتقدون أنه مازال به شرفاء. ليس لي علم عن مصدر معلوماتهم وما إذا كان هذا محض افتراض نظري. بشكل عام، هذا حال التيار الثوري العريض، وستظل معضلة هذا التيار تتمحور في: 1) مشروعية التمثيل. 2) الأحقية الثورية. 3) التوافق على الحد الأعلى (دولة مدنية ديمقراطية بمواطنة متساوية وكيفية بنائها) والتشاور وربما الاختلاف على الآليات.

في الناحية الأخرى هنالك تيار انقلابي أكثر تعقيداً في تناقض مصالحه من التيار الثوري، هذا التيار فيه ثلاث قوى رئيسية: الإسلاميون وقواتهم المسلحة، آل دقلو ودعمهم السريع، وقوى سلام جوبا وجيوشها المصطنعة. أكثر هذه القوى تنظيماً وخبرة في التعامل مع المشهد السياسي وإدارة جهاز الدولة عبر دول موازية من خارج جهاز الدولة المتهالك هم بقايا المؤتمر الوطني والإسلاميين، وأفضل وصف لهؤلاء هو أنهم تحالف المال والسلطة الذي كان يعكس وضعية الإنقاذ في نسختها الرابعة بعد انفصال الجنوب في عام 2011. كل المؤشرات تؤكد بأن هذا المعسكر قد أحكم قبضته على الدولة ونفذ انقلاباً صامتا داخل انقلاب 25 أكتوبر 2021، إذ تهمس المدينة أنهم انتخبوا قيادة مدنية تحت إمرة أمين عام، وخاطبوا أذرعهم العسكرية ممثلة في القوات المسلحة السودانية ومليشيات الأمن والشرطة الأمنية والدفاع الشعبي، وتسندهم منظومة اقتصادية ضخمة تحت مظلة منظومة الصناعات الدفاعية والشركات الأمنية التابعة للجيش والشرطة. وقد وصل بهم الأمر أنهم صادروا صناعة القرارات السياسية باسم مجلس السيادة، والآن يمكن القول بأن الجنرال البرهان وبقية أعضاء مجلس السيادة الذين يفاوضون قوى الحرية التغيير ليس بيدهم سوى سلطة شكلية، وهذا ما يتفوه به مفاوضو الشق العسكري في استجداء التعجيل بتسوية سياسية تبعد الإسلاميين، هذا أمر قابل للتفسير بأكثر من زاوية، ويجب ألا يؤخذ على أنه حقيقة دون تدبر. أمام الإسلاميين خياران: إما المواصلة في الانقلاب الصامت والدفع بالبرهان وبقية الكومبارس العسكري لهندسة اتفاق سياسي يخرجهم من المأزق السياسي ويعيدهم إلى الحياة السياسية دون أي تكلفة، ويشاع أن هذا الاتفاق يهندس الآن وسيعلن بعد عيد الأضحى، أو إعلان الانقلاب والاستيلاء على السلطة كاملة وإبعاد الكومبارس العسكري، وفي كلا الحالين هم أمام معضلة حقيقية تتمثل في: 1) على أي تسوية سياسية أو انقلاب صامت أو معلن أن يجد صيغة للتعامل مع الجنرال دقلو ومليشياته التي هي عملياً تحكم الآن أكثر من نصف البلاد. 2) ماذا سيفعلون إزاء التحولات الكبيرة في الجيوبلتيكس التي لن تسمح بعودة تيار إسلامي صريح، ولا أعتقد أن لهم حليفاً إقليمياً أو دولياً يعتد به. 3) ماذا سيفعلون بالسلطة وهم في حالة إفلاس سياسي وفكري ولا مشروع لهم ولا رؤية ولا بصيرة ولا حتى دافع سوى التمسك بالسلطة في ذاتها، وقد نضب معينها.
مأزق الإسلاميين أيضاً سيتوقف على ردود أفعال دقلو إخوان وقوتهم العسكرية، ودرجة تماهي القوى الموقعة على اتفاق سلام جوبا مع آل دقلو في هذا التحالف السلطوي الذي لم يعد له مصلحة البتة في تحقيق أي سلام فعلياً، لأنه بات جلياً أنه من الأفضل لهم المواصلة في خطاب المظلومية والحديث نيابة عن الناس ومنعهم من الحديث نيابة عن أنفسهم، في ظل عملية سياسية تسمح بفتح الفضاء العام، والحديث عن قدسية اتفاق جوبا والتلويح بالحرب واتهام الناس أن العداء لهم مصدره أنهم الآن في السلطة محض ابتزاز سياسي وكسب رخيص لا معنى له، فكل من جبريل ومناوي ومالك جلسوا من قبل في كراسي الإنقاذ الوثيرة والمطلية بماء الذهب ورفلوا في نعيم فسادها السياسي. بإمكان الإسلاميين إعلان الانقلاب وإطلاق حملة إعلامية كبيرة عن استعادة هيبة الدولة، وأن القوات المسلحة لن تسمح بوجود مليشيات، ومثل هذا الخطاب قد يجد قبولاً ورواجاً إلى حد ما، خصوصاً إذا تماهى مع بعض شعارات التغيير، وربما يفتعلون مواجهة أو تحدياً للمليشيات بهدف نقل الصراع إلى مربع سياسي جديد وفتح فرص للحلول الدولية لوقف احتمالات الحرب، والهدف هنا هو إغراق المشهد السياسي بأحداث جديدة سريعة ومصطنعة. وقد يدعو الإسلاميين إلى تسوية سياسية على أساس سلطوي لا تخرجهم من المعادلة السياسية، وتضمن لهم بعض المكاسب في عملية الانتقال السياسي، هذا يعني أنهم في حاجة لحلفاء من معسكر القوى الثورية لتغيير كفة المواجهة في حال الاشتباك السياسي مع شركائهم الانقلابيين، وكل هذا رهين بعشرات العوامل والاحتمالات والقرارات التكتيكية الخاطئة.
الشاهد أن المخرج الكلي والعقلاني للإسلاميين والبلاد يتمثل في القبول بحقيقة واحدة، أن دولة محمد علي باشا في السودان قد وصلت إلى سدرة منتهاها، ولم يعد بالإمكان ترميمها، وأنها لم تعد تحمل الكثير من الثمار الدانية، فقد تنازعها التتار وحولوها إلى آبار للتعدين ومراكز نفوذ سلطوي وإقطاعيات، وحولت شعوب السودان إلى محض رهائن في الصراع حول السلطة والموارد. وعليه القبول بشروط تقنين أعمالهم وتحمل خسارة جزء من أموالهم التي كانت تدار خارج منظومة الدولة. هو المدخل الصحيح لتسوية تاريخية تضع لبنات الجمهورية الثانية. خلاف ذلك يعني ركوب الرأس، ومنهج “يا فيها يا أفسيها” و”أشيل الكورة وأجري بيتنا” سيورد البلاد موارد الهلاك بفتح باب للمزيد من المواجهات واستمرار حالة عدم القابلية للحكم. خلاصة القول إن يوم 30 يونيو هو فرصة لنا نحن الثوار لنجدد العهد مع مشروع التغيير الثوري الكبير بهتافاتنا والتحامنا ببعضنا البعض، وهو أيضاً فرصة للقابضين على السلطة شكلاً وفعلاً، والساعين إليها للتفكير والتدبر. ما فائدة الإمساك بدفة القيادة في مركب لا محالة غارق؟! فهل هنالك عاقل في المدينة؟!
الديمقراطي
نعم صحيح. التحية لدكتور بكري .
بعد ان تعلمنا الدرس بعد مع حصل منذ إنتصار الثورة وحتي يومنا الحالي. وجب علينا وبعد اسقاط هذه السلطة الانقلابية العمل وبسرعة قصوى بضرب جميع ازرع الاخطبوط الكيزاني خاصة الجانب الاقتصادي. الشرعية الثورية تبدأ فور سقوطهم بضرب بيد من حديد على جميع معاقلهم واوكارهم وتجريدهم من الممتلكات والاموال التي نهبوها طوال السنين الماضية
لتحقيق أهداف الثورة والانتصار الكامل. يجب ضرب عصابة الكيزان دون اي رحمة. لابد ان نتعامل معهم بالمثل تماما. يجب طردهم من جميع الدوائر الحكومية صغيرهم قبل كبيرهم ونزع كل شركاتهم ومؤسساتهم التي بنوها من أموال الدولة. يجب أن يزج في السجن ويقدم للمحاكمة اي كوز بجريمة الانتماء لجماعة إرهابية قامت بقتل مئات الآلاف من السودانيين وتدمير البلاد
لكن يا أخي المعلق دكتورك بكري لم يقل ما اوردته ..بل قال العكس فهو يري أن نتصالح مع الأسلاميين في حال أنهم رضوا أن يعطونا قسما” من “أموالهم” التي جنبوها خارج الميزانية ناسيا” أن المال هذا ليس هو مالهم بل هو في الأصل مال الشعب السوداني من عائدات البترول وغيره يعني بصريح العبارة يريدنا أن نذهب و-“نحنسهم” كي يرجعوا لنا أموالنا التي نهبوها جهارا نهارا” من الخزينة العامة؟؟؟يعني كما يقول الأمريكان without any accountability
في تقديري أي معادلة فيها الأسلاميون معادلة خاسرة جملة وتفصيلا” للسودان ولشعبه ..أنا احاور من هم ذوي قربي منهم واجدهم لا يؤمنون حتي بمبدأ الديمقراطية اصلا” من الأساس ..