محاكمة التورابورا

خلص العديد من المحللين و المراقبين على ان الحركات المسلحة الدارفورية فشلت فى استقطاب الشمال السودانى النيلي مقارنة بالحركة الشعبية لتحرير السودان التى اعتبروها نجحت الى حد ما فى خلق توليفة وطنية اكثر شمولا , و وصفوا الحركات الدارفورية بانها متقوقعة اقليميا من ناحية المطالب السياسية و منغلقة على أبناء المناطق المهمشة من ناحية الهيكلة العسكرية و التنظيمية و بعضهم تمادى الى اكثر من ذلك , لكن من الملاحظ ان هؤلاء المراقبون اهملوا فى مشقة وصولهم لهذه النتيجة المشبوهة السياقات و الاسباب التى ساهمت فى ولادة الحركة الشعبية لتحرير السودان عملاقا و الظروف التى عززت من تطور وعيها السياسي , كذلك اغفلوا العوامل التى حشدت تأييد قطاع معتبر من شمال السودان بما فيه الشمال النيلي للحركة الشعبية.

وجود الشماليين النيلين فى الحركة الشعبية لتحرير السودان كان محدود جدا قبل انقلاب الانقاذ , اما بعد يونيو 1989 زاد وجودهم بفارقة درجة و يعود الفضل فى ذلك كما سنتعرف بالتفصيل لاحقا الى قوى الهامش التى تحالفت مع الحركة الشعبية مبكرا و التجمع الوطني الديمقراطي , كذلك النظر الى تاريخ الحركات الدارفورية يجب ان يفرق فيه بين حقبة ما قبل تحالف كاودا و الحقبة الحالية بعد تأسيس الجبهة الثورية , لان اغفال مثل هذه الحقائق اقل ما يوصف انه تعمد عدم الانصاف و مجافاة الحقيقة او احسن الظن عدم الرغبة فى تحمل مشقة التحليل الدقيق و الموضوعي , و للأسف ان هذا التحليل السخيف يدعم بشكل خبيث ادعاءات الحكومة التى تحاول و باى طريقة اظهار الحركات الدارفورية و الجبهة الثورية على انها كيانات عنصرية, فى وقت يلاحظ المراقب العادي ان هناك اختلاف كبير و بون شاسع ما بين الظروف التى افرزت و احاطت بالتجربتين , و هذه ليست مرافعة عن الحركات الدارفورية او الجبهة الثورية بقدر ما هى محاولة لكشف الحقيقة من غير اى مواربة.

اعلان الحركة الشعبية لتحرير السودان عن تمردها على نظام مايو كان تتطور طبيعي لانتكاسة سياسة وطنية تسبب فيها نظام “نميري” بردته عن اتفاق سلام صمد عشر اعوام , تقويض اتفاقية “اديس ابابا” التى حققت استقرار كبيرفى البلاد احدث ردود فعل سياسة كبيرة من قبل القوى الوطنية و الشعب , قادت فى نهاية المطاف الى ان ينشق ضباط و جنود جنوبيين من الجيش الرسمي و التمرد على النظام بإعلان ميلاد الحركة الشعبية , على عكس ثورة دارفور لم تكن نتيجة انهيار مفاجئ لمشروع وطنى, وانما كانت انعكاسات للسخط الإقليمي المتراكم اتجاه هيمنة و ظلم المركز, فمن حيث الخبرة و النضج يصعب مقارنتها بالحركة الشعبية التى جدت تفهم و تعاطف وطني كبيرين لمطالبها المعلن عنها منذ سنة 1955 .

كما هو معروف ان الحركة الشعبية لتحرير السودان قامت على ارث كبير من التجربة الثورية العسكرية و السياسية لحركتي “انانيا 1 و انيانيا 2” , حيث وجدت ارضية ثورية خصبة استغلتها كأساس للانطلاق نحو غاياتها , و اعتبرت بدروسها السياسة التى مكنتها من تكوين رؤية سياسية اكثر شمولا و فعالية لقضايا السودان عامة بتبنيها مشروع السودان الجديد الوحدوي المستلهم جزئيا من اخطاء التجربتين السابقتين و الذى كان له الفضل فى انتاج قوة جذب قوية اغرت فئة من الشماليين الساعيين للعدالة و الديمقراطية للحاق بقطار السودان الجديد , و بالمقابل لم تجد حركات دارفور اى ارضية ثورية ثرية بقدر ما وجدت الحركة الشعبية و ان الدروس المستلهمة من تجربة بولاد القصيرة كانت محدودة بقدر عمر التجربة.

رمزية اعلان ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان فى “اثيوبيا” و حصولها على دعم من نظام “منغستو” المحسوب على المعسكر الاشتراكي فى وقت كان قطبي الحرب الباردة يهيكلان النزاعات المحلية و يدعمانها , دعم نظام “منغستو” الشيوعي للحركة الشعبية مع تضافر عامل قمع “نميري” للشيوعيين فى السبعينيات و تقريب الاسلاميين اليه حفز بعض معارضيه الشماليين خاصة اليساريين للانخراط فى صفوف حركة التحرير الجديدة المتقاربة مع معسكرهم الشرقي على الاقل فى بدايتها الاولى , و المقابل ان حركات دارفور جاءت فى وقت انحسرت فيه تأثيرات الايدلوجية العالمية و تحولت القطبية الثناية الى هيمنة غربية احادية , لذلك لم تحظى حركات دارفور بحضن استراتيجي مجاور و راعى أيديولوجي عالمي , و فى نفس الوقت لا نستطيع انكار الدعم الذى قدمته تشاد للحركات الدارفورية فى وقت مبكر قبل ان تنقلب عليهم لاحقا مع اعتبار الفروق الجهورية ما بين نظام “منغستو”فى ذلك الوقت و نظام “دبى” الحالي و ما بين اثيوبيا و تشاد , ومن جهة اخرى لابد لنا ان نضع اعتبار لوجود حركة العدل و المساواة التى كانت جزء اصيل من الحكومة و خلفيتها الاسلامية التى قد يكون شوش على كثير من المعارضين و القوى الدولية .

كذلك من العوامل التى لعبت دور محوري فى زيادة عدد الشمالين النيلين و غير النيليين فى الحركة الشعبية هو انقلاب الاسلامين على الحكومة الديمقراطية سنة 1989 , بوصول الانقاذ اضطرت المعارضة المدنية السودانية الشمالية على حمل السلاح بالتنسيق مع الحركة الشعبية من خلال “التجمع الوطني الديمقراطي” الذى جسر الهوة لكثير من الشماليين للتعرف على فكر و برنامج الحركة الشعبية عن قرب و الانخراط معها فى انشطة عسكرية و سياسية لفترة ليست بالقصيرة , و كان للتحالف الجنوبي الشمال الاثر الاكبر فى ذوبان بعض الشماليين النيلين فى وعاء الحركة الشعبية و على النقيض ان قوى المعارضة المسلحة الدارفورية جاءت فى وقت انفض فيه سامر التجمع الوطني الديمقراطي و تفرقت قواه ما بين مهادن للنظام او يائس.

بالإضافة الى ان قيام ثورة مسلحة فى دارفور كان عامل مهم فى تأكل نفوذ القوى السياسية التقليدية بالإقليم, فقد على اثرها حزب الامة اى شهية للتحالف او التقارب مع من قضى على عمقه التقليدي عدا بعض القيادات المنفردة التى انضمت الى تحالف “كاودا” , ورغم ذلك كان ولا زال يناصب الصادق المهدى الجبهة الثورية و فصائلها العداء تحت غطاء التحذير من مغبة الصوملة او الحرب الاهلية الشاملة كما يدعى , و حتى وثيقة الفجر الجديد التى هرولت اليها معظم القوى المدنية الا انها و بنفس السرعة تنكرت و تنصلت عنها, خلاصة القول ان الظروف السياسية التى هيئها نظام الانقاذ لتلاقى الجنوب مع الشمال لم تتضافر بنفس الطريقة فى نموذج دارفور.

ايضا ما ساعد الحركة الشعبية لتحرير السودان على استقطاب الشمال النيلى هو وجود ثورة كامنة فى الهامش رافضة لصيغة الدولة السودانية المركزية الحالية فنجحت الشعبية فى اجراء مشاورات و تحالفات مع بعض كيانات الهامش و ساعدتهم فى تمردهم على الخرطوم ” بولاد , كوه ,عقار” فكانت لميزة تقاسم هامش السودان الشمالي المتحالف مع الحركة الشعبية لعاملي اللغة و الدين مع الشمال النيلي الفضل فى تجسير النهر لعبور الشماليين النيليين الى الضفة الجنوبية و اخذ نفس اسم و مشروع الحركة بعد انفصال الجنوب , اما فى دارفور كما اسلفنا و كرد فعل لفقدان اليمين السودانى لنفوذه فى الاقليم و تهديد مشروعهم الأيديولوجي (العربي الإسلامي) عملت القوى الطائفية و الاصولية على خلق صورة مشوهة للحركات الدافورية فى اذهان انسان المركز باستخدام اسطوانات مثل العلمانية و الفوضى , التعاون مع اليهود ..الخ.

و بالرجوع الى طبيعة الصراع فى جنوب السودان نجده يختلف عن ديناميكية الصراع فى دارفور و هذا الاختلاف كان له الاثر الاكبر فى تبنى نمط غير مألوف فى بناء هياكل الحركات المسلحة كنتيجة حتمية لنجاح الحكومة فى تصوير النزاع على انه صراع عرقي و تمكنها من ادخال حليف محلى بذات الدوافع مما فرض على الحركات تشكيل اصطفاف عرقي لحماية اهلهم من الابادة خاصة فى السنين الاولى , كذلك ان السياسة التى نفذها النظام لأجل تفكيك و اضعاف الحركات و تمزيقها الى فصائل قبلية و مجموعات انتهازية شحنت الحركات بجرعة زائدة من التوجسات الامنية و مشاعر الشك و الريبة زادت من سيطرة العقلية الاقصائية الرافضة للغرباء و النافرة من الاخر و فى نهاية المطاف قادت هذه المخاوف الى تدشين حملة تخوين داخلية خلصت بشكل كبير من وجود بعض المكونات المحلية ناهيك عن الوطنية, جو مشحون بمثل هذه الملوثات يصعب من عملية استقطاب او اغراء رفقاء من اقليم اخرى , وفى الطرف الاخر تجد ان الحركة الشعبية و بفضل عوامل كثيرة من بينها التاريخ الثوري القديم و الانسجام الشعبى بفضل عاملي العرق و الدين وجدت فى الاقليم الجنوبي التفاف و مناصرة شعبية كبيرة و شبه اجماع على المطالب السياسية ووعى ثوري راسخ وحد المقاومة و جعلها تصمد بل ترتق الانشقاقات العارضة و بتالي هذه الصورة الشعبية و التنظيمية المتماسكة قدمت الحركة الشعبية للأخر بشكل اكثر مقبولية بعكس الصورة المهزوزة لحركات دارفور المنقسمة على نفسها و المتناحرة فيما بينها.

استخدام الانقاذ البعد العروبي للجنجويد كوكلاء و اعتبارهم امتداد عرقي للمركزية النيلية كما صورت الانقاذ بشكل رسمي و علني و بالممارسة , كان له اثر بالغ فى تنامى مشاعر الولاء العرقي لدى بعض الحركات كأجراء مضاد , و للمرة الثانية استفادت الحكومة من هذا الواقع الذي انتجته و نجحت من خلاله فى تصوير هذه الحركات على انها عرقية و عنصرية , و ان التقاء الطائفية مع الانقاذ فى نفس الخط كما ذكرنا سابقا تمكنوا من خلال النكاية السياسية و التعتيم الإعلامي من تجميد الضمير الوطني اتجاه المأساة فى دارفور , و تعزيز مركزية المعارضة مما جعلت قضية دارفور اكثر ارباكا و تعقيدا بحيث صعب على الكثيرين اتخاذ خيار الانحياز للحركات فى ظل هذه الغشاوة و العتمة.

فى الختام نستطيع القول ان حركات دارفور نجحت فى تبنى رؤية اكثر شمولا و وطنية مقارنة ببداياتها , و بتشكل تحالف “كاودا” شيدت مظلة اكثر وسعا للتنسيق العسكري و السياسي بين كل القوى السودانية المسلحة و تبنى مشروع سياسي اكثر وضوحا لإعادة بناء الدولة السودانية من خلال وثيقة الفجر الجديد التى رحبت بها جزء من المعارضة المدنية, و برغم هذا الانفراج الكبير نحو القضايا القومية الا ان حركات دارفور تتحمل جزء من الوزر الذى اوجد اساس لبعض هذه الاتهامات لأنها فشلت مبكرا فى تهيئة المواطن على المستوى المحلى و الوطني قبل الثورة , و استعجلت فى الاعلان عن نفسها عسكريا من غير ان تقدم برنامج و اهداف سياسة واضحة , مما كان له اثر سيئ فى تقديم ثورتهم للأخر و تأخير جنى ثمارها باقل خسائر , كذلك لا يزال اتهامها بالانغلاق قائما بالنظر الى هياكلها القيادية التى تنحصر فى اطار اكثر ضيقا من خارطة اجندتها المطروحة , و هذا ما يجعل الكثيرون يعيدون و يكررون الف مرة ان الحركات يجب عليها ان تراعى الخوف المصطنع و المتزايد فى المركز من معايشة تجربة دكتاتورية عنصرية هامشية كما تروج الحكومة و ناديها اليمينى , و عليها بث مزيد من الطمأنينة فى روح القوى الديمقراطية و الشعب و اتخاذ مزيد من التدابير و الاجراءات لتقديم ضمانات تدحض بها الادعاءات المغرضة.

محمد حسين
9 فبراير 2014
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..