الفساد السياسي… معضلة الانتقال الديمقراطي في السودان

هيثم كرار
اختصاصي الحوكمة ومكافحة الفساد
شكّلَ شهر أغسطس/آب من العام الحالي الذكرى الثانية لتوقيع الوثيقة الدستورية، والتي وضعت حداً للصراع السياسي الحاد بين القوى السياسية المنضوية تحت إعلان الحرية والتغيير من جانب، والمجلس العسكري الانتقالي من الجانب الآخر، وأذنت ببداية مشروع الانتقال نحو حكم مدني، ديمقراطي يتسم بالحرية والسلام والعدالة.
علي الرغم من تغير النظام السياسي بصورة كلية، الا ان ممارسة الحكم لم تراوح مكانها. فقد طغت مؤخرا علي صدارة الاحداث السياسية في السودان، أخبار متفرقة تدور حول الاستغلال السئ للسلطة و المال العام ، وذلك عقب تسرب معلومات عن تورط مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية- وهي الذراع الحكومي لوزارة المعادن، و احدي الشركات المملوكة للدولة- في إلزام شركات التعدين التي يشرف عليها بتوفير مبالغ مالية فورية للمساهمة في الاحتفال بتنصيب رئيس حركة تحرير السودان، والقيادي بالجبهة الثورية، السيد منٌي اركو منٌاوي، حاكما لإقليم دارفور، و ذلك تحت بند المسؤولية المجتمعية بالشركة.
الشاهد في الامر، ان حاكم إقليم دارفور قد اعتذر عن استلام الأموال عقب تصاعد حالة الغضب والاستنكار في مواقع التواصل الاجتماعي. ولكنه استنكر من جانبه الحملة المفرطة في حقه علي الرغم من ضلوع ذات الشركة في عدد من الممارسات المماثلة مع جهات أخري داخل الدولة، وهو ما يعني ضمنا ولوغ الشركة في تجنيب المال العام بموافقة و علم أجهزة الدولة.
تشكل هذه الحادثة، والتي مرت بدون مساءلة او محاسبة واضحة، مؤشرا على غياب البنية المؤسسية اللازمة للسيطرة على الفساد، ممثلة في ضعف أنظمة الرقابة الداخلية بمؤسسات الدولة. علي سبيل المثال، فان شركة الموارد المعدنية نفسها قد منعت المراجعين المنتدبين من ديوان المراجع العام من دخول الشركة وممارسة سلطاتهم القانونية وفق ما ينص عليه قانون الديوان.
المؤسف هو تعامل القيادة السياسية للحكومة الانتقالية مع التعدي علي المال العام، حيث لم يتجاوز الامر التوبيخ الذي وجهه السيد رئيس الوزراء لمدير الشركة، والزامه بعدم تكرار مثل هذه الممارسات، و ارجاع التبرعات لأصحابها، وهو نهج يشبه، للحد البعيد، “فقه السترة والتحلل” الذي اشتهرت به الحركة الإسلامية في السودان لتشجيع الفاسدين من زمرة النظام السابق علي اعادة الأموال المنهوبة مقابل العفو.
لقد مرت لجنة تفكيك تمكين النظام السابق، والتي نشأت بقانون خاص في العام ٢٠١٩، بالاختبار ذاته فيما يتعلق بنزاهة عملها. فهذه اللجنة على أهمية الدور الذي تلعبه، تعاني من قصور ذاتي يدحض الدور الذي تقوم به في متابعة التجاوزات الإدارية والمالية لمنسوبي النظام السابق. فغياب آلية واضحة للمحاسبة للجنة تفكيك التمكين يجعلها أداة سياسية بامتياز، ويسهل استغلال منسوبيها للسلطة الموكلة لهم لتحقيق منافع خاصة. لقد أوقفت اللجنة مؤخرا عددا من منسوبيها بدعاوي استغلال السلطة والكسب غير المشروع، حيث عثرت علي مبالغ ضخمة في حساباتهم المصرفية تفوق ما قيمته مليونا دولار.
وعلي الرغم من ان الفساد قضية جوهرية في المشهد السياسي السوداني، كونه يؤثر سلبا علي أهم قضايا الثورة السودانية المتمثلة في الحرية و السلام و العدالة، الا ان تعاطي السلطة السياسية معها لم يتجاوز محطة إجازة قانون مفوضية مكافحة الفساد، والذي بموجبه سيتم تكوين المفوضية المسؤولة عن طرح مشروع قانون مكافحة الفساد، و من ثم وضع السياسات العامة اللازمة للسيطرة عليه.
و لكن وفق المشهد الحالي، و الذي يتسم بهيمنة السلطة التنفيذية، و تمتعها بسلطات مطلقة غير مقيدة، يصعب التنبؤ باستقرار سياسي في السودان علي المدي القريب، وذلك لان الدولة تظل غنيمة في نظر القوي المتحكمة في المشهد السياسي، و ليس وسيلة لإدارة و إعادة توزيع الموارد بصورة عادلة.
علي الحكومة الانتقالية ان تعلم بأن الخطوات الجادة للحد من الفساد تبدأ أولا بالاعتراف به، وتحديد مكامنه، ومن ثم العمل مع جميع الشركاء، في المجتمع المدني والدولي، علي احكام السيطرة عليه عبر الإصلاح المؤسسي لجهاز الدولة، و عدم تغليب المعادلات السياسية علي الجوانب الفنية و المهنية المطلوبة.
لقد فشلت السلطة الانتقالية -حتي الآن- في وضع قضية الفساد في واجهة المشهد السياسي، و تجاوزت مع سبق الإصرار والترصد عددا من المعايير والسياسات المهمة للحد من الفساد السياسي واستغلال السلطة العامة لمنافع خاصة، بما في ذلك نظام إقرار الذمة المالية لذوي النفوذ السياسي، اللوائح المنظمة لتضارب المصالح، قواعد السلوك الوظيفي للموظف العام، اصلاح قوانين الشراء والتعاقد، ودعم المؤسسات الرقابية المستقلة، كديوان المراجع العام ، و كذلك تكوين البرلمان و المجالس الولائية كأحد اهم آليات نظام الضوابط و التوازنات في الدولة. والأهم من كل ما سبق، تفعيل الشفافية وحرية الحصول علي المعلومة لضمان المشاركة الواسعة لمنظمات المجتمع المدني و مجموعات الضغط في تسليط الضوء علي مواطن الفساد و الدوائر المنتفعة منه.
بالنظر لحال “تسييس مكافحة الفساد،” وتغليب التحالفات السياسية علي قواعد المساءلة و المحاسبة في الدولة، ستظل قضية الانتقال الديمقراطي و سيادة حكم القانون شعارات براقة للمجتمع الدولي، لا علاقة لها بالواقع السياسي الحالي. لقد ذكر جيمس ماديسون، الرئيس الأسبق والأب الروحي للدستور الأمريكي، “أن الحقيقة هي أنه يجب عدم الثقة المطلقة في رجال السلطة”. وهذه المقولة تتسق مع حقيقة اخري، وهي أن تغير السلطة السياسية لا يعني بالأساس تغيير ممارسة الحكم.
واللبيب بالإشارة يفهم!
Email: [email protected]
مقال عميق ورصين وضع الدواء على الداء. لكن لاحياه لمن تنادي
أخي بطرحكم هذا الذي هو عين الحقيقة يجعلني اذكر مثلنا السوداني البسيط {بتنفُخ في قربه مقدوده}