العقلية القبلية وسلوك القطيع علي سدة الحكم في دولة السودان

في الحياة البرية، حين يحل موسم التزاوج؛ تتناحر وتتنافس وتتصارع الذكور من اجل التبختر امام الاناث، لكي يقع عليها خيار الاناث في اختيار شريك التزاوج الموسمي، ومن اجل التنافس بين بعضهم البعض علي زعامة القطيع

يبدأ الصراع بين الذكور بعضهم ضد بعضهم البعض يتناطحون ويتصارعون ويتنافسون ومن اشتد عوده منهم واثبت قوته يصارع وينافس زعيم القطيع . الغالب المطلق في هذا الصراع الموسمي،هو من يدحر زعيم القطيع لنيل مكانته، لقيادة القطيع في الهجرة بين موارد المياه و بين مراعي الشتاء ومراعي الصيف.

قال تعالى:﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام:38].

في تلك الصفات؛ صفات التنافس علي زعامة القطيع، و صفات التبختر امام الاناث، ولاظهار ملامح القوة والنفوذ امام الجميع، لا تختلف امم البشر كثيراً -عن نظرائهم من امم الحيوان، يظهر ذلك جلياً في اواسط المجتمعات القبلية، والتي تفكر وتدير شئونها بعقلية القطيع، وتهتم في المقام الاول بقوة وعنفوان الزعيم البدنية، فتجدهم يرددون صفات لوصف الزعامة وافعالها، توحي بالقوة والنفوذ والعنفوان، مثل وصفهم للحراك العادي والمشاورات العادية في سياق عمل الزعماء، بالحراك الماكوكي في حين لا يوجد دليل علي ماكوكية في الحراك في ذاته- ولكن للايحاء بوجود القوة في الحراك. وتوصف مواقف الزعماء، بالقوية او بالضيفة ايضاً بناءً علي نسبة العنف فيها فالموقف العنيف وان كان خاطئ يوصف بالقوة والموقف السلمي وان كان صائب يوصف بالضعف، وليس بناءً علي قوة منطق او حكمة عمل الزعيم.

تلك هي عقلية القطيع، تؤمن تماماَ بوجوب قوة القائد البدنية، عوضً عن ذلك القوة بالسلاح، لدحر الخصوم ولتأمين سلامة القطيع تحت حماية القائد، وتؤمن ايضاً بتسوية الصفوف وترتبها خلف القائد، وبلم الشمل حول القيادة، لتوفر القيادة الحماية لها -فالقوة تكمن في تكتل الصفوف خلف القائد حتي لا تستطيع الحيوانات المفترسة اختراق الصفوف لخطف وافتراس الخارجين منها، ولذلك تجد اصحاب هذه العقلية دوماً ينشغلون بترتيب وتسوية الصفوف وبتكتل القطيع مع بعضهم البعض وتكتل القطيع خلف القائد حتي يصعب للوحوش افتراسه.

ولكن في عالم البشر لا يوجد موسم تزاوج، بل ان التزاوج اصبح غير موسمي، ولذلك فان الصراعات تستمر في كل المواسم، ولم تعد المجتمعات قبلية كما كانت في السابق – تتكتل حول قادتها للهجرة بين موارد المياه وبين مراعي الشتاء والصيف، بل اصبحت المجتمعات تتكون من جماعات متفردة تربطها دولة مدنية، تصنع الغذاء صناعة ولم تعد تعتمد علي الزراعة الموسومية او الهجرة الموسمية من اجل الغذاء والماء .

ولاختلاف طبيعة ونوعية المجتمع لم تعد عقلية القطيع مجدية في ادارة شئون البلاد بل بدلتها عقلية السياسة وعقلية المؤسسات وادارة الدولة. حتي وان كانت الدولة تحتوي علي النظم القبلية تحت مظلة الدولة القابضة كما هو الحال في دولة السودان ، فلا يصح ادارة الدولة او المنافسة علي زعامتها باسلوب وعقلية ادارة القبلية او القطيع، كما هو الحال في السودان اليوم- فمن تبع القائد كتبت له النجاة والسعة في الرزق والماء ومن خرج عنه يتم افتراسه تماماً كما يحدث في الحياة البرية.

ولان العقلية السائدة هي عقلية القطيع وهي عقلية تعتمد علي ادارة العقل الباطن للامور اصبحت الساحة السياسية في الاغلب عبارة عن ساحة للتنافس والصراع والتناطح حول الزعامة في المقام الاول. فالاغلبية تظن بان تغيير الزعامة الحالية بزعامتهم هم- هو الحل- من دون الاشارة الي تغيير اسلوب ادارة الدولة القبلي الحالي او تغيير اسلوب القطيع الحالي باسلوب حديث يدير دولة حديثة متعددة الاعراق.

تلك الحلول التي تعتمد علي تغيير الاشخاص بأخرين كما فعل حزب المؤتمر الوطني بتغيير طاقم عمله في الاونة الاخيرة او كما تسعي اغلبية القوي المعارضة التي تسعي للحكم باطاحة نظام البشير فقط- تعتمد علي وجود مجتمع ابوي قبلي صغير الحجم يعتمد تماماً علي الاب القائد لرعايته -كما هو الحال اليوم في دول الخليج العربي- حيث تدير الدول علاقاتها مع مواطنيها علي سقف الرعاية والعناية الابوية . ولكنها لا ولن تجدي في مجتمع كبير و متنوع ومختلف ثقافياً واثنياً كما هو الحال في السودان.

فالحل لا يكمن في مناطحة الزعامة وحسب وان كان ذلك يبهج اصحاب عقلية القطيع ومشجعي اطراف الصراع . ولكن بطرح برنامج حكم كامل وشامل لادارة الدولة كما فعل حزب الامة القومي بطرح “النظام الجديد” والذي يعتمد علي وضع سياسات ذكية ? اي محددة وقابلة للقياس، ويمكن تحقيقها، ذات صلة ومحددة زمنياً – SMART -ذات موجهات مقننه مثل موجهات حقوق الانسان العالمية- لبناء دولة مؤسسات علي أسس قومية ووطنية تعالج وتدير التحديات التي تواجه الدولة ومواطنها وليس علي بناء دولة رعاية قطيع الزعيم الحالي او رعاية قطيع زعيم المستقبل.

ولكن بالرغم من ذلك وبالرغم من اثبات فشل الانظمة التي تعتمد علي الزعامة الكارزمية والقيادة المسيطرة والادارة الجزئية نجد ان اهل السودان بمختلف الوانهم السياسية من اقصي اليسار الي اقصي اليمين يعيدون صناعة الانظمة الفاشلة التي تعتمد علي عقلية القطيع في المقام الاول وعلي التناطح والتنافس علي الزعامة وليس علي التنافس لخدمة المجتمع وحمايته وحماية مصالحه كما هو الحال في الدول الديمقراطية التي تتنافس احزابها علي خدمة مواطنيها اقتصادياً واجتماعياً.

لذلك بالرغم من اختلاف الايدلوجيات الحزبية التي توالت علي سدة حكم البلاد من اقصي اليسار الي اقصي اليمين، ظل الحكم في السودان يدار بعقلية القطيع ونظام القبيلة الواحدة، او تحالف القبائل الموالي للزعيم- او عقلية الامارة وتحالفاتها ولم يدار بعقلية الدولة الواحدة التي تعمل علي حماية وخدمة المواطن علي قدم المواطنة وليس علي قدم الولاء للزعيم و الولاء لقطيع الزعيم.

لقد اثبتت تجربة دولة جنوب السودان التي انفصلت جغرافياً وسيادياً من دولة السودان، والتي انخرطت مؤخراً في حربً أهليةً موجعة بسبب تنافس قيادات الحركة الشعبية علي زعامة البلاد- لقد اثبتت ان تغيير الزعامة لم يجدي، كما ان تغيير اثنية الزعامة من الافروعربية الي الافريقية لم تجدي، ولم تجدي ايضاً تغيير ايدولوجية الحكام من الاسلاموية الي ايدولوجية الحركة الشعبية التي تدعي العلمانية، وذلك لان عقلية واسلوب القطيع، واسلوب ادارة دولة متنوعة الاعراق والاديان والاجناس باسلوب ادارة قبيلة واحدة لا يجدي ولن.

فما بال المعارضة السودانية تقدم الزعيم تلو الاخر لمنافسة زعيم القطيع الحالي ولا تقدم البرنامج السياسي تلو الاخر لاصلاح حال الدولة. وتستمر المناطحات والتنافس وفي كل الاحوال المواطن خارج الحلبة فحين تتصارع الافيال تدهس الحشائش.

وما بين متفرجً ومشجع تضيع ملامح الدولة ويصبح الحال اسوء بمراحل من حال البرية المتوحشة فوحشية الانسان ضد اخيه الانسان أقسي وابشع.

نعماء فيصل المهدي
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ياسلااااام بدأت أمل بوجود افكار جديده في العقليه السودانيه.أسمعت اذا ناديت حيا يابني!
    نحن لسه في مرحلة ده وبلد وده من وين والله ماعارف! كأن البلد حقتهم! وبالعقليه دي تأخرنا
    لاهم اصبحوا اسياد البلد ونحن تابعين !اوعبيد!اوغرابه! وسعوا لنهضتها. ولانحن اصبحنا نحس بانتماءنا
    لدولتهم المزعومه.
    لكن دائما ماكنت اقول لاصحابي عندما ياتي اناس يفكرون بعقلية ادارة دوله. سننهض.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..