غزة : تقدم الإسلامي على الوطني

بشير عيسى

من يدقق في مسميات العمليات الحربية التي جرت بين «حماس» وإسرائيل، فسيجد مفارقة تستدعي الوقوف عندها، لما لهذه المسميات من دلائل ومقاصد تعكس المعنى الموضوعي الذي يشكل العمق الحقيقي، لناحية الأولوية الأيديولوجية في الخطاب السياسي، أقله لجهة حركتي «حماس» والجهاد الإسلامي. فإذ يحضر المسمى الديني من النص القرآني، «العصف المأكول» لدى «حماس»، و «البنيان المرصوص» لدى الجهاد الإسلامي، تغيب الخصوصية الوطنية – الفلسطينية عن هذه المسميات!

المتابع لـ «الإعلام المقاوم»، سيرى نفسه بلا شك أمام إعلام العجائب، فهو لسنوات طوال يتحدث عن يهودية الدولة الإسرائيلية وعنصريتها، ويفند ويكشف زيف ادعاءاتها كـ «دولة ديموقراطية». في المقابل، ليس لديه مشكلة أن تكون إيران دولة إسلامية، وتفرض مذهب ورؤية واحدة على المجتمع الإيراني، طالما أنها تدعم «المقاومة». والحال نفسها في السودان الذي أدت سياساته الطائفية والقمعية إلى انفصال جنوبه المسيحي، حيث لم ير «الإعلام المقاوم» في هذا الانفصال سوى مؤامرة أميركية – إسرائيلية! بينما لا يخبرنا عن سبب إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في هذا البلد!

لا شك في أن هذا الإعلام يمر بحال إرباك شديد، لم تعد تنفع معه ثابتة «فلسطين هي البوصلة» وأن التكفير و «داعش» هما الوجه الآخر لإسرائيل، وذلك بعد ما يعرف بأحداث الربيع العربي، وأن المانشيت الذي رفعته قناة الميادين، أثناء الحرب على غزة، من أن «الربيع العربي يبدأ من فلسطين» لا يعدو كونه رقعة معنوية، حاولت عبرها حجب مرارة الخيبة ونكوص المسار. فالحشد والتغطية المتواصلة، مما قام به هذا الإعلام، بغية التسويق لانتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، من خلال استغلال الدمار والدم المسال، وتقديمه على أنه «انتصار تاريخي أو إلهي»، أخفق في التأسيس لمرحلة جديدة ترمي للوصول إلى القدس والأقصى، كما بشرنا القيادي «الحمساوي» سامي أبو زهري. فهذا الأخير كان توعد الاحتلال في حال أقدم على الهجوم على غزة بأن «أبواب الجحيم ستفتح عليه، والأقصى على الباب»!

فما حدث، أن غزة علقت في الجحيم، وصواريخ المقاومة أزعجت إسرائيل، ولم تغيّر في موازين القوى، وارتفاع قتلى الجيش الإسرائيلي جاء بسبب العملية البرية، ولو لم تتوغل هذه القوات، لكان الغزيون هم من دفع الثمن الكامل لهذه الحرب التي تشتهيها «حماس» والفصائل، لتبقى «مقاومة»!

غير أن الرئيس عباس لم ينتظر انجلاء غبار المعارك، وتسويق الفصائل لانتصارها الإلهي، حيث فجرت تصريحاته قنبلة سياسية، وضع فيها النقاط على الحروف، وذلك بتحميل «حماس» بعد نتانياهو، مسؤولية إطالة المعركة، وما نجم عنها من قتل ودمار وتشريد لآلاف المدنيين، وذلك حين اعتبر أن المبادرة المصرية كانت على الطاولة منذ اليوم الأول، لكن «حماس» لم تقبل بها إلا بعد خمسين يوماً من المعارك! ببساطة كانت «حماس» تريد أن تكون المبادرة قطرية – تركية، لا مصرية، لحسابات حزبية سياسية، باتت معلومة للجميع. ولأن «حماس» لم تسطع الوصول لباحات الأقصى كما أعلنت، كان عليها القبول بالمبادرة، مؤجلة دخول القدس لمعركة أخرى!

ومع تبشير قيادات الفصائل، بتكرار هذه المعارك العبثية، جاء موقف الرئيس عباس واضحاً، بقوله: إما حكومة واحدة وبندقية واحدة وإما لا مصالحة! الأمر الذي استدعى الرد من جانب الناطق بلسان «الجهاد الإسلامي» على قناة الميادين، بالقول إن كل الشرعيات منقوصة، ولذلك لا يحق «للأخ أبو مازن» المطالبة بحصرية السلاح وقرار الحرب والسلم. وهو الموقف ذاته بالنسبة لـ «حماس» وباقي الفصائل، باعتبار أن فلسطين محتلة والمقاومة باقية! وبذلك تكون غزة فتحت الباب مرة أخرى للانقسام الفلسطيني.

وبغض النظر عما يقال في إسرائيل واليهود، لا أحد ينكر أنهم انتظموا ضمن دولة واحدة، تملك قرار السلم والحرب وتدير خلافاتها في شكل ديموقراطي سلمي، وهذا باعتراف الأمين العام لـ «حزب الله». ولكن، ماذا عمن يعتبرون أنفسهم أصحاب الأرض والحق؟ هل بهذا الشكل من الفوضى والاقتتال يقدمون أنفسهم للعالم؟ أليس في هذا جواب لغياب الربيع العربي عن قضيتهم، وذلك بعد ما باتوا جزءاً من صراع المحاور في المنطقة!

إن التحيات المبجلة التي ساقها السيد خالد مشعل لأمير قطر والسيد أردوغان والرئيس المرزوقي حليف حزب النهضة، في «خطاب النصر»، وامتناعه عن شكر القيادة الإيرانية و «حزب الله»، على رغم كونهما حلفين في «محور المقاومة»، تدل دلالة واضحة على تفضيل الحالة «الإخوانية» وتقديمها على غيرها من الاعتبارات، وأولها المصلحة الوطنية الفلسطينية! الأمر الذي أدى إلى استياء كبير في أوساط القيادة الإيرانية والمحافظين، قابلته شماتة في أوساط التيار الإصلاحي، وفق المحلل السياسي حسن نوري زادة على شاشة «الميادين»: «إيران لا تريد شكراً على واجب، ولكن من باب المجاملة كان على السيد مشعل أن يوجه الشكر للسيد خامنئي والقيادة التي وقفت إلى جانب غزة طيلة العدوان»!

وحيث أخفقت إيران، كان الأسد بخطاب القسم، ينزع صفة الإسلامي عن المقاومة، مكتفياً بتبنيها من منطلق «عروبي»، متهماً «حماس الإخوانية» في شكل ضمني، بأنها «إخوان الشياطين»! وفي المقابل لم يكن الإعلام الرسمي للنظام السوري، أفضل حالاً من أقرانه، ففي تقديمه الخبرَ الفلسطيني على الوطني، كان الداخل السوري، المؤيد والناقم على «حماس»، يزداد تذمراً، وهو ينتظر من إعلامه أن يخبره عن مأساة الفرقة 17 وحقل الشاعر للغاز، بعدما احتلهما تنظيم «داعش»! فالشعارات التي استُثمرت بالأمس، باتت منفّرة وخاسرة اليوم!

* كاتب سوري
دار الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..