
صباحكم خير
(يا دكتورة ..ما اتذكرتيني ؟) ..تأملتها طويلا ..ولم يسعفني عقلي بشئ ..قلت لها (لا والله ..معليش زهايمر وكدا) ..ضحكت وقالت (انا كنت طالبة دكتوراة عندكم في القسم سنة 2012 ..جمعت العينات وعملت استخلاص للحمض النووي ..وبعد داك سافرت الدويم وما جيت) ..(2012؟ وعايزاني اتذكرك ؟ يا بتي ماتوا ناس وحيوا ناس ..بس خير اساعدك بي شنو ؟) ..(والله يا دكتورة كانت حصلت لي مشاكل صحية ..
وعشان كدا ما قدرت اعمل البحث بتاعي ..وهسه جاية اشوف العينات ولو لقيت طريقة اشتغل واكمل الدكتوراة) ..الشهادة لله ضحكت ..عينات قبل ثمانية اعوام ..هل تكون موجودة ؟ لاحظ اننا في السودان ..حيث الكهرباء تقطع بانتظام والجهاز غير كافي لتشغيل المولد الكهربائي ..المهم قلت لها (يا بتي نحن كل ثلاث الى اربعة اعوام بنعمل جرد للعينات ..بنعلق اعلان عديل لاي طالب عنده عينات بطرفنا يجي يقرر يعمل بيها شنو او نتخلص منها ..ما اعتقد عيناتك دي تكون قاعدة) .. كانت هادئة وهي تسمع في عباراتي المحبطة ..بعض البشر قسم الله لهم من الطمانينة ما يكفي لجماعات ..قالت بهدوء (نفتشها ولو ما لقيناها ..يبقى مافي القسمة) ..ابتسامتها الواثقة جعلتني اذهب معها للفريزر ..اول صندوق ..كانت به العينات مرتبة ومنظمة كأنها وضعت بالامس القريب ..ضحكت وقلت لها (انتي شكلك شيخة ..يلا بكرة ان شاء الله تجي من الصباح نعمل ليها قياس ..ونشوف كمية الحمض النووي الفيها عشان نقرر هل تصلح للبحث ولا لا) ..شكرتني وذهبت بذات الهدوء الذي دخلت به.
اليوم التالي ..وجدتها في انتظاري ..اخذنا العينات وبدأنا القياس ..قلت لها (جيبي دفتر وقلم عشان تسجلي كل عينة وقياسها ورقمها ) ..هزت رأسها موافقة وخرجت ومن ثم اتت بسرعة (مشيتي وين وجيتي سريع كدا) ..(اتصلت بي زوجي وطلبت منو دفتر وقلم وهو هسه جاي يجيبهم) ..صحت فيها (يا بتي راجلك شنو يجيب الدفتر ..نحن عايزنو هسه ..حنقعد ننتظر لمان يجي من البيت ويشوف مكتبة والحاجات دي ؟) ..(لا يادكتورة ..هو قاعد تحت منتظرني) ..الدهشة سيدة الموقف (زوجك قاعد منتظرك تحت الوقت دا كلو ؟) ..قالت بذات الهدوء (ما هو جاء معاي من الدويم عشان نرتب موضوع شغلي دا) ..مازحتها قائلة (خلينا ناخد منو عينة ندرس (الدي ان ايه) بتاعو ..زوجك دا فصيلة منقرضة)..اتى زوجها وهو يحمل الدفتر والقلم …حياني قائلا انه يتابع مقالاتي كثيرا ..ومن ثم انفرد بها يحادثها على جنب ..وانا من على البعد اتامل طريقة حديثهما معا ..تلك المحنة الكامنة في الاهتمام والحرص عليها ..كانت هي تشرح له بفرح كيف ان القياسات الأولية مبشرة ..وان المشاكل في طريقها للحل …وكان وجهه يتالق فرحا لفرحها ..لم يشتك من ضياع زمنه ..او تركه لعمله وملازمته لها حتى ترتب امر بحثها ..كان سعيدا بما يفعله ..وكفى
في تلك اللحظة قلت لنفسي اننا ظلمنا (تمساح الدميرة) كثيرا …طالبناه بالخروج من جلده ومحاكاة الغير كنا دائما نضعه في المقارنات مع نماذج شعوب اخرى تبذل الكلام المعسول طوال الوقت..لكننا لا نعرف الوجه الآخر منهم ..نسينا في خضم تلك المشاحنات ..ذلك الاهتمام بالتفاصيل ..تلك المحنة التي يفردها كجناح طائر يظلل بها على زوجته واولاده ..تذكرت مشهدا ظل معلقا بذاكرتي منذ الطفولة وحتى غيب الموت والدي رحمه الله ..كانت امي بعد صلاة العصر من كل يوم ..تجلس مع ابي ..في طرف الحوش حيث الظل ..يشربوا الشاي ويتونسوا..ونسة وضحك وحكايات ..جلسة ظلت تتكرر كل يوم ..لا يمنعها الا الشديد القوي ..لا أذكر تبادل كلمات معسولة ..ولا تبادل هدايا في العلن ..لكني اذكر جيدا هلع ابي عند مرض أمي ..قلقه الشديد اذا تأخرت في مشوار ..لم اسمعه يجرحها بكلمة ..ولم يحدث ان سخر منها او (قلل من قيمتها ) في اي موضع …وظلوا هكذا حتى غيبهم الموت عليهم الرحمة .
الرجل السوداني نسيج وحده ..رجل يغلبه الحياء ان يحكي كلمات معسولة ..يظل يرددها في الاغاني ..والاشعار ..لكنه في المقابل تجدينه معك وامامك وخلفك وبجانبك في كل موضع احتياج ….كان وسيظل الزوج والاخ والاب والابن والحفيد ..مهما اطلقنا عليه من القاب ..وسخرنا منه في مواقع ..لكن في خضم هذه المعارك ..وتبادل الاتهامات بين الفريقين ..تطل علينا نماذج للطاقة الايجابية وسط هذا الكم الاحباط والحزن والمياه التي احاطت بنا من كل جانب .. نماذج مثل طالبتي هذه وزوجها ..تجبرك على الابتسامة بين الدموع.
د. ناهد قرناص
د. ناهد قرناص
الجريدة