“متى تفهم”؟ نزار يعود الى السودان

الفاتح إبراهيم
وبينما البلاد تعتمل وتزمجر فيها براكين وزلازل الثلاثين من يونو وبراعة استهلال التحرك بقطار الثورة الثقافية المتجه الى الدامر وعطبرة يطفو على سطح الذاكرة .
سؤال كان قد وجهه من قبل الشاعر الرحل نزار قباني ويصلح طرحه في كل زمان ومكان لكل من يتوهم انه مسيطر على الامر ومصائر العباد ..
وعلى هذا الأساس كأني أرى أن الثلاثين من يونيو تهتف على نفس المنوال وتقول لمن يتصدى ويتصدر إلى قيادة السودان الآن : متى تفهم؟ وبالرغم من الرفض الشعبي الهادر الجارف والخسائر التي تصيب الوطن في الانفس والأموال وعلاقاته بالأسرة الدولية تواصل الطغمة البائسة الحيرى التشبث بمقاليد السلطة .. ولكن هذه ثورة من نوع جديد إنها ثورة الوعي التي لم تشهدها البلاد من قبل داخليا أو خارجيا في بلاد أخرى فكان لها ما تستحقه من اعجاب في المجتمع الدولي .. وتأتي تلك الكلمتان تماشيا مع ما درجت عليه عبقرية الثورة في الإيجاز المختصر البليغ بكلمتين على نمط “تسقط بس” ..
“متى تفهم” العبارة مقتبسة مباشرة من قصيدة الشاعر الراحل نزار قباني التي كتبها مصورا بسخرية نافذة اللعنة التي بثتها جرثومة الثروة النفطية في جسم الامة .. القصيدة معروفة وكاتبها شاعر من اكبر شعراء الأمة في العصر الحديث .. وكغيرها من أفكار العباقرة تعبر الزمن وكما قال “سيدنا” وهذا ما يقوله نزار عند ذكر المتنبي الذي وصف شعره قائلا :
قواف إذا سرن عن مقولي وثبن الجبال وخضن البحارا
تلتقي القصيدة في فكرتها الرئيسة مع ما يحدث الآن في بلادنا ولو كان نزاربيننا الآن لكتب أخرى تخص الموقف الذي يجري الآن لأنه بشعوره المرهف أحس بهذا الشعب العاشق للحرية والسلام وتصديه للأنظمة الشمولية ..
ونزار كما هو موثق في مطبوعاته لكل من أراد الاطلاع محب للسودان وشعبه وقد كتب كثيرا متأثرا بالحفاوة التي واجهه بها شعب السودان مرحبا به وبشعره خلال زيارتيه للبلاد التي لم تقتصر على العاصمة وانما جاب خلالها بعض أقاليم البلاد فاطلق مقولته الشهيرة في كتابه “العصافير لا تطلب تأشيرة دخول” حيث كتب: “في السودان إما أن تكون شاعرا أو أن تكون عاطلا عن العمل” ..
غير ان الدائرة المفرغة الغبية ما زالت مستمرة .. ويتوقع هؤلاء متجاهلين أو جاهلين تاريخ هذا الشعب أنهم بنفس الأسلوب والوسائل المجرب فشلها سيحققون النجاح على امل اجهاد الشعب او إرهابه بالسلاح أو اللجوء الى أسلوب التضليل وبث الإشاعات والأكاذيب .. أما الحلول التي يلجؤون اليها مستعينين بالخبراء “الاستراتيجيين” إياهم تعيد الى الذاكرة حكاية “البصيرة أم حمد” التي تعكس عبقرية التراث الشعبي المملوء بالعبر والدروس .. ولكن لا أهمية لفهمهم أو عدمه فإن قطار الثورة ماض لسحقهم لتكون آخر الانقلابات العسكرية في السودان ليعيش انسانه الخير النبيل في عزة وكرامة ..
ووسط كل هذا الزخم وبالرغم من كل هذا الدفع الثوري وانهيار النظام بفساده وجرائمه أن فلول الإنقاذ والكيزان يحلمون بالعودة وهذا ليس بعجيب اذ لم تستوعب عقولهم المريضة الضعيفة فاقدة البوصلة أن الذي حدث في السودان نتيجة منطقية وحان الوقت ان يدفعوا ثمن الوعي الذي بثه حكمهم البغيض في اوصال المارد السودان ليعرف شعبه الصابر المسامح النبيل هؤلاء الناس على حقيقتهم ، من هم؟ ومن أين جاءوا؟ !!.
والراحل نزار عبر عن في قصيدة أخرى يصف فيها الصراع المستمر بين الفكر والبندقية .. ومنذ كتابتها لم يتغير شيء منذ أن كتبها:
حين يصيرُ الفكرُ في مدينةٍ
مُسَطَّحاً كحدوةِ الحصانْ
مُدوَّراً كحدوةِ الحصانْ
وتستطيعُ أيُّ بندقيّةٍ يرفعُها جَبانْ
أن تسحقَ الإنسانْ
يموتُ كلُّ شيءْ
يهربُ من مكانِه المكانْ
وينتهي الإنسانْ
ولكن عزيمة وإرادة انسان السودان استطاعت أن تكسب معركة الصراع الازلي بين الفكر والسلطان وما زالت تواصل العمل للإجهاز تماما على ما تبقى من آثاره البغيضة ..