فنون الجنون في شوارع الخرطوم

والشاب ذو البسطة في الجسم كان يقود رجلاً أكبر منه سنًا ويحملون روشتة لصرفها من الصيدلية، وكنت أنا في انتظار مريض دلف إلى الصيدلية بصحبة مرافقيه فأخذت منهم الإذن بالبقاء خارجًا لحين إكمال مكالمة، والهاتف في يدي وأنا أنتظرهم خارجًا والصوت يعلو والمفاجأة أن الشاب يشير عليَّ أمام طائفة من الرجال والنساء كانوا قد تكدسوا أمام تلك الصيدلية التي تجاور المستشفيات والمستوصفات في ذلك الشارع الشهير الذي يتوسط الخرطوم والرجل يهتف بأعلى صوته وفي حالة هستيرية وهو يشير عليَّ هذا نشال، فلتأخذوا حذركم منه لقد حاول أن ينشلني كنت أعتقد أن بالأمر ثمة تشابهًا ولكن هيستريا الرجل أعادتني أشد خوفًا ورهبة لم أعتدها من قبل، قلت في نفسي أن بعقل الرجل شيئًا، ولكن الشاب لا يزال مصرًا، وهذه المرة ترك مرافقه وأقبل يشير إلى السيدات بأن يلممن حقائبهن وشنطهنّ مخافة أن أسطو عليها بزعمه، ودخلت في نفسي وأظفاري فالنساء والشابات استجبن بالفعل لحديث الرجل وسحبن حقائبهنَّ عليهنَّ والنظرات ترمقني استهجانا وأستنكارًا لفعلي المصنوع بدراما الرجل، فكرت في المقاومة ولكن ما يقوله الرجل جعلني أزيح بوجهي عنه لحين انجلاء الموقف وخروج المريض بمرافقيه ولكن طال الانتظار والنظرات ترمقني ومن شاهدت الموقف تحكي للغائبة وعليها زيادة بأن من أتهمه قد سرقه شخصيًا وتشير إليَّ صراحة لاتلميحًا وبقوة عين جعلتني أشفق على من مر بالتجربة وأُخذ بالجريرة وهو في موضع البراءة والناس تحكم باللحظة وبالظاهر، وهم في ذلك لا أدري أعادلون أم ظالمون؟. حقيقة دخلت في أظفاري من الانتظار ومن زيادات الحاضرين علي المشهد البسيط فالناس ـ كما قلت ـ لا تجد حرجًا في الإشارة والتأشير إليَّ وحقائب السيدات والشابات صارت تعصر علي الأجسام وحتي الغريبة المطمئنة عندما تسمع وتراني تضم إليها شنطتها ولا تجد حرجًا في النظر إليَّ بحدة، فكرت في الدخول إلى الصيدلية ولكني خشيت من هذا الشخص من أن يراني فينفجر في وجهي غضبًا واتهامًا يجعلني أنساق وراءه إلى ما لا أمن على نفسي منه، وفضلت الانتظار المُر المصحوب بنظرات المستنكرين التي لا أعتقد أهي لوم علي مظهري الذي لا يوحي من الاتهام بشيء أم استنكار التهمة عليَّ ووضع نفسي في ذلك الموضع. والشاب يخرج ويقود مريضه ومع خروجه يصطدم بشخص آخر ويكيل له من السباب والشتائم تمامًا كما حصل معي بل كانت أشد عنفًا مما حصل معي ما حمدت الله أن جعلني نشالاً والرجل المتهم هذه المرة يحاول أن يصطدم به فقد كانت الشتائم قاسية بعض الشيء وربما خادشة للحياء ومن حول الشارع يمسكون به والشاب يجدها فرصة فيضاعف من شتيمته، ويحكي المشاهد الخيالية عنه أمام الحاضرين ثم يتبع المشهد بصراخ على شاكلة حيوان، حقير أمامه وفي وجهه والرجل المشتوم والمبهوت يصمت ويأكلها في ضميره والشاب يدخل إلى الصيدلية أخرى ونظرة الناس إليَّ صارت عادلة بعض الشيء وبعضهن كانت تشير إليَّ وتضع إصبعها على دماغها كناية عن جنون الشاب. وأخيرًا خرج من كنت أنتظره مع مرافقيه ولكن هذه المرة كان الشاب المجنون خلفهم ليمسك في أحد المرافقين ويشير إلى الحاضرين بأنه مصاب بمرض الإيدز وأن عليكم أن تحترسوا منه وأنه كان معه في الصيدلية ويعرف دواؤه جيدًا وأن هذا الشخص يعرفه وربما ينقله لكم وعليكم أن تحفظوا شكله، والمرافق أدار وجهه للرجل ولكني وجهته بتدوير أصابعي حول صدغي بأن هذا الشاب قد اعترت عقله لوثة جعلته يُلقي التهم جزافًا علي كل من يراه وينفجر فيه بهستيريا أقرب لحقيقة المشهد لدى الحاضرين الجدد الذين ربما يبادرون بالتصديق، وبالتالي تجنب المتهم كما فعل معي بالمرة الأولى. عمومًا تلك مشاهد وفي وسط الخرطوم وأحدهم يقول لي إنها صارت من أنواع الاحتيال المقنن وآخر يعزوها إلى انتشار أمثال هؤلاء، ويقول إن أمثال هؤلاء قد يكون أفضل من غيرهم إذا ماقورنوا بمن يستخدمون القوة والعنف وهؤلاء أيضًا صارت أحداثهم وقصصهم على كل لسان فقد يقتل كما حدث في وزارة الصحة الذي اعترته الحالة فقتل وجرح كثيرين وأنكر بعد ذلك وقد يحمل سكينًا ويطعن بها الكثير ممن يصادفهم كما حدث في ميدان جاكسون قبل مدة ليست بالطويلة، وضحايا هؤلاء كثيرون سواء كان باللفظ أو الفعل وقد يكون الاتهام باللفظ الأقرب للفعل أشنع كما حدث معي ومع آخرين. والشاب ذاك أفعاله في تصاعد وربما قد تجد أفعاله الاستفزازيه من يصطدم به وربما يقود هذا إلى مالا تحمد عقباه والشارع يعج بالحركة ويقصده الناس لزيارة مرضاهم سواء في المستشفيات أو المستوصفات المنتشرة حوله وأمثال هؤلاء يضيفون قلقًا على قلق الزائرين لمرضاهم وخوفًا على اتهامات لا تمت للواقع بصلة وقد يحدث ما نخشاه وما لا تحمد عاقبته وعلى السلطات تجنيب الزائرين وكل المارين بالشارع من أمثال هؤلاء فالناس في همهم وهمومهم وغير مستعدين وغير ميهئين للدخول في هموم جانبية، فالنشل يبقى في نظري أخف وطأة من الطعن في أعراض الناس وتدمير معنوياتهم والحضور يتجمع في لحظة والتصديق وليد الحدث والجنون والأحتيال صارا وجهين لعملة واحدة يصعب التفريق بينهما من كثرة ما نسمع ويحكي أصحاب التجربة.

م.مهدي إبراهيم أحمد
التيار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..