دراسة نقدية لرواية ( الذين يسحقون النمل ) للروائي نميري حسين مجاور..بقلم النيل مكي قنديل.

…دراسة نقدية لرواية ( الذين يسحقون النمل ) للروائي نميري حسين مجاور..بقلم النيل مكي قنديل ….

قد برع الكاتب الى حد كبير في إستهلالية النص ، إذ قام برسم صورة تتوافق مع فضاء العبارة المختارة بعناية ، بل من إتجاه آخر أرى أنه قد تجاوز لأطر الفكرة المحدودة ، وصولا الى شكل مغايرفي فتح تلك الجدارية والتي تبقى مرتسمة على شاشة الكون تلك الكتلة الضخمة من الدلالات ربما تضيق بها الفكرة ،بما يكتنفها من حمولات ( في الخارطة الكونية عبر عن موضع كوكبنا الضائع في رمزالهالة المرسوم في مكان ما من مجموعة درب التبانة …) تلك هي اللوحة المنجزة بإبداع كتابي ينطوي على خبرة كبيرة ، بل وتراكم مفرادتي في مقدوره أن يتلمس طريقه جيدا في دروب الحكي الوعرة ، وجملة (في الخرطة الكونية عبركوكبنا الضائع ) هي شكل من أشكال التصويرالتأثيري كما يشاراليه في النقد التطبيقي ، وهو إستهلال كأنه أتى منفصل عن النص الأصل ، إلا أنه عبرخبرة الكاتب أبقاه من ضمن بنية النص المستهدف من خلال تكنيك إبداعي له مكونه الجمالي ألمغاير.ايضا
…إستدعى الكاتب في نصه هذا صوت السارد العليم ، وإشتغل عليه في إنتقالات متعددة ومن مشهد لآخر، للتتجمع تلك اللقطات الموضوعة بدقة داخل فضاء السرد المتدفق والمنساب والذي لم تعترضه شائبة ، أتت لغة النص في هذا الإتجاه لغة الوسط الإجتماعي ، المنتزعة من السهل الممتنع ، كما لم يثقلها الكاتب بجملة محسنات بديعية ، مما يعيق مساراتها في الإتجاه الصحيح ، حتى أن توصيفه أتى متناغما مع ثقافة الواقع اللحظي المعاش ، وفي هذا الصدد أرى الصورة تبدو جليه ، بل تبرز عبر السرد في أغلب المشاهد أشبه ما يكون بالمباشرة ، إلا أنها تتجاوز كل ذلك ، لتنفذ بعمق صوب الفكرة والتي خطط لها الكاتب ، كإطار عام لنصه هذا ، على الرغم من حداثية الطرح ، وتنامي الحدث من داخل معطيات السرد ، وإستيلاد العديد من الصور والتي تبدو عصية من أن تقبض بها من أول وهلة ، إلا أن الكاتب من وجهة نظري النقدية قد برع في إيصال رسالته للقاريئ بطريقة حداثوية من خلال تلك الأصوات وحركة الشخوص على فضاء النص ومن مكان لآخر، دون غموض في رسم مشاهده تلك …
… ألمح أن ( أسامه ) في نصه هذا هو الشخصية الرئيسة وذلك بما يفصح عنه السرد ، ولو بشكل ضمني ، إلا أن حيثيات ( الحكي ) تتقاطع حول صوته المتميز من دون الأصوات الأخرى ، كما أن الدورالمحوري الذي رسمه له الكاتب قد تقمصه جيدا ، ليصنع منه شخصية متمردة على المجتمع تستبطن الشر، و(أيمن ) أيضا كشخصية أخرى وظفها الكاتب بعناية ، لتقف في الإتجاه المقابل لأسامه بل والمعاكس له ، وفق السرد على الرغم من أن مصالحهما ربما تلتقي عند نقطة ما ، إلا أن هناك ثمة مسافة تبدو في مابينهما ، من وجهة نظري النقدية تلك المسافة لا تبدوكبيرة الى الحد الذي يتناقضان فيه بحدة ، أرى بأن شخصية (أيمن ) يتبادلان الأدوار ما بينه و( أسامة ) ، لتبرز من خلاله تفسخات الشخصية الرأسمالية وإنتهازيتها ، وكيف في مقدورها أن توظف بداخل مشروعها شخصيات نافذة في السلطة ، بما تحمله من خبرة في هذا المجال ، ينطوي على المكر والدهاء ، والنظرفقط بإتجاه مصالحها الشخصية الضيقة ، على الرغم من إدعائها بين حين وآخر نظافة اليد واللسان والضمير في الأعمال التجارية ….
….رسم الكاتب شخصيته الرئيسة بدقة ، ووضحها للقراء بأن محوره الأساس يدورفي فلك اللقطاء ، إلا أنه إستعار صوت ( أسامة ) وهو طفل صغير، ليجري الحكي على لسانه ، الأمرالذي جعلنا نتعرف عن ما يدوربخلده في تلك اللحظة ، وهو محمول على قماشة طفلا لم يتعدى عمره سوى ساعات قليلة ، ليتركز السرد بداخل تلك الجزئية في قسم الشرطة ، لنقف جميعا على معاناة هؤلاء اللقطاء ، حتى وهم زغب الحواصل أبرياء ، يسوقنا المشهد سريعا ، وحينها نتعرف على الإهمال الذي يواجهه الأطفال اللقطاء ، نرى بأنهم يوضعون بداخل ( كراتين صغيرة ) ، كما نلمح أن التوصيف لمثل تلك الحالة كان جيدا ، مما يدفع القاريئ أن يتفاعل مع النص ، بل ويندمج في جزيئاته ، لتعد نقطة مضيئة تصب بإتجاه الكاتب بإيراده لتلك التفاصيل ، على الرغم من تقريريتها إلا أنها تنطوي على أبعاد عميقة ، وقد تمثل ذلك بوضع المزيد من الخطوط الحمراء البارزة على تلك القوانين الإدارية المتكلسة ، والتي أضحت روتينا قاسيا ، يلغي بجرة قلم الجوانب الإنسانية ، والتي تتجاوزها في أغلب الأحوال , والذي كانت محصلته إزهاق المزيد من أرواح هؤلاء الأطفال الذين لم يتم إزعافهم على جناح السرعة ….
…وظف الكاتب في نصه هذا عنصر المفاجأة ، وذلك بإستيلاده للأحداث من عمق السرد ، لتتسل الأصوات ، تتجمع بداخل دائرة الحكي في شكل ( منالوج ) حوارداخلي ، وهو ما يثبت السرد أكثر ليبرز في أعلى مؤشراته الموضوعية ، والتي تحث القاريئ ليرتبط بعنصرالتشويق ، فكانت خطوط أسامه من داخل اللوحة قوية ، وألوانه متجانسة كطفل لقيط خرج للحياة لتوه ، وليس له جريرة في وجوده اللاشرعي هذا ، ليصتدم في نهاية الأمربالمجتمع ، وحينها يتوسع جرحه الداخلي والذي أخذ ينزف في صمت ، وبعدها تكبر كرة الثلج وهي تسقط من علا، يتضخم الإنكسار بداخله ، ويهزمه بعد تقادم الزمن ووجوده اللامتوازن هذا ، فيخطط سرا وبداخل ذاته (المريضة) المجروحه )لمعاقبة كل المجتمع ، وذلك برسم العديد من الخطط الإجرامية والتي من شأنها ترويج المخدرات ، والفساد من تزييف عمله وتزوير أوراق ثبوتية بداخل المجتمع ، من وجهة نظري النقدية أرى بأن الكاتب قد سلط عدسته جيدا عبر السرد ومن خلال مبضعه الجراحي لكشف تلك الأمراض والتشوهات الإنسانية ، لتأتي الصورة واضحة الملامح تحمل في جوفها تلك الدلالات بعيدة الغور…..
….ذهب الكاتب في نصه هذا لتصوير المتقابلات في عمق النص ، أي رسم خطوط أخرى قوية ، تقابل وتماثل شخصيته الرئيسة ، وهي تقف على أرضية صلبة متساوية ولكنها مغايرة للإتجاه الأول ، ليتوازن النص في نهاية الأمرعلى قطبي رحى ، يرتكزان فيهما على فكرة متوحدة ، إلا أن الوسائل والطرائق التي توصلهما للمحورتبدو مختلفة ، أو تتعامد على تلك النقاط من خلال السطح الخارخي فقط دون النفاذ للعمق ، وعلى الرغم من تلك الإختلافات إلا أنها متوائمة مع بعضها البعض وفق الدرجة والمقدار، ولكنهما يأتيان على مسافة متوحدة ، ما بين أسامة وأيمن كشخصيتين محوريتين يجمعهما دور واحد يتشاركا فيه ، على الرغم من إختلاف الوسائط والأفكارالمتعددة ، إلا أنهما يوصلان لهدف واحد ، وهو إرتسام الرأسمالية الطفيلية على حوائطهما الداخلية ، بكل تفسخاتها وشراهتها وشراستها ، لنرى بأن الكاتب قد وظف شخصية أيمن وهو مندفع في مغامراته الرأسمالية ونزقه وطيشه ، ليكون له ذلك بمثابة النقطة المحورية والتي يدور بداخلها لتحقيق وجوده على الأرض ، وفق أفكاره والتي رسمها بدقة ، والتي توصله مباشرة لذات الهدف مهما تعددت الوسائل والتي تكمن بداخلها تحقيق الغايات …..
..نطالع أيضا أن الكاتب قد جسد وبشكل جيد شخصية أحلام ، تلك الفتاة المعشوقه من الطرفين ، بكل ما تحمل من ذكاء وجمال وخبث أنثوي في بعض الأحيان ، ليجعل منها محور آخر، تدور من خلاله أحداث الرواية ، وذلك بإنجزابهما ( أسامه وأيمن ) لعشقها ، كل على طريقته ومن إتجاه مختلف ، لنرى بعد متابعتنا لفصول الرواية وقد برزت للسطح إنكسارات أسامه حين علم بحقيقته ، والتي كانت تخفيها عنه أمه التي تبنته ، وفجأة تفصح بها أمامه ، يصدم في اللحظة من وقع الخبروالذي حينها يزلزل كيانه وهو لم يزل مرتبطا عاطفيا بأحلام عشيقته والتي يجهل خلفيتها كثيرا ، وعندما بانت له حقيقته إختفى عنها نهائيا وبشكل مفاجيئ ، مما جعلها تتساءل عنه ولكن في صمت وألم ….
… من وجهة نظري أفلح الكاتب في إبراز شخصية أحلام كعنصرتشويق ، على حمولات مأسوية ، ليشد إنتباه القاريئ أكثر الى ذات المحور التأثيري ، إلا أن أحلام وفق ما أراد لها الكاتب كانت بمثابة نقطة ساخنة في كل المشهد الروائي ، تتقاطع حولها جدلية فكرة النص ، في حوارات تفضي لداخل ممرات السرد ، لتبدو لنا أكثرتفجرا من داخل منصات الحدث ، مما يرفع أكثرمن مؤشرات التشويق لدى من يتابع هذا النص ، على الرغم من إسراف الكاتب في رسم المشاهد الرومانسية بأحلام واسامة من جهة ، وما بينها وأيمن من جهة أخرى ، إلا أنه أمسك بخيوط اللعبة جيدا في هذا الصدد ، وهو يمرر فرشاته بمهنية عالية لتطغي الموضوعية الى حد ما على إتجاهات الإستسهال والمجانية في هذا المنحى …
….نرى أن الرواية في مجملها سردية إمتزجت الى حد ما بالحوارية ، كما أن فكرتها الجوهرية والتي تربض هناك بعيدا ، هي التي تحرك عناصر الأحداث الصغيرة ، والتي تتوالد بكثافة من رحم السرد وتدفقاته ، لتتجمع بداخل مستودع الحدث الكبير، والذي في النهاية يفجرتلك المشاهد التي تضيئ الفكرة …
…. الشخصيات الثانوية تبدو قليلة ، لربما إقتصد الكاتب أكثرفي إيرادها بداخل حركة السردوإتجاهاته المتعددة من مشهد لأخر ، لنصل بعدها لنهاية الهرم من حيث تصعيد الأحداث ، لتهبط الفكرة الأم بشكل تلقائي عند لحظة التنوير، كمحصلة نهائية لأحداث النص ، بكل ما يحمل من حوارات محمولة على أصوات متعددة ، عبر حركة الشخوص المتعامدة على وتائر الحكي إرتفاعا وإنخفاضا ، وعلى الرغم من إكتناز الراوي بل وبمعرفة كبيرة بالجزر الأوربية ، إلا أن السرد في تلك الجزئية المهمة ، لم يكن بمستوى الكتلة الهائلة من المعلومات التي تشمل تلك الجزر، ولكن رغم كل ذلك أفلح الكاتب الى حد ما ، في رسم المشهد وتقريبه أكثر من رؤية المتابع لتلك الرواية ، حتى إن أتى أقل درجة من المتوقع ، من خلال لغة بسيطة إلا أن مدلولاها أعمق

تعليق واحد

  1. دراسه عميقه لناقد جيد، ونتمني الحصول علي الروايه ،يبدو عليها مشوقه من خلال عنوانها المثير.

  2. تكمن أهمية الروايه في الدراسه النقدية التي تقدم لها ، من خلال الدراسه استطعت يااستاذ ان تنقلنا الي عوالم الروايه والتي يبدو عليها تغوص عميقا في بحور الأزمات السودانيه

  3. قرئت هذه الروايه مرات عديدة بلا كلل ولا ملل فالاسلوب يحتوي التشويق والتشبيه والتعمق الخيالي شي ما وان دل انما يدل على براعة وخبرة الكاتب النميري حسين والدراسة النقدية كانت دقيقة ومتعمقه ايضا من النيل مكي قنديل فالنقد والدراسه بنائيين فالرواية تحمل رساله هادفة بصورة جذابة وشيقة

  4. قرئت هذه الروايه مرات عديدة بلا كلل ولا ملل فالاسلوب يحتوي التشويق والتشبيه والتعمق الخيالي شي ما وان دل انما يدل على براعة وخبرة الكاتب النميري حسين والدراسة النقدية كانت دقيقة ومتعمقه ايضا من النيل مكي قنديل فالنقد والدراسه بنائيين فالرواية تحمل رساله هادفة بصورة جذابة وشيقة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..