مقالات سياسية

مطلوب أحزاب سياسية تواكب طفرة الوعي

اماني ابوسليم

الوضع الانتقالي الآن يتطلب احزاب ذات رؤى استراتيجية تبني عليها برامج واضحة و قوية تخلق و ترسم طريقا للنهضة و التنمية و البناء و ان ينعكس ذلك على نظمها و هياكلها.

الاحزاب الموجودة الآن على الساحة السياسية مطالبة باجراء تغييرات جذرية بما يواكب التغير الجذري الذي حدث لدى عامة الناس و الا فسوف تتجاوزها الاجيال القادمة.

التغير الجذري الذي حدث هو ان ما كانت تسبغه العامة من تقديس و انبهار لصفوتها من الزعامات الدينية و الطائفية و صفوتها المتعلمة قد ولى بلا رجعة، و ذلك قد يرجع لعدة اسباب منها التغيرات الكثيرة التي حدثت في العالم و السودان في العقود الفائتة من انتشار للتعليم و درجته و الاطلاع على العالم و تطوره من خلال الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي.

الفرد السوداني الذي كان يقدس شيخ الطريقة الصوفية منذ عهد المملكة السنارية و بالتالي تتماهى ارادته مع ارادة الشيخ فيكون الشيخ مرجعيته الدينية و الاجتماعية و حتى الصحية، و يسلمه امره في الامور السياسية، ما عاد يتعاطى مع امور الدولة و السلطة بذات الطريقة، و الفرد السوداني الذي انبهر بالصفوة المتعلمة و اعتبرها اقدر منه و اكثر معرفة بامور الحكم و الدولة قد خلع عنه الانبهار و اصبح واعيا لمقدراته الشخصية، واثقا من انه صاحب الحق و الاختيار و هو من يجب ان ترضيه الاحزاب و من على دفة الحكم لا العكس.

التطور الذي حدث تطور كبير في الشخصية السودانية في مجال تعاطيها مع حقها السياسي و بالتالي علاقتها بالاحزاب و ضغطها عليها لانتاج برامج و نظم و هياكل تسهم في نهضة البلاد و خدمة انسانها بما يحفظ السلام و الكرامة.

لم يكن الفرد السوداني معنيا كثيرا بالتعامل المباشر مع السلطة و ذلك ظاهر من بداية ظهور الدولة السودانية الحديثة ابان المملكة السنارية، و لظروف و طريقة الحكم فيها كانت هناك مسافة بين السلطة و العامة يشغل فراغها شيوخ القبائل من جهة و شيوخ الطرق الصوفية من جهة اخرى يوكل لهم فيها العامة تقدير الامور فيما يخص العلاقة مع السلطة الا ان التقدير لشيوخ الصوفية كان اثره اكبر و اعمق يصل لدرجة تقديس الرأي و النصح في كل الامور بالاضافة للايمان بالقدرات الخارقة و البركة.

واصل الفرد السوداني في طريقته توكيل من يظنهم اقدر في التعامل مع السلطة، و واصلت السلطة عبر تغير العهود على خلق و حفظ تلك المسافة، حافظ عليها المستعمر التركي، و المستعمر البريطاني الذي آثر تقوية و دعم طائفتين ليشغلا ذلك الفراغ بينه و بين العامة،

و الثورة المهدية و ان كانت ثورة وطنية وحدت السودان الحديث ضد المستعمر الظالم و اثبت فيها السودانيون شجاعة و بسالة الا انهم لم يشغلوا ذلك الفراغ لوقوعهم تحت ذات التأثر بالايمان بالقدرات الخارقة للقائد التي تتطلب التقدير و التقديس لطريقته في الحكم.

و عندما جاء الاستقلال، ظل العامة على بعد ذات المسافة و على ذات التوكيل و الظن ان هناك من هو اقدر على تسيير دفة الحكم، و هما سيدي الطائفتين الكبيرتين بالاضافة للصفوة المتعلمة التي بدأت بتشكيل الاحزاب السياسية.

لكن الطرف الموكل له ادارة البلاد لم يكن على دراية بكيفية ادارة البلاد و النهضة بها الى الامام، لأن خبرته كانت في انزال سياسات الحاكم لا خلقها و ادارتها.

حسن الظن في الزعامة الطائفية و الصفوة المتعلمة لم يشحذها لتؤسس برامج تنموية مبنية على رؤى استراتيجية و شاملة للتعامل مع القضايا بعد الاستقلال، و في ذات الوقت لم يدفع العامة للضغط عليها لتأسيس تلك البرامج، و هذا هو الخلل الجوهري في تكوين و اداء الاحزاب السياسية في السودان، فالفكرة المحورية لتكوين احزاب ثم تمايزها عن بعضها كانت في طريقة الاستقلال، و بعد نيله فقدت الاحزاب ديمومة الفكرة المحورية التي قامت عليها و لم تجددها بما يواكب القضايا المتلاحقة بعد الاستقلال من تنمية و سلام و وحدة و هوية و علاقات خارجية و غيرها، لغياب الضغط من جانب العامة مما لم يشحذ همتها لتحديات المواكبة.

لم يكن من السهل على العامة شغل ذلك الفراغ بينهم و بين السلطة الحاكمة، لعراقيل التعليم و الوعي بالحقوق و عدم الخبرة في صنع التجمعات و طرق الضغط على السلطة مع الفروق الكبيرة في التعليم و الوعي و التنظيم بين المدن و الريف و بين العاصمة و الاقاليم.

جاء شغل الفراغ من المواطنين متدرجا، فبعد زعامة طائفية ابان الاستعمار تنفرد بشغل الفراغ الى اشتراك صفوة متعلمة معها في تكوين الاحزاب بعد الاستقلال، ثم ظهرت احزاب حديثة في طريقة هياكلها و نظمها كالحزب الشيوعي و الحزب المنحل و كان التطور درجة في فك الارتباط بزعامة طائفية مباشرة الا ان زعامتها نفسها كان لها ملامح من التقديس و التقدير مما كان للزعامة الطائفية فمؤسس الحزب يظل رئيسا حتى مماته كأنه شيخ صوفي لا يخلف الا بعد موته اما بالنسبة للفكرة المحورية للحزب فرغم ان هذه الاحزاب قد جاءت بافكار محورية مسببة لقيامها و تميزها من البقية إلا انه يمكن وصفها بأنها اعتمدت على فرض شروط فوقية على واقع البلاد مع ربطها بمحاور اقليمية قبل ربط اجزائه ببعضها جيدا.

استمر عامة الشعب في تقدمه لشغل الفراغ بينه و بين دست الحكم من خلال تنظيمه لنفسه في احزاب فظهر في العقود الاخيرة حزب المؤتمر السوداني الذي يشكل خطوة قوية في البعد عن هالة التقديس للقيادة و عن الادارة الفوقية لامور الحزب و هياكله و تنظيمه و علاقته بالقضايا على ارض الواقع، إلا ان الفكرة المحورية التي قام عليها الحزب يمكن وصفها انها نقطة الانقلاب بين الشكل القديم للاحزاب و الشكل المطلوب لانجاز التقدم لأنها لا زالت تعتمد على وجود تلك الاحزاب، ففكرة الحزب ترتكز على الاستقلال من الانتماء للاحزاب القديمة و الايدلوجيات الوافدة و بالتالي لا تشكل ركيزة ثابتة و متوجهة برؤية واضحة للانطلاق للامام.

التطور الخطير الذي حدث في الشخصية السودانية و ثقتها في مقدرتها على شغل ذاك الفراغ بنفسها و حتى شغل كراسي الحكم دون وكيل ، ظهر جليا بانتصار ثورة ديسمبر، فهي تعد طفرة في الوعي على كل المستويات التعليمية و النوعية او الجندرية و الجغرافية و ربما يعزى ذلك لزيادة التعليم و الاطلاع على العالم و تجاربه من خلال الفضائيات و عالم الاتصالات، فمواقع التواصل الاجتماعي اتاحت فرصة للتعبير و التجمع و مكنت كل فرد ان يؤسس منبرا ان اراد متجاوزا السلطة و الصحافة و البث الاذاعي و التلفزيوني.

الآن الشعب يقف شاغلا ما كان فراغا قبل الثورة واثقا في مقدرته على شغل كراسي الحكم بمن يمثل طموحاته في النهضة و البناء و السلام و العيش الكريم، و بات عارفا بقدرته على ازاحة كل متكاسل عن العمل لصالحه.

شعب بهذا الوعي و هذه القدرة، هل تستمر الاحزاب التي في الساحة على تمثيله في مستويات العمل السياسي و السلطة، احزاب لا زالت متأثرة بالتقديس الصوفي للزعامة بدرجة او باخرى و لا زالت تفتقد للرؤية الاستراتيجية الشاملة التي تبني عليها فكرة محورية لعملها و برامجها و حتى تمايزها عن بعضها البعض، ام ان الثورة لم تخرج كل ما في احشائها بعد، و انها لا زالت حبلى بكثير من المستجدات التي قد يكون من ضمنها ظهور تنظيمات سياسية جديدة تحاكي قدرة الشعب و تصميمه على النهضة و البناء.

التحديات التي نواجهها تتطلب تنظيمات سياسية قادرة على العمل و الحركة وفق رؤية استراتيجية شاملة و واضحة تبنى عليها البرامج و السياسات للنهضة و البناء، فالسؤال لم لم تظهر هذه التنظيمات حتى الآن و ما المتوفر لقيامها و ما الذي ينقص لاتمامها.
اماني ابوسليم
[email protected]
الحداثة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..