مقالات سياسية

مسار (غير منشور) لرحلة من دنقلا إلى كردفان (1824 ? 1825م)

مسار (غير منشور) لرحلة من دنقلا إلى كردفان (1824 ? 1825م)

An Unpublished Itinerary to Kordofan (1824 ? 1825)
Translated, with Notes by R. L. Hill ترجمة وتعليق: ريتشارد ل. هيل
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال نشر بالعدد التاسع والعشرين من مجلة “السودان في رسائل ومدونات” الصادرة عام 1948م للمؤرخ البريطاني الشهير ريتشارد ل. هيل (1901 ? 1996م)، وهو أكاديمي مختص بتاريخ مصر والسودان والشرق الأوسط، ومؤلف لعدد من أمهات الكتب عن تاريخ السودان منها “معجم الشخصيات السودانية” و”مصر في السودان” و”المواصلات في السودان”، وهو من أنشأ “أرشيف السودان بجامعة درام البريطانية”، ونشر كتابه الأخير “صفوة الفيلق الأسود” وقد تجاوز عمره 94 عاما. أتى الرجل مصادفة للسودان عام 1927م ولكنه بقي به للعمل موظفا في مصلحة السكة حديد، وتقاعد منها في عام 1945م . وأقام في غضون سنوات عمله بالسكة حديد علاقة صداقة مع مؤرخين من الهواة لهما نفس الاهتمام بتاريخ السودان هما المصري الشاطر بصيلي عبد الجليل والسوداني محمد عبد الرحيم (الباشكاتب بالسكة حديد). والتحق بعد تقاعده بقسم التاريخ بكلية الخرطوم الجامعية لمدة أربع سنوات، آب بعدها لبريطانيا للعمل في جامعة درام (للمزيد من سيرة المؤرخ يمكن الاطلاع على ما هو منشور في نعيه في Sudanic Africa, 8, 1997, 1-15
المترجم
********* ********** ************ *********** ***********
عنوان هذه المخطوطة الأصلي هو ” Voyage de Dongola a Cordofan fait dans l?annee 1824 et 25 par M.J. Chiros [Chiron?]” لمؤلف أخفقت في معرفة اسمه، وليس هنالك من دليل في داخل النص يشير إليه. غير أني أعتقد أن الكاتب لم يقم بكتابة المخطوطة بنفسه، بل أملاها على شخص آخر. النص مكتوب في الجزء الأول من كراستين غير مرقمتين، وطول كل واحدة سبع بوصات، وعرضها خمس بوصات، وأوراقها مصنوعة باليد ولونها أصفر شاحب، وتحمل العلامة المائية Pine &Thomas . وتحتوي الكراسة على نحو 9000 كلمة، وردت في 58 صفحة، مكتوبة بصورة متفاوتة الوضوح . وهي مكتملة خلا صفحة واحدة تم نزعها (ربما كانت تحتوي على حاشية / هامش). أما الكراسة الثانية فقد جاء عنوانها:”Cours du Nil depuis l? Isle de Philae jusqu?a l? Embouchure du Bahr Rahat [al ? Rahad] وهي تحتوي على خرائط تخطيطية لفروع وشلالات النيل، مرسومة بالحبر وألوان مائية، مع مذكرات عامة، وأخرى وصفية وطبوغرافية وملاحية، مكتوبة باليد بخط جميل. وورد في النص مسار الرحلات في الخرائط كما يلي:

1.فيلة – وادي حلفا ? دنقلا ? بربر ? مصب نهر الرهد (mouth of the Rahad) (مايو إلى ديسمبر 1826م).
2.أبو حراز، عبر البطانة إلى شندي عن طريق جبل مندرة، ريا، وقوز رجب (ديسمبر إلى يناير 1826م).
3.مصب نهر الرهد (mouth of the Rahad) إلى سنار (مايو 1827م).

وكان ماثيو باركنز (والذي طاف بسنار وكردفان بين عامي 1845 ? 1846م) قد تحصل على الكراستين، وهما الآن بحوزة السيد أ. جي. آركيل، مفوض حكومة السودان لشئون الآثار والأنثربولوجي.
وقمت هنا بحذف غالب الملاحظات والأوصاف الطبوغرافية من ترجمتي (الإنجليزية)
النص
بلغت دنقلا في الثاني من ديسمبر عام 1824م، وهرعت لمقابلة قائد المدينة الكاشف عابدين لتسليمه بعض الرسائل التى حملتها (المقصود هو الأرنووطي عابدين / عبدي بيه والذي عاش بين 1780 و1827م. وهو ضابط ألباني عمل في جيش إسماعيل باشا الذي احتل السودان في عامي1820 ? 1821م. وكان اسماعيل باشا قد تركه في دنقلا عندما تحرك بجيشه نحو سنار ليحكم المنطقة بين وادي حلفا ومروي. ريتشارد هيل). ولقيني بترحاب زائد، كما كان يفعل دوما مع الأوربيين، وأكرمني غاية الكرم في غضون أيامي في دنقلا. ولا أدري ماذا كنت سأفعل من دون مساعدته، إذ أن هذه البلدة تفتقر حتى لأبسط مقومات الحياة.
وبعد عدة أيام بدنقلا بدأت في التحضير للسفر نحو كردفان. ولم يكن التوقيت ملائما، إذ أن كل الجنود كانوا قد غادروا المنطقة، مما أتاح لعصابات من الأعراب أن تقوم بقطع الطريق ونهب القوافل.
وعندما كنت بدنقلا سعدت بلقاء السيدين روبيل Rüppell وهيي Hey، وهما من الرحالة الألمان ، كانا على استعداد لمشاركتنا في السير على ذات الطريق المؤدي لمقصدنا النهائي (الدكتور روبيل ? 1794 ? 1884م- هو عالم طبيعة، ويعد أول أوربي يطأ أرض كردفان، وأول من وصف شعب جبال النوبة وما يعيش فيها من بشر وحيوانات . وألف كتابا عنها عنوانه Reisen in Nubien, Kordofan. ريتشارد هيل). وأتفقنا على متابعة رحلتنا سويا. وتكرم الكاشف عابدين بالكتابة لكاشف آخر في “الدبة”، الواقعة على مسيرة خمسة أيام، موصيا إياه بإيقاف كل القوافل المتجهة لكردفان من مدينته حتى نصل إليها. وكان في تلك التوصية خدمة عظيمة لنا. ومنحني الكاشف عابدين أيضا الكثير من المؤن، وأعارني مركبا أصل به للدبة. وفي تمام الثانية بعد الظهر من يوم 23 ديسمبر بدأت رحلتي النيلية للدبة، بمساعدة ريح شمالية طيبة.
وبعد ثلاثة أيام بدأنا نعاني الأمرين من حشرات صغيرة تكثر في المنطقة لمدة ثلاثة أشهر في كل عام (المعنى هنا الحشرة المعروفة بالنمتى – المترجم)، ولا تظهر إلا في النهار. وهي صغيرة في حجم البرغوث، ولا تهاجم إلا الأعين والآذان. وبلغ من إزعاجها أن أصحاب المواشي في دنقلا كانوا يغلقون أبواب حظائرهم نهارا، ولا يطلقون البهائم لترعى في الحقول إلا ليلا. وكان المزارعون الذين يضطرون للخروج لأعمالهم نهارا، يحملون شعلة من النارمصنوعة من ألياف جريد النخيل كي يدفعوا بدخانها أذى تلك الحشرات الذي يصعب احتماله. بينما لجأ آخرون لحمل قطع مشتعلة من روث البهائم من أجل ذات الهدف.
وبلغنا الدبة يوم 28 ديسمبر، وقابلت الكاشف في داره، وكان قد تلقى أمرا بإعداد عشرة جمال بحمولتها من الزاد والمؤن لي، وأي شيء آخر يمكن أن أحتاج إليه. ودبر لي مسكنا وقام بكل ما يمكنه عمله من أجل راحتي في غضون أيامي ببلدته.
وبدأت قافلتنا المكونة من 43 رجلا و53 جملا في المسير نحو كردفان عند تمام الساعة الثانية عشر والنصف من يوم 30 ديسمبر. وكان السيد روبل معنا، وهدفه ? كما قال لي- هو جمع ما يمكنه من غرائب تلك المنطقة، خاصة الزراف.
وفي يوم 2 يناير، استأنفنا المسير و… وعند انتصاف النهار بلغنا واديا يؤدي إلى جبال سمريا Simriya. عندها قام قواد القافلة بالنزول من جمالهم وهم يحملون حرابهم، وصاحوا فينا يأمروننا بالتوقف والنزول من الجمال والاستعداد للقتال، وهم يشيرون لمجموعة من الرجال يتقدمون نحونا وهم على ظهور جمالهم. وسمعتهم يقولون إنهم من عرب بني جرار (وكانوا في تلك الأيام في نزاع مع الكبابيش حول المراعي. ريتشارد هيل).
وكان من معي من العرب (وكل منهم مسلح بثلاث حراب ودرقة) قد شاهدوا القادمين نحوهم من على البعد. وهبطت من جملي وأخذت بندقيتي ذات الماسورتين، ومسدساتي وسيفي، وتبعني خدمي المسلحين بالبنادق. وفعلت كل ما في وسعي لتشجيع من حولي وبث الحماسة فيهم رغم ذخيرتي الشحيحة من اللغة العربية، وطمأنتهم بأن لا خوف عليهم من هؤلاء العرب القادمين نحونا، ومشيت أمامهم متقدما عليهم بنحو سبع أو ثمانى خطوات. ولعلمي أن هؤلاء الأعراب لا يتصفون برحمة أو شفقة أو هوادة فقد كنت مستعدا لأن أدافع عن حياتي ، وبكل ما أملك ، خاصة وأني أدرك أن لا مخرج أمامي ولا ملجأ غير الثبات والمواجهة ، فالهرب من أمامهم في هذه الصحراء هو موت محقق . والموت على أيديهم أرحم من أن أموت ميتة شنيعة عطشا وجوعا في هذا التيه البالغ الحرارة ، علما بأن أقرب مصدر للمياه كان على مسيرة ثلاثة أيام . ولعل هذا الإدراك هو ما زاد من شجاعتي . ولما مضينا نحو الأعراب القادمين نحونا تبين لنا ? ولدهشتنا البالغة ? أنهم نحو مائة جندي في ثياب رثة وحال بائس، وكانوا يظنون أننا من قطاع الطرق ، تماما مثل ما ظنناهم كذلك ، وكانوا على استعداد لقتالنا بناء على ذلك الافتراض.
وكان معنا في القافلة – كما ذكرت آنفا – السيد روبيل، وقد تجمد تماما على ظهر جمله من فرط الدهشة عندما سمع بأن هنالك عربا قادمون نحونا لمهاجمتنا، ولم يعد يسمع أو يع نداءات الجميع للنزول من على جمله. واضطر أحد مرافقيه لإناخة جمل سيده، والصياح به كى يعطيه، على الأقل، بندقيتيه ليحارب بهما إن كان لا يجيد استخدام السلاح الذي يحمله!
وحسب روبيل – بعد تفكر وتدبر- أن أفضل مكان آمن يختبيء فيه هو خلف الجمال، إذ كان يؤمن بأن عالما مثله جاء لهذه الأصقاع في مهمة علمية (وليس سواها) لا ينبغي له أن يعرض نفسه لما يمكن أن يحرم زملاءه من علماء أوربا من توقعاتهم الكبيرة في نتائج رحلته، وألا يموت مثل القَرْسَة. غير أنه لم يحسب حسابا لتقريع رفاقه في القافلة بعد أن سكن النقع، وعادت القافلة لمواصلة السير. فقد تلقى منهم الكثير من السخرية والهزء واللوم بسبب جبنه، من ذلك ما قاله له أحدهم: “لو كان من قابلنا بالفعل من العرب قطاع الطرق، لنالك منهم أشد العذاب، فهم يمجون الجبن والجبناء، وكان من الأفضل لك أن تدافع عن نفسك، وأن لا تختبيء كما فعلت”.
وأقبل علىَ مرافقونا في القافلة يكيلون لي الثناء، ويدعون بالخير لأمي التي أنجبتني. غير أن أكثر ما أشعرني بالزهو أمام الرجل الأوربي الآخر (روبيل) هو قولهم: “عاش الفرنسيون … الفرنسيون صناديد شجعان لا يهابون الموت!”.
وأؤكد هنا أني لا أذكر ذلك من باب الفخر والزهو بالنفس، إذ أن الظرف الذي أحاط بنا هو الذي بث روح الشجاعة في نفسي، وربما كنت تصرفت على نحو آخر إن تهيأت لي فرص النجاة والسلامة، فقد حدث قبل فترة وجيزة أن تم نهب قافلة مكونة من 300 من الإبل محملة بالتمر تعود لعابدين بيه، وبقي من الخمسين رجلا في تلك القافلة خمسة رجال فحسب. وبعد أن نجونا من تلك الحادثة (الصغيرة نسبيا) مضينا نضحك ونستذكر تصرفاتنا في لحظاتها. وعند الثالثة عصرا بلغنا سمريا.
جبال الحرازة عالية جدا، وتمتد سلسلتها من الشرق إلى الغرب مكونة ممرا ضيقا توجد به قرية اسمها كيلوم Kalium بها بئر ماء. وهنالك نحو مئة قطية مهجورة في شمال الجبال، ثم قرية أخرى تدعى الحرازة. زارنا شيخ الحرازة حاملا معه هديته لنا، وكانت عجلا سمينا، إذ أن منطقتهم لا توجد بها أغنام. ورغم أن الماء هنا من أردأ الأصناف، إلا أن سقي أربعة جمال يكلف صاحبها نحو دولار واحد. وتم اعفاؤنا من تلك الرسوم بحسباننا نعمل في خدمة الحكومة.
وتتكون غالب المنازل / التكل Tukls من “عشش” مصنوعة من فروع الأشجار، ومعظم السكان من الزنوج، ليس فقط لأنهم لا يبعدون عن مناطقهم كثيرا، بل لأن قاطنى القرية يمتلكون إماء زنجيات يستولدونهن.
وعندما مر صهر الباشا، الدفتردار محمد بيه الدرملي (؟ – 1833م، قائد الجيش المصري ? التركي الذي فتح الأبيض في 1821م، والذي عين سرعسكر سنار وكردفان عقب مقتل إسماعيل باشا)، بقرية الحرازة وهو في طريقه لكردفان أمر شيخها (واسمه عبد القادر) بتسليمه كل ما بالقرية من خيول، فسلمه الشيخ دون جدال أو مقاومة 27 فرسا، كانت هي وسيلة السكان الوحيدة لصيد الزراف (وهو مصدر عيشهم الوحيد). غير أن الشيخ الماكر كان قد خبأ فرسه في الغابة المجاورة، وبقي ذلك الحصان المحبوب الوحيد بالقرية. وبعد أن خيم الدفتردار لمدة خمسة أيام بالقرية، غادرها متجها لحدود كردفان. وبلغه من أحدهم أن شيخ الحرازة كان قد خبأ فرسه في الغابة ، وكانت فرسا ممتازة الصفات ، فاستدعى الدفتردار الشيخ من قريته (وكان على بعد مسيرة ثلاثة أيام) وطلب منه تسليمه فرسه ، فأبي الشيخ . وأغضب ذلك الدفتردار فأمر بإدخال الشيخ في بئر القرية. ومكث الشيخ في غياهب ذلك الجُبُّ أربع سنين دون شكوى، وظل أهله ينزلون له طعامه يوميا طوال تلك السنوات.
ولم يخرج الشيخ من تلك البئر حتى غادر الدفتردار الأبيض وخلفه حليم بيه، والذي كان أكثر حلما ورأفة من سلفه، وجيء به إلى الأبيض ليعيش فيها ردحا من الزمن. وقابلت الرجل في الأبيض وأصر أن يستضيفني في قريته الحرازة عند عودتي للخرطوم. (ومن قصص التعذيب ما ورد في كتاب تاريخ السودان المصري للكاتب الفرنسي Douin, G. الصادر بالقاهرة في 1944م من أن الدفتردار أمر بحبس عبد الهادي، شيخ الجبل، في اسطبل الخيول وإطعامه من علفها عقابا له على إنذاره مسلم، حاكم الأبيض، بتقدم جيش الدفتردار نحو الأبيض. ريتشارد هيل).
وفي التاسع من ذلك الشهر بلغنا كجمر، ووجدنا فيها بحيرة تمتد إلى نحو ربع ميل من الشمال إلى الجنوب، ومثل ذلك إلا قليلا من الغرب إلى الشرق، ولا تصلح مياهها إلا لشرب الإبل والأبقار التي يرعاها العرب في تلك الأنحاء.
وكانت مدينة بارا في وضع (اقتصادي) مزدهر قبل غزو الجيش التركي لها. واشتهرت تلك البلدة بسبب معركة مشهورة بين الكنجارة والأتراك بقيادة الدفتردار، قتل فيها سلطان كردفان وسحق جيشه. وكان جيش الدفتردار مكونا من نحو 700 رجل فقط وله أربعة مدافع، بينما كان جيش السود مؤلفا من 16000 رجل بحرابهم ودرقاتهم، وكان بعضهم يحمل السيوف أيضا. وتقدم الزنوج ساعة رؤيتهم للجيش التركي الغازي وهم يصحيون صيحات الحرب، فقتل منهم في لحظات نحو 500 فرد بطلقات مدفع واحد. ولم يكونوا يتوقعون ذلك، ولكنهم صمدوا وأظهروا شجاعة عظيمة. وعزا الأتراك نصرهم لدقة تصويبهم وقوة نيران مدفعيتهم التي حصدت مشاة الزنوج حصدا.
وتمكن بعض فرسانهم من قتل من كانوا يقومون بإطلاق قذائف المدافع من الجنود الأتراك. وحاولوا تحطيم المدافع بسيوفهم، ولا تزال آثار الضربات التي خلفتها تلك السيوف على أحد المدافع باقية إلى يومنا هذا أمام قلعة الأبيض.
ولجأ كل من نجا من القتل أو الأسر من الجنود السودانيين إلى دارفور. وقتل من الزعماء السودانيين 18، من جملة 22 شهدوا تلك المعركة. وقيل إن أحد هؤلاء الزعماء، لما أيقن بالهزيمة وعدم جدوى القتال، أسقط نفسه من حصانه وغطى جسده بالدماء وتظاهر بالموت. ولما جاء جنود الأتراك يبحثون وسط القتلى عن الغنائم، ويقطعون آذناهم (وتلك عادة كان الدفتردار يشجعها، ويدفع لكل جندي يأتي بأذني السوداني المحارب عشرين قرشا نظيرها. ريتشارد هيل)، لم يحرك الرجل شعرة من جسده أو يبد حراكا وهم يسلبون ما كان عنده، ويقطعون أذنيه. ولما أنصرف الأتراك عن أرض المعركة، عاد الرجل للأبيض ومثل أمام الدفتردار وحكى له عن مغامراته تلك، فمنحه الدفتردار جملا، وعينه حاكما على كنجارا.
وبعد انتصار الدفتردار فرض على بارا غرامات باهظة على سبيل التعويض. ومنها سار إلى الأبيض دون أن يعترضه أحد من الناس.
وكان يقطن في بارا (وهي تمتد لثلاثة أميال من الشرق إلى الغرب، وربع ميل من الشمال إلى الجنوب) نحو ألفين من الرجال يمتلك ثلثاهم حدائق ومزارع واسعة تؤول ملكيتها للتجار القادمين من الشمال (الجلابة)، ويقوم على شئون زراعتها رقيق شاهدتهم يجلبون الماء، ليلا ونهارا، لري تلك المزارع والحدائق. والماء في بارا متوفر، ومن نوعية حسنة. وكل من يحفر الأرض لعمق 10 ? 15 قدما سيجد ماء عذبا.
ويزرع الناس هنا التبغ (وهو من نوع رديء)، ومختلف أنواع الخضروات والفواكه (مثل الشمام والبطيخ)، والتي لا ترى في أوروبا إلا في شهري يونيو ويوليو. ويزرعون كذلك القمح، ويصيبون في ذلك نجاحا متوسطا، لعدم مناسبة التربة ولمشقة زراعته والعناية به. وبالبلدة كثير من أشجار النخيل التي لا تثمر.
وبنى كاشف بارا له دارا أشبه بالقلعة في داخلها نحو أربعين بيتا صغيرا/ لكل منها حديقة صغيرة في مساحة زنزانة سجن.
وأتى معظم سكان بارا من دنقلا، وهو يقيمون بالمدينة، غير أن تجارتهم تأخذهم غالب الوقت بعيدا عنها، فيذهبون في القوافل لمصر ودارفور. وسكان بارا أكثر تحضرا من غالب سكان كردفان، ولا ريب عندي أن مرد ذلك هو تطوافهم.
وبلغنا الأبيض عاصمة كردفان في يوم 13 يناير … وحللت بمنزل أحد كبار تجارها واسمه الحاج أنبار. والرجل من أصل حبشي وعاش ردحا من الزمان بمكة. وكان قد جمع الكثير من البضائع من الهند مؤملا بيعها بربح عظيم في القاهرة، غير أن سفينة بضاعته تحطمت في البحر، ولم يستطع إلا إستنقاذ القليل من تلك البضاعة. واتجه من القاهرة لسنار ومنها لكردفان، التي بقي بها لثلاثة عشر عاما متصلة.
أكرم الحاج أنبار وفادتي ومن معي، وتكفل بطعامنا وشرابنا وسكننا اسبوعين كاملين. والأبيض مدينة كبيرة يقطنها نحو 20000 من السكان في بيوت طينية أو من القش. وغالب السكان من الدناقلة، الذين يعملون بمفردهم في التجارة، ويتزاوجون فيما بينهم. وهم يتميزون عن بقية السكان من السود (الذين يطلقون على الدناقلة لفظة “أحمر/ حمر”). ويمتلك هؤلاء التجار رقيقا من الجنسين، يقومون بعد قضاء أعمالهم (وهي ليست بالشاقة) بما يحلو لهم دون ضوابط أخلاقية (moral restrains)، ويبيع ملاك الرقيق ما تنجبه إماؤهم.
وليس بالمدينة آثار فنية تذكر خلا بعض أعمال الفضة. ولا تتعدى هذه الأعمال ما يصنعه الصاغة من حِجْل وأساور وخواتم فضية للنساء. ويوجد بالمدينة الكثير من مناجم الحديد، والتي يستغل الحدادون ما تنتجه من حديد ممتاز النوعية في صناعة الحراب والسيوف التي يستخدمها الزنوج. ولا يوجد في تلك الأنحاء معادن أخرى مثل النحاس أو الفضة، رغم وجود القليل من مناجم الذهب بتقلي ، التي تقع على مسيرة ستة أيام جنوب الأبيض ، والتي لا يقوم سكانها باستخراجه (وهذه واحدة من خُزَعْبِلَات ذلك الزمان، فالذهب كان يستخرج من منطقة قريبة من جبل شيبون. انظر مقال جي دبليو بيل ، العدد العشرون من مجلة “السودان في رسائل ومدونات” الصادرة عام 1937م صفحة 125. ريتشارد هيل). وفي تقلي 32 جبلا لم يقع أيا منها تحت سيطرة الباشا أو الدفتردار. ويحكم سكان تلك الجبال من الزنوج سلطان (محلي) واحد. وعجز الأتراك عن السيطرة في كردفان إلا على السهول التي تقع فيها المدن، وبقيت تلك الجبال مستقلة.
وبكردفان حامية مكونة من كتيبتين من الجند الذين أتى بهم الباشا، وأسس بهم جيشه على النمط الفرنسي، وكان على رأسه بالأبيض القائمقام سليمان بيه الخربوطلي. وعلمت بعد السؤال أن بكردفان 400 من جنود المشاة مع عدد من العرب، و50 مدفعا.
وفي غضون أيامي بالأبيض عزم حاكمها على تسييرغارة على الزنوج في جبل تكم (Tukam)، التي تقع على مسيرة ثلاثة أيام، وهي أقرب الجبال للأبيض. ووضع على رأس تلك الغارة شريف أغا. وكان جيشه مؤلفا من 10 – 12 ألفا من العرب الذين يحملون الحراب (ومعظمهم من النيل الأبيض)، وكانوا على ظهور الخيول والجمال والثيران. غير أن معظم حيوانات تلك الحملة نفقت في الطريق وذلك لأن القائمين على أمر تجهيزات ذلك الجيش نسوا أن يحضروا معهم ما يكفي لعلف بهائمهم! ووصلوا في نهاية المطاف إلى مقصدهم قرب الجبل في خمسة أيام (عوضا عن ثلاثة) وأقاموا لهم معسكرا في سفح الجبل. وفي صباح اليوم التالي لوصولهم بعث القائد برسول إلى زعيم ذلك الجبل يطلب منه إرسال 2000 من الرقيق الذكور، ومئة لفة من القماش لتغطية تكاليف الحملة (وكانت لفائف القماش تستخدم في كردفان بحسبانها عملة نقدية، حيث تعادل اللفة الواحدة نصف قرش اسباني أو 40 قرشا مصريا. ريتشارد هيل).
ورد الزعيم بأنه لم يقم بدعوة الجيش التركي حتى يدفع له، ولكنه الآن يدعوه للمغادرة. وأضاف بأن على ذلك الجيش إن أراد نيل ما طلبه منه أن يتقدم ويحاول أخذه عنوة، وسيلقى “ترحيبا” مناسبا. وغضب القائد التركي لذلك الرد المتحدي فأمر بإطلاق نيران مدفعيته لإخافة الزنوج. غير أن ذلك لم يفلح في إخراج هؤلاء من مخابئهم في الجبل، وعلى قمته، حيث تسلح كل واحد منهم بعدد من الحراب، وبقي في انتظار هجوم الأتراك. ولم يجد القائد من وسيلة لهزيمة سكان الجبل غير أن يأمر جنده بالصعود إلى قمم الجبل. وكانت منحدرات ذلك الجبل شديدة التعرجات والميلان، مما جعل الصعود فيها أمرا عسيرا، بينما كان السكان المحليون يتحركون فيها في رشاقة المعز. وبدأ هؤلاء في قذف الجنود الأتراك بالصخور، مما أثار في أوساطهم الارتباك الشديد، وعادوا لمعسكرهم عند سفح الجبل دون نظام. وعندما حل الظلام باغت الزنوج معسكر الجيش التركي بصورة مفاجئة لم تتح لهم فرصة للدفاع عن أنفسهم، فقتل خمسة وعشرون من الأتراك الضباط والجنود، وجرح ثلاثون. واكتفى العرب في الجيش التركي بمشاهدة ذلك الصراع دون المشاركة فيه.
وعادت جنود الحملة التركية للأبيض وهم في حالة مزرية، خاصة بعد فقدانهم لجمالهم، ودون أن يفلحوا في جلب زنجي واحد. أغضبت تلك الهزيمة حاكم كردفان، فقرر أن يسير حملة أخرى يقودها بنفسه. غير أن حظه لم يكن بأفضل من حظ سليمان بيه الخربوطلي، وفقد كثيرا من جنده، رغم نجاحه في جلب 600 من الرقيق من كبار السن والأطفال الذين عجزوا عن الهرب أمام الجيش الغازي.
وفي الأول من مارس سير حاكم كردفان حملة لجلب الإتاوة عنوة من زعيم الحسانية بالنيل الأبيض، الذي أبى دفعها. وكانت الهزيمة من نصيبهم أيضا، إذ تكبدوا خسائر فاقت ما كانوا يؤملون حصده من إتاوة، واستولى الجنود الأتراك على كثير من الغنائم والأسلاب احتفظوا بها لأنفسهم.
وأدت تلك الحملات المتكررة على الأهالي إلى فرار السكان من قراهم. وقدر جمع من كشاف المدن أن نحو سكان 700 مدينة وقرية هجروها تماما في غضون السنوات الأربع التي أعقبت غزو الجيش التركي / المصري للسودان.
وحاولت خلال أيامي في الأبيض أن أجمع شيئا عن تاريخ هذا القطر، بعد أن تأكدت تماما من أن أحدا لم يقم بهذه المهمة. وروى لى الحاج أنبار طرفا من سيرة آخر سلطان في المدينة (يسمى مسلم)، وفي ظني أن الناس لم يحفظوا سيرته إلا لعدله في الحكم. وكان مسلم قد نشأ صغيرا في عائلة نبيلة المحتد بدارفور، وعين في شبابه ضابطا في بلاط السلطان. وكان شديد الوسامة، شغفت به إحدى نساء السلطان حبا. ولما أفتضح أمرهما قبض عليهما. وكان السلطان يحكم في مثل هذه الحالات بإخصاء من يدان بمثل هذا الجرم وتقديمه هدية لمن اتهمت بإغوائه. ولخوفه من عواقب تلك العملية، شهد مسلم أمام السلطان بأنه لم يحاول غواية زوجته، ولكن سحر عينيها هو ما أغواه بفعلته التي فعل (وهو من المسحورين). عند ذلك أمر السلطان بأن تقتلع العينان الساحرتان من محجريهما في التو والحال، وأن يشهد مسلم ذلك، وبذا كتبت له السلامة.
وفيما بعد أرسله السلطان الحاج عبد الرحمن على رأس جيش مكون من 4500 من الجنود للسيطرة على كردفان، وأفلح بالفعل في السيطرة عليها ونصب نفسه سلطانا عليها لأكثر من عشرين عاما، بموافقة من سلطان دارفور الذي كان يعد كردفان جزءا من سلطنته (قيل إن سلطان دارفور الحالي محمد الفضل بن السلطان عبد الرحمن كان لا ينظر في وجه رجل أبيض قط، متعللا بأن ذلك يرعبه. ريتشارد هيل). وأفلح الأتراك في عزله من منصبه بصعوبة بالغة.
وبعد أن قضيت في كردفان نحو شهرين عزمت على الأوبة من حيث أتيت، وزرت الحاكم ? من باب اللياقة – لنيل الأذن بالمغادرة. ولكني ذهلت عندما أخبرني بأنه يجب على أن أرجع عن طريق الخرطوم لأدفع ما على من مكوس مفروضة على من كنت أملكه من الرقيق. وغادرت الأبيض في التاسعة من صباح يوم 19 مارس، وكنا نتحرك ليلا ونرتاح نهارا لإشتداد الحرارة.
(أورد الكاتب حكايات عديدة عما لاقاه من صنوف الأذي والمعارك الصغيرة مع “الجلابة” الذين لقيهم في طريقه حتى بلغ مدينة “الدبة”. وفيها أقام ليومين في ضيافة الكاشف، ثم غادرها إلى القاهرة. المترجم)

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. وعادت جنود الحملة التركية للأبيض
    الحيح هو
    وعاد جنود الحملة التركية للأبيض

  2. تعليقا على السؤال حول “وضع الأبيض السياسيي الخ” وردني من صديق أن هنالك كتابا
    من تأليف المرحوم الفاتح النور صاحب جريدة كردفان عنوانه “التاريخ السياسي لكردفان” وهو لم ينشر بعد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..