نظرية “البيئة المعزولة” : استراتيجية العزلة كأداة للهيمنة والثراء في تجربة الإسلاميين في السودان

نبيل منصور
مقدمة
منذ تسلُّمهم للسلطة بانقلاب 1989م، سعى الإسلاميون في السودان إلى عزل البلاد عن محيطها الإقليمي والدولي، ليس بدوافع أيديولوجية خالصة كما يُروَّج، بل ضمن خطة مدروسة، خطة ممنهجة لصناعة بيئة مغلقة يتحكمون فيها دون رقيب. هذا المقال يحاول أن يثبت أن العزلة لم تكن عارضًا خارجيًا فرضته القوى العالمية، بل مقصودة ومدروسة، واستُثمرت بشكل فعال لبناء اقتصاد موازٍ، وتحقيق ثروات خاصة، وتكريس سلطة تنظيمية مستترة.
أولًا : انتهازية لا غباء
الخطاب الشائع يصور الإسلاميين كأنهم ضحايا لحصار خارجي، أو كتنظيم فشل في التعامل مع المجتمع الدولي. لكن الواقع يُظهر أنهم تعاملوا مع العزلة بذكاء إجرامي، ورأوا فيها فرصة لإقامة نظام لا يخضع للمساءلة. فقد وظفوا العقوبات والحصار لتبرير إنشاء اقتصاد موازٍ، وخلق شبكات تهريب وتخزين واحتكار خارج النظام الرسمي.
ثانيًا : العزلة تصنع دولة داخل الدولة
خلال سنوات الحصار، ظهرت شركات مثل زادنا، سين، جياد، التصنيع الحربي، روتانا، شركات طيران، وغيرها، كأذرع استثمارية خفية تخدم مصالح قيادات أمنية وتنظيمية. كانت هذه الشركات هي المنفذ الوحيد للاستيراد والتصدير، وتسيطر على السوق والدولار والسلع الإستراتيجية. بمعنى آخر، خلقت العزلة بيئة احتكارية يتحكم فيها التنظيم ويستفيد منها بصورة خفية.
ثالثًا : الثورة تهدد هذا النظام
مع اندلاع ثورة ديسمبر وبداية محاولات الانفتاح على العالم، ظهر خطر كبير على هذا البناء الخفي. دخول السودان للنظام المالي العالمي، وعودة البنوك، ورفع العقوبات، كان يعني مراقبة التصدير والاستيراد، ونهاية التهريب والاحتكار. لذلك قاوم الإسلاميون بشراسة أي خطوات إصلاح اقتصادي أو علاقات خارجية شفافة.
رابعًا : الحرب كإعادة إنتاج للعزلة
اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع ساعد على إحياء نفس البيئة القديمة: الموانئ مشلولة، البنك المركزي معطل، التهريب عبر الحدود مستمر، والعقوبات بدأت تتجدد. وهذا الوضع ليس خسارة للإسلاميين، بل فرصة لإعادة ترتيب مصالحهم، مستغلين حالة الفوضى.
خامسًا : العزلة كمنتج للعدو الديني – “حصار الإسلام” نموذجًا
من أبرز أدوات الإسلاميين في ترسيخ العزلة كخيار استراتيجي كانت صناعة “عدو خارجي دائم” عبر خطاب ديني يستند إلى مفهوم المؤامرة الكونية على الإسلام. لم يكن هذا مجرد توظيف أيديولوجي للدين، بل كان أداة وظيفية لتعبئة الجماهير، وتبرير القمع، وتحقيق تماسك داخلي مصطنع داخل السلطة والتنظيم.
في خطاب شهير ألقاه عمر البشير عام 1993م بعد أن ادرجت الولايات المتحدة السودان علي قائمة الدول الراعية للارهاب نسبة لاحضانه عدد من الشخصيات الاسلامية المتشددة كأسامة بن لادن، وصف العقوبات الدولية بأنها “حلقة من حلقات الحصار على المشروع الإسلامي”، مروجًا لفكرة أن السودان يتعرض للهجوم لأنه يقود “صحوة إسلامية عالمية”. هذا الخطاب نقل العزلة من سياقها السياسي والاقتصادي إلى مقام ” واجب جهادي مقدس”، بحيث تصبح مقاومة الانفتاح ورفض التعامل مع الغرب، وشيطنة المعارضة، أعمالًا يُثاب عليها، وليست أخطاء تُحاسب.
المفارقة أن هذا الخطاب تجاهل تمامًا أن أسباب الحصار كانت سياسية واقتصادية وأمنية بالأساس، تتعلق بدعم الإرهاب، وإيواء مطلوبين دوليين، وتبني نظام شمولي قمعي. لكن تحويل العقوبات إلى قضية دينية مكَّن النظام من تسويق نفسه كـ”ضحية”، وخلق بيئة من الطاعة والانضباط داخل المجتمع، خاصة في الأوساط الريفية والفئات الأقل وعيًا.
إضافةً إلى ذلك، لعب الإعلام الرسمي، ومنابر الجمعة، وتنظيمات الطلاب والنساء دورًا كبيرًا في ترويج هذا الخطاب، حيث رُبط الانفتاح بالخيانة، والديمقراطية بالكفر، والغرب بالفساد الأخلاقي والانحلال. وبهذا الشكل، تحولت العزلة إلى فضيلة، وتحول القمع إلى حماية من “العدو الخارجي”.
لكن الحقيقة أن هذه البيئة المغلقة خدمت فقط مصالح النخبة الحاكمة، وأسهمت في بناء دولة بوليسية، ترسخ فيها الفساد تحت غطاء “التحصن ضد الغزو الثقافي والعقائدي”.
اذن الخطاب الجهادي والإعلام الموجَّه لعب دورًا محوريًا في خلق بيئة عزلة ذاتية: تصوير الخارج كعدو، والثورة كمؤامرة، والمعارضة كعملاء. هذا الخطاب ليس فقط دينيًا بل وظيفي، يخدم مشروع العزلة ويبرر القمع والنهب تحت ستار الدين.
سادساً : استغلال العقوبات كمصدر للربح وليس كعقاب
عندما فرضت العقوبات الاقتصادية على نظام الإنقاذ في السودان، كان الهدف من ورائها هو عزل النظام وتقييد قدرته على إدارة الاقتصاد والتحكم في الموارد الوطنية. ولكن، ما حدث فعليًا كان عكس ذلك. فقد ظهرت شبكة من الشركات المملوكة لقيادات النظام وأجهزته الأمنية، تعمل كسماسرة في السوق السوداء، تستورد وتصدر السلع باسم الوطن لكنها في الحقيقة تُغني جيوب القلة الحاكمة.
هذه الشركات لم تنشأ عبثًا، بل صممت لتعمل في ظل بيئة مغلقة ومقاطعة دولية، فتكون الوسيط الوحيد في حركة التجارة، وبالتالي تتحكم في السوق والأسعار، وترسخ احتكارها الاقتصادي بشكل ممنهج.
سابعاً : تواطؤ ودعم بعض الدول
لا يمكن تجاهل دور بعض الدول التي تعاملت مع النظام رغم العقوبات، بل شجعت وجوده واستمراره. هذه الدول قد يكون لها مصالح استراتيجية أو اقتصادية في استمرار النظام كما هو، ما يجعلها شريكًا في استمرار حالة الانعزال التي تُمكّن الكيزان من استغلال الموارد دون رقابة.
هذا التواطؤ، سواء عبر استيراد الذهب المسروق، أو تسهيل عمليات التهريب، أو دعم عسكري وسياسي، يجعل تلك الدول تُشارك بشكل غير مباشر في الجريمة الاقتصادية والسياسية التي ترتكب بحق الشعب السوداني.
ثامناً : غياب المجتمع الدولي والضمير العالمي
المجتمع الدولي الذي يفرض العقوبات عليه مسؤولية أخلاقية وإنسانية في التحرك الفعلي للحد من هذه الانتهاكات، لكن للأسف كثيرًا ما يكون التفاعل شكليًا أو محدودًا.
ففي الوقت الذي يُفرض فيه حصار اقتصادي على السودان، تستمر جرائم التهريب، وتُرتكب انتهاكات بحق المدنيين، بينما يبقى رد الفعل الدولي ضعيفًا وغير فعال. وهذا يعكس إما قصورًا في الإرادة السياسية أو تداخل مصالح تجعل من تحجيم هذا العقل الإجرامي أمرًا الي حملة ضغط واسعة تلعب فيها القوي السياسية السودانية ومنظمات مجتمعه المدني بالتعاول مع الدولية راس الرمح. وهذه واحدة من الأسباب التي جعلت الكثيرين يتحدثون عن اهمية وحدة القوي السياسية والمجتمعية.
خاتمة
العزلة ليست دائمًا نتيجة لعقوبات خارجية، بل قد تكون مشروعًا داخليًا مقصودًا لخدمة مصالح محددة. تجربة كيزان السودان تُثبت أن بعض الأنظمة تعمد إلى خلق بيئة مغلقة كي تحكم دون رقابة. كسر هذه العزلة لا يكون فقط بإلغاء العقوبات، بل ببناء وعي شعبي يرى في الانفتاح حماية للوطن لا تهديدًا له.
وهبْ أننا ذهبنا إلى أن تحليلنا هذا غير واقعي أو منطقي، أليس من المفارقة أن من ورثوا السلطة بعد البشير، يعيدون إنتاج نفس العزلة؟ ألم تُثبت التجربة أن الحصار يُضعف الأنظمة؟ اذن لماذا يتكرر؟ الجميع يعلم ماذا فعل الحصار بحكومة البشير، وكيف أضعفها اقتصادياً ودبلوماسياً. فإن كان هذا التحليل خاطئًا، لماذا كرر نظام البرهان ذات السلوكيات التي قادت نظام البشير إلى نفس العزلة والانهيار؟ أليس هذا في حد ذاته دليلًا على أن العزلة كانت مقصودة ومفيدة للبعض، وأن تكرارها يخدم ذات المصالح القديمة بثوب جديد؟ .