الجَنُوْبْ بَيْنَ عُسْرِالْفِطَامِ … َومُرْاجَعَاتِ دَ. الكَوْدَةِ !!!

إعترف الدكتور رياك مشار عشية ترتيبات تسجيل من يحق لهم التصويت على قرار تقرير المصير ، أن ثمة صعوبات تكمن فى تعريف من هو السودانى الجنوبى ؟! أهى القبائل ؟ ، أم كل من ظل يسكن هناك حتى إن كانت أصوله تمتد إلى دول أخرى مثل يوغندا وكينيا وأفريقيا الوسطى والمقيمين الدائمين من السودان الشمالى ؟ ، لقد طرحت موضوعات الجنسية وحقوقها ، متزامنة مع أهلية من يحق له المشاركة فى إتخاذ قرار إنشاء الدولة ، من دونها .. وتباعا توالت الإستفهامات المتعلقة بالقبائل المشتركة والأراضى والكثير مما يجب التعامل الآنى معها ..
ثمة من يرى أن إحتدام النزاع حول الأصول والحدود ، أنما هو نذير شؤم وكامن شر مؤد حتماً إلى صدام أوسع نطاقاً عاجلا كان أم آجلا ، وأن أحداث العنف فى مناطق مثل أبيي وسماحة وهجليج ، ما هى إلا بروفات على ما سيحدث لاحقا ! أصحاب هذا الطرح محقون فى ما ذهبوا إليه ، ولكن فى حالة ثبوت نية أحد الطرفين فى الدخول فى هذا المعترك ، وهذا ما لم يثبت حتى الآن .. فالكل تنقصه الحجج والتبريرات التى لا تقبل الدحض ، أو يمتلك حججا يمكن أن تدفع سياقاتها بأحد الأطراف ، للمطالبة بأكثر مما هو موضوع على المنضدة ، وبعض الأدلة عبارة عن أفخاخ يمكن أن ترتد على عنق صاحبها ..
هذه النزاعات المعقدة فى قسمة الأصول تعكس مدى عضوية التداخل بين مكونات الفئتين ، ويكفى أن أكبر القبائل الجنوبية على الإطلاق لم ينج من هذا التنازع ، فسلوك السياسيين فى البلدين يعكس بوضوح أن فرع قبيلة الدينكا المسمى بنقوك هى فى الواقع قبيلة متنازعة عليها رغم التطرف فى معاداة وطرد القبيلة الأم من السودان ، والمسيرية بدورها قبيلة متنازعة عليها وإن كانت تطمح فى موارد الجنوب وتعف عن الإنتماء إليه ، وسبق أن قدم لها الرئيس سلفاكير عرضا إستثنائيا بمنصب نائب رئيس لجمهورية جنوب السودان ، وجنسية ، ومحلية خاصة ، إن تعاونت حول مسألة أبيي . ويجب ألا يفوت علينا أنه لولا الحرص على تمرير صفقة إنفصال الجنوب !، ولولا إعتراضات البريطانيين أثناء المفاوضات ، لكانت منطقة جبال النوبة هى بؤرة التنازع الكبرى بين الدولتين !
هذا ما يدفعنا للبحث عن أوجه التداخل بين شطرى السودان!!
وعن الخيوط التاريخية المتعرجة التى تفصل جنوب السودان عن شماله !!
وعن المساحات التى كانت تغطيها القبائل الجنوبية فى الأزمان السحيقة !!
يجب أولاً الوقوف عند المفهوم المبكر للدولة فى القارة الأفريقية ، ومناطق أخرى من العالم ، للتأكيد على حقيقة أن القبائل هى الدول والممالك ، والتى ما زالت تبسط سيطرتها على معظم الأراضى فى السودان ، والهيكل الإدارى للقبيلة مصمم على شكل الدولة المصغرة بكل ما تحملها الكلمة من معنى ، فزعيم ، يناظر رئيس الدولة ، ومجلس الكبار يمثل البرلمان والشباب والفرسان يشكلون الجيش ، ومحاكم الشيوخ تمثل السلطة القضائية ، والكجور ممثل أوحد للسلطة الدينية ، وباقى الفراغ يملأ بالتقاليد والأخلاق والمثل كلوائح تنفيذية .
لقد كانت سلطة القبيلة على أفرادها حازمة وجادة ، وتطبق أحكامها كالغرامات بطريقة حرفية ، وأقصى ما كانت توقعها من عقوبة تجاه أى فرد ، هى الغرامة والنفى معاً والتى توازى الإعدام ، ولسبب ما ، ربما من باب الإلتزام الأخلاقى ، كانت القبائل على إستعداد لقبول وإستيعاب كل من ينفى أو يلجأ إليها ..
ظلت هذه النظم تحكم مساحات واسعة من أرض السودان ولا شك أنها كانت تمثل نماذج للدولة ، وإن كانت كثيرة وبدائية ، إلا أنها فعالة ، ومسالمة ، وملبية لحاجات الرعية ، وتظهر مرونة فى التعاطى الزاهد مع موضوعات الأراضى ، فتقلصت معها حدة الإحتكاكات الموسمية ، لتقتصر على المراعى ومصادر المياه عند الندرة.
لقد كانت القبائل النيلية الجنوبية مجاورة ومتفاعلة طوال الوقت مع النيلية الشمالية ، فنرى مثلا قبائل الشلك قد وجدت مقابر وآثاراً لها فى مناطق الدويم وشبشة مما يشير إلى أنها كانت متغلغلة الى عمق الشمال السودانى بمحاذاة ضفتى النيل الأبيض وربما وصلت بها ذلكم الترحال المبكرحتى فتيحاب اليوم ، ولا أستبعد إن تجاوزته إلى ما هو أبعد شمالا ، فأجواء السلم لا تضع حدوداً لحركة الأنسان ، وكثرة الآثار وتركيز كثافة المقابر تشير غالباً إلى الإستقرار وقوة الوجود ، وبما أن الرعى هى الحرفة الغالبة ، فإن الآثار غالبا ما تكون مشتتة على رقعة كبيرة وترسم بوضوح خطوط المسارات ، وتظل متواضعةً فى محتوياتها بالمقارنة بالأمم الزراعية ، فالرعاة لا يتركون إلا آثاراً تتناسب طبيعتهم التنقلية !
إذا أخذنا بفرضية أن أصحاب الماشية يهاجرون عادة بماشيتهم جيئةً وذهاباً ، فلن نجد مبرراً لقبيلة الدينكا مثلاً فى أن تبقى فى مناطق المستنقعات الطينية لتقضى فيها موسم الأمطارالغزيرة ، فلاشك أنها وغيرها من القبائل كانت تهاجر ببقرها شمالاً وجنوباً ، تماما كما تفعل المسيرية اليوم فتتحرك مابين رمال كردفان ووحل أبيي …
أما القبائل النيلية الشمالية ، فتركيزها كان أكثر وضوحاً على ضفتى النيل ، وتشير الأثريات الأقدم أنه كلما إتجهنا شمالاً من ملتقى النيلين ، كلما زادت رسوخاً وأظهرت معها تجليات الحضارة النوبية بأوضح صورها حتى الوصول إلى مجمع معبد رمسيس الثانى بمنطقة أبى سمبل والتى تقع اليوم داخل الحدود المصرية ، وعنده سنقف أمام تداخل ثقافى وعرقى يصعب معها التمييز بين ما هو فرعونى عما هو نوبى !
يجب التنويه أن كلمات ( نوبى ، كوشى ، إيثيوبى ، سودانى ) كلها ذات مدلول واحد ، وتصف جميعها الملامح المظهرية للشعوب السوداء جنوب الصحراء باللغات الهيروغليفية ، العبرية ، الإغريقية والعربية تباعاً ، والسوداء لا تعنى بالضرورة الأكثر سواداً ، فهى مسمي أطلق بواسطة آخرين وتخضع للمعايير الخاصة بهم !! وكلمة نوبة تطلق اليوم على قبائل الشمالية التى إحتفظت بثقافاتها ولغاتها الأصلية ، وإيثيوبيا أحتكرتها دولة الهضبة الحبشية ، وكلاهما تفتقران إلى الدقة ، وتبخرت الكوشية ولم تعد تستخدم !
قبائل البجا التى يندر ذكرها ، على أهميتها الإستثنائية ، هى التوأم الآخر للقبائل النوبية الشمالية ، حيث ظلتا متلازمتين طوال الوقت رغما أن تسمية النوبية تشملها بالضرورة ، وتختلف فى أنها قبائل رعوية ، والتى لا تترك إلا القليل من الآثار فيُضِنُ عن ذكرهم المؤرخون .
القبائل البجاوية المتجولة غطت مساحات واسعة ممتدة من الضفة الشرقية للنيل الأزرق ونهر النيل ، وتمتددت مساحات حركتها حتى الهضبة الحبشية والبحر الأحمر والبطانة ، لتلتقى هناك برافد من روافد الشلك ، وهم (الفونج ) ، بحكم هذا الموقع الفعال على الخارطة السودانية القديمة ، فقد لعبت البجا الدور المحورى فى التجارة ، وإستوعبت ونقلت كل ما هو جديد ، وإستقبلت الأفواج الأولى من المهاجرين العرب ، فإعتنقت الإسلام مبكراً ، وإستبقت الكل نحو إستلام رآيات الإستعراب وقلب الهوية ، وهناك شكوك قوية فى أن تكون القبائل المستعربة التى تتجول فى بادية البطانة ، وتسكن الضفة الشرقية لنهر النيل ، ذات أصول بجاوية ! وهذا ما يبرر صعوبة تسويقها فى بلدان ما وراء البحر الأحمر وشمال الصحراء !!
توجد الكثير من الدلائل التى تشير إلى العلاقة الوطيدة بين أصحاب الحضارة النيلية السودانية الشمالية والجنوبية ، وتواصل البجا مع كل من النيليين الشماليين والشلك والمهاجرين الأوائل من العرب . أما على محور النيليين الشماليين والجنوبيين ، فإن فصائل الماشية خاصة الأغنام التى تسمى Nubian Goats التى تمتلكها قبيلة الشلك والمنتشرة على طول الشريط النيلى لهى أبلغ دليل على هذه العلاقة ، علاة على المنحوتات الخشبية والتماثيل والحرف اليدوية التى ورثها الجنوبيون من الحضارة النوبية ويعملون عليها حتى الآن ، وهذه الحرف على وجه الخصوص ، مشتركة ولا يجيدها الا النيليين من الشمال والجنوب ، هذا إن تجاوزنا تشابه السلم الموسيقى لغناء النيليين شمالاً وجنوباً ..!!
الوثائق أيضا تنطق !! فمن يلق نظرة على خريطة جنوب السودان ، ويشاهد الإختراق الغريب الذى يصل قريبا إلى منطقة الجبلين جنوب كوستى ، ربما يخلص إلى (كأن الأرض الجنوبية متشبثة بالنيل الأبيض) .. !!
وكأنها ماضية إلى إلتهام المزيد !!.
أو ، أن “الجنوبيين ظلمونا فى الحتة دى”
أو أى شيئ آخر !!
وفى كل الأحوال ، فإن شكل المنطقة وتداخلات الأراضى فيها تفتقر إلى التبرير المنطقى …
تنكر بعض السودانيين على الجنوبيين جدلهم حول عبارة كوش الذى كان البعض قد إقترحه إسماً رسميا للدولة الجنوبية ، وقد ساق هؤلاء النقاد حججاً تبدوا ضعيفة للتأكيد على أن دائرة نفوذ دولة كوش لم تتجاوز منطقة الشمال النيلى ، وأظهروا خرائط ربما إطلعتم عليها ، لكن فاتت عليهم الحقيقة فى أن هذا المسمى التوراتى يشمل كافة الشعوب النيلية السوداء جنوب الصحراء حتى بحيرة فكتوريا والهضبة الحبشية وبحيرة تشاد ، وأن مراعى القبائل الجنوبية إمتدت على طول النيل الأبيض حتى مقرن النيلين .
لقد كان تبرير ساسة الجنوب فى عدم تخليهم عن إسم السودان ، أنهم لا يودون التنازل عن تاريخهم ، للسودانيين !! ، وحسنا فعلوا ، فهم كانوا بالفعل شركاء فى الأرض والتاريخ والثقافة ، لكنهم بالمقابل ما كانوا ليفقدون شيئا عند إختيارهم كوش إسماً رسمياً ، بل سيكونون قد ذهبوا مذهب سودانيين آخرين عندما خطفوا إسم إثيوبيا وهربوا به للهضبة الحبشية ، فظلوا سودانيين !! لكنهم سودانيون آخرون .
لقد سادت قيم التعاون والسلم وتبادل المنفعة بين النيليين الشماليين والجنوبيين لفترات أحسب أنها كانت لآلاف السنين ، إلى أن حل الإسلامويين السياسيين بالأرض الكوشية ، رافعين راية إسلام السلطة والجاه ، إسلام سفك الدماء ، إسلام السرقة والعنصرية والعبودية والنهب وقطع الطرق (الإسلام شيئ ، والإسلام السياسي شيئ آخر) ، فدفعوا بالقبائل النيلية الجنوبية إلى الهجرة جنوباً للإحتماء بالمستنقعات ، والقبائل النيلية الشمالية جنوباً أيضاً ، فأخلت للمماليك كامل المنطقة الفاصلة ما بين جنوب أسوان وشمال دنقلا ، فتنقلت بممالكها جنوبا فى محاولة لإبعادها عن المخاطر ، ألى أن وصلت سوبا ، فتلقت الضربة القاضية هناك بواسطة تحالف الإسلامويين الفونج ومستعربة البجا أو من يسموا بالعبداللاب ، ومن ذاك الوقت بدأت مسيرة الخراب الكبرى والحروب المتواصلة والتنقل الدائم طلبا للأمن والحماية ، وهى قرون من الفوضى التى لا يمكن أن توصف أنها بناءةً بأى حال من الأحوال ، بل كانت فوضىوية وعبثية وإجرامية لا أكثر …
نخلص إلى إستحالة الوقوف على حقائق تاريخية تضع حدوداً صريحة مرضية للدولتين ، حتى ولو إتبعت مناهج التحليل النظري والتحليلات الجغرافية والإنثربولوجية ، لأنها ستمنح دولة جنوب السودان مساحات إضافية على ضفتى النيلين الأزرق والأبيض ، وستقدم لها على طبق من ذهب ، قبيلة الفونج ودائرة أرضها التاريخية حول ولاية سنار، فضلا عن الأنقسنا .
ببساطة .. تستطيع دولة جنوب السودان أن تحشد الكثير من الحجج الداعمة لإدعاءاتها ملكية مساحات واسعة من الأراضى والمدن التى لا جدال اليوم حول شماليتها ، بإثبات أسبقية قبائلها مثل مدن الكوة والدويم والقطينة ناهيكم عن كوستى .. نعم نعرف أن الأمور فى عالم اليوم لا تؤخذ هكذا ، وأن هناك الكثير من العوامل التى يجب أن وضعها فى الإعتبار ، لكن من يتبنى طريق الدراسات ستنتهى به حتماً إلى هذه المعضلة ، كما أن خارطة الطريق التى أدت إلى نشوء الدولتين قد تفادت الدخول فى مثل هذه المآزق ، وربما لاحظتم عندما طلب تحديد حدود الجنوب من الدكتور جون قرنق ، الذى لم يكن معترفاً على الإطلاق بهذا المسمى ، فما كان عليه إلا أن رسم خطا مستقيما يقسم السودان إلى نصفين شبه متساويين !! بمفهوم الأتجاهات الجغرافية فقط لا غير، وكان ذلك موقفا تعجيزيا قصد به صرف الأنظار عن مسألة تقسيم السودان بإجهاض نظريتها من الأساس ، والتمسك بطرح الوحدة فقط ..!!
نتوهم إن ظننا أننا سنحصل على وطن معافىً ، إن لم نتحرر من جرثومة الإسلامويين القدماء منهم والمعاصرين ، تلكم الآفات التى طالما خربت السودان وأفسدته وفككته ، وقضت على مشروعه ، وهبطت به من عليائه إلى أسافل الأمم ، ذلكم الإسلام السياسى الذى خان ، سرق ، كذب ، قتل ، فسق ، ونهب ، بل وخلقت لنفسها بطولات ومفاخر وإنجازات ..!!
لقد غفل السودان ، عندما إستضاف تلك الأفاعى القاتلة فوطنها ودجنها ، لكن ها هى بيوضها تقذف ما بين الحين والآخر بكائنات لا تؤتمن ، ولا يمكن التنبوء بما ستقدم عليها من حماقة أو جنون !!
كائنات لا تصلح إلا للفساد والإفساد !!
فطريات لا تزدهر ولا تنشط إلا فى أجواء النتانة والخراب !!
ولا تغرنكم المسميات البراقة ، فرحلتنا المشؤومة بدأت بالسلطنة الزرقاء ، فالعثمانية ، فالمهدية ، وصولا إلى ترابية النميرى ، فترابية المهدى ، وأخيرا ترابية البشير ..
وهو نفس الجحر الذى بات السودانى يلدغ منه ، المرة تلو الأخرى ، تلو الأخرى ، تلو الأخرى … !!
وما زلنا نشهد طابورً طويلاً ومتعرجاً يعج بالكثير من شرانق ذاك المشروع ، ممن تتحين الفرصة للقفز على مقود الساقية اللعينة فتعيد إنتاج وتدوير نفس المآسى …
والتاريخ يشهد علي ما نذهب إليه ، أما الحاضر ، فأنتم خير من يشهدون ..!!
لكن … يبدوا أن يوسف الكودة قد قرأ شيئاً خارج المنهج الموضوع أمامه ..!!
أُحسنُ به الظن .. فربما قد قلب ووقف على إفرازات المشروع السياسى الإسلامى عبر التاريخ .!!
أو مارس نقدا على تاريخ الخلافات الإسلامية ، السودانية والأموية والعباسية واالعثمانية !!
يبدوا أنه قد فهم شيئاً ..!!
يبدوا أنه قد عرف شيئاً ….!! فإلى الأمام … !!!