أخبار السودان

حوار مع السياسي ورجل الأعمال إبراهيم الشيخ .. أثناء الاعتقال كنا لا نعرف تعاقب الأيام ولا نرى الشمس، إليكم مدخلي للتجارة، حاولت استئجار دكان (مسكون)

ألقيت كلمة الطلاب في افتتاح جامعة جوبا بحضور النميري

زاملت الوزير فيصل حسن إبراهيم في مدرسة النهود الثانوية

اتخذت اشجع قرار بترك الدراسة في جامعة جوبا

ناهد جبرالله والحاج وراق وسوار أبرز زملائي في الجامعة

حاولت استئجار دكان (مسكون) في سوق السجانة

شركة بولندية حفزتني بألف دولار كانت مدخلي للتجارة

تعرفت على زوجتي من خلال زيارتها لوالدتها في الكهرباء

توقعت ان تكون أسواق أم درمان طفرة كبرى في مجال الأسواق

أثناء الاعتقال كنا لا نعرف تعاقب الأيام ولا نرى الشمس

في جامعة الخرطوم استقطبت من قبل الجبهة الديمقراطية، والإتجاه الإسلامي لكن انضممت لمؤتمر الطلاب المستقلين لأنه الأقرب لتكويني النفسي

الخرطوم:صديق رمضان

تتملك السودانيين على اختلاف مشاربهم قناعة راسخة بأن حياة صانعي الأحداث في السودان لم تجد حظها من التدوين كما يجب. ويتلبّسهم يقين عميق بأن أكثرية المرتبطين بالعمل العام أهملوا التدوين لحياتهم الخاصة، وأنهم لم يدوِّنوا شهادتهم على الأحداث المهمة في حياتهم، وفي تاريخ السودان، لذا ظلت بعض الأسرار حبيسة الصدور.

في هذه السلسلة من (أوراق العمر) نحاول أن نسلط الضوء على جزء من الجوانب الخفيَّة في حياة بعض الذين ارتبطوا لدى الذاكرة الجمعية للشعب السوداني بالإشراقات وربما الإخفاقات. ونسعى من خلال ذلك إلى تتبع سيرة من أسهموا ــ سلبًا أو إيجابًا ــ في حركة المجتمع والسياسة، وبالطبع نهدف إلى تقليب أوراق حياتهم المرتبطة بالجانب العام، دون أن نتطفّل على خصوصياتهم، حال لم تكن ذات علاقة مباشرة بالشأن العام. دافعنا في كل ذلك أن نعيد كتابة الأحداث والتاريخ، بعد أن تكشَّفت الكثير من الحقائق المهمة حول كثير من الوقائع التي أثرت في المشهد السياسي السوداني..وفي الحلقة الأولى هذه نبحر مع الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني ورجل المال والأعمال الشهير إبراهيم الشيخ، وهو يتناغى مستدعياً الذاكرة، ومستلطفاً طيف ماضيات الأيام.

ميلاد وانعتاق

أبصرت عيناي النور بمدينة النهود الوادعة التي تلقب بمدينة العلم والعلماء كناية على عشق أهلها وريادتهم في التعليم ،وشاءت إرادة الله أن أخرج إلى الوجود في الثامن والعشرين من شهر يوليو من عام 1956 وهو ذات العام الذي شهد انعتاق البلاد من براثن المستعمر، نشأت في أسرة أخذت من ذات تنوع البلاد الجميل فأجدادي من ناحية والدي وفدوا إلى النهود في زمن باكر وذات الشئ فعله أهلي من ناحية والدتي ،ليستقر بهم المقام أو فلنقل طاب لهم بغرب كردفان وتحديداً في النهود ،لذا فقد كانت طفولتي حاشدة بالحنان والدفء الأسري، وتشربت وأنا مازلت غضاً من ثقافات الغرب والشمال والوسط ،كنا في تلك السن نقضي معظم ساعات يومنا نلهو ونلعب ببراءة ممزوجة باطمئنان لأن النهود لم تكن في تلك الحقبة من تاريخها مدينة للعمل والعلماء فقط، بل كانت واحة وبوتقة استظل تحت ظلالها الوارفة كثيرون وانصهروا فيها، فالجميع هم أهل بعض، لذا كنا نجد النصح والإرشاد والتوجيه من كل القاطنين، وكانت المدينة وقتها صغيرة، غير أنها أنيقة وجاذبة وقد جمع أهلها ما بين بساطة وقيم إنسان الريف، ورقي وتحضر من يقطنون المدينة، ولأن البيئة التي نشأت بها كانت صحية، تسلحنا ونحن يفع بالكثير من القيم وعرفنا “الغلط من الصاح”.

اعتزاز ووعي

بعد أن وصلت سن الدراسة ووقتها كانت سبعة أعوام، كنت أشعر بسعادة غامرة لأنني سأضع قدمي على أولى محطات سلم التعليم، والذي كان محط اهتمام كل أهل النهود الذين كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس، ويحثوهم على النجاح والتفوق ،وكان حظي أن ألتحق بالمدرسة الأولية الغربية “ب” ذات السمعة الجيدة وقتها، وذلك في العام 1963، ولا زلت أذكر يومي الأول بالمدرسة وأنا أرسل بصري في دهشة مقرونة باعتزاز إلى أرجاء صرحي التعليمي كافة ، فقد شعرت يومها بأنني قد أصبحت رجلاً أو هكذا إحساس كل من يخطو أولى خطواته في التعليم ، والسلم التعليمي في ذلك الوقت كان وفقاُ لنظام أعوام الدراسة الاربعة في الأولوية والوسطى والثانوي كما كان يطلق عليها سابقاً ، وبعد إكمالب للمرحلة الأولية بنجاح باهر انتقلت إلى مدرسة النهود الوسطى ، وفي الثانية لي بها تم تعديل السلم التعليمي بنظام الثلاثة أعوام للمتوسط، والثانوي، وستة للابتدائي، ونتيجة هذا التغيير درسنا خمسة أعوام بالمرحلة الوسطى والثانوي ثلاثة أعوام ،وهذه الفترة كانت حاشدة بالحراك السياسي، حيث تزامنت مع الديمقراطية الأولى ، وفي ذلك الزمان الباكر كان الطالب بالوسطى والثانوي يتمتع بفكر عال، ووعي تام، ويتفاعل مع الأحداث السياسية في البلاد ، وقد تفتحت أعيننا على الديمقراطية والحرية، وكنا نعرف كل القيادات السياسية بالبلاد خاصة في حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي ، وشهدنا الحملات الانتخابية الحرة، والندوات السياسية الصاخبة والحاشدة بالميادين، وكذلك الشعارات التي تملأ الآفاق .

مناهج ممتازة

أنا مثل غيري من أبناء جيلي أعتز بأن دراستي قبل الجامعية كانت وفقاً لمناهج وضعها علماء أجلاء بمعهد بخت الرضا، فقد كانت متميزة، وقوية، وشاملة، بل تحث على إعمال العقل والاستفادة منه في التفكير، ولم تكن تلقينية، لذا فإن الطالب وقتها الذي يتخرج من الأولية دعكم من المرحلة الوسطى كان يتمتع بأفق واسع وإدراك ، وأكثر ما ساعد على نجاح منهج بخت الرضا توفر الكتاب المدرسي الذي كان خير معين لنا، بل حتى الكتب الثقافية كانت متاحة ، وبصفة عامة فإن منهج بخت الرضا كانت قيمتة عالية، وحتى المعلمين كانوا أصحاب كفاءة كبيرة، وذلك لإخضاعهم للتدريب المتواصل ،ورغم مرور أكثر من خمسة عقود على تلك الفترة إلا أن عدداً من الأساتذة الأجلاء ما يزالون عالقون في ذاكرتي، ولا يمكن أن يسقطوا عنها أبداً، وذلك لأنهم وضعوا لنا اللبنات الأولى في الحياة، ونهلنا من معينهم الذي لاينضب الكثير ، ومنهم المربي الجليل مكي النذير، والأستاذ زين العابدين، وإبراهيم الهادي، وإبراهيم صالح، وأستاذ الفنون جون ونورالدائم عبدالله .

في سوح التظاهر

حسناً لنمضي قليلاً إلى الأمام، وذلك لأنني إذا حاولت إلقاء الضوء على تلك الفترة فلن يسعنا المجال، وذلك لأنها كانت خصبة بكل ما تحمل الكلمة من معان، فالطالب وقتها وكلما أشرقت الشمس وأرسلت ضوءها إلى النهود كان يتعلم ما هو جديد ومفيد في حياته ، وكما أشرفت آنفا فإن تلك الفترة كانت حاشدة بالعمل السياسي، لذا فعند وصولنا المرحلة الثانوية بالنهود كنا أكثر نضوجاً ووعياً، وبدأت مسيرتي مع العمل العام عبر المظاهرات والاضرابات والمسيرات ،كنا نتفاعل مع كل الأحدات التي تقع في العاصمة مثل أحداث شعبان في العام 1973، حيث حضرت إلى النهود وفود طلابية من الخرطوم للحديث عن هذا الحدث ، وبخلاف ذلك فقد نلت شرف دخول قائمة اللجنة المنوط بها إعداد دستور لاتحاد طلاب المدرسة، وكان معي في تلك اللجنة الطالب وقتها فيصل حسن إبراهيم الوزير الحالي، وقد كان في الدفعة التي تسبقني بعام، وكان من الطلاب الناشطين والمتميزين، وأحسب أن كل الطلاب وقتها بالنهود الثانوية كانوا من المتميزين ، وبصفة عامة فإن المرحلة الثانوية شهدت انفتاحاً علي العمل السياسى بصورة واضحة، ورغم حالة الاستقطاب الحادة إلا أنني رفضت الانضمام إلى أيّ حزب ، وفي العام 1976 جلسنا لامتحانات الشهادة السودانية .

جامعة جوبا

بعد فراغنا من أداء امتحانات الشهادة السودانية، وكالعادة كنت أذهب في الإجازات ناحية السوق لمعاونة والدي وأهلي، ولكن كنت أتحرق شوقاً لإعلان النتيجة التي كان الطلاب الناجحون فيها يعلنون عبر المذياع، وفي ذلك شرف عظيم، كان كل طالب يتمنى أن يكون من الناجحين حتى يناله السبق ، وبالفعل شاء الله أن أكون من الناجحين، وعند إعلان القبول جاء اسمي في الإذاعة القومية بوصفي أحد الطلاب الذين تم قبولهم في جامعة جوبا الوليدة وقتها ، شعرت بسعادة تغمرني، وسحابة فرح ماطرة تهطل علي كل المساحات داخلي ، فقد أصبحت على بعد خطوات معدودة من ولوج سوح الجامعات ، لذا فقد جمع مبلغ مقدر من المال، وتوجهت عقب قبولي نحو العاصمة التي كانت أسواقها ترد إليها أرقى أنواع الملبوسات والمنتجات من الدول الأوروبية، واشتريت ما يليق بي بوصفي طالباً جامعياً عليه التوجه نحو عاصمة الإقليم الجنوبي جوبا للانضمام إلى أول دفعة تنال شرف الالتحاق بهذه الجامعة ، وكان الجنوب وقتها يشهد استقراراً كاملاً، وترفرف فيه حمائم السلام عقب اتفاقية أديس أبابا التي من ثمارها جامعة جوبا ، ولم أكن عالماً بما تخفيه الأقدار لي، فقد ذهبت وكنت كلي حماساً للبقاء أربع سنوات بجوبا لنيل درجة البكالوريوس، حيث تم قبولي في كلية الاقتصاد والتنمية الريفية ، وقد كان لنا شرف حضور افتتاح الجامعة على يد المشير جعفر محمد نميري، وكذلك كنا حضوراً في مباراة القمة بين الهلال والمريخ على شرف المناسبة، والتي انتهت بفوز المريخ بهدف الراحل سامي عزالدين، وقد كان الاحتفال يوماً تاريخياً واستثنائيا ً، رأينا فيه الفرح في أعين الإخوة بالجنوب، ولم نشعر وقتها بالغربة، لأنهم فتحوا لنا منازلهم وأحضانهم ،ونلت في الاحتفال شرفاً عظيماً بأن أكون ممثلاً لطلاب أول دفعة بجامعة جوبا، حيث تم اختياري لإلقاء كلمة الطلاب بحضور المشير النميري، وحتى اليوم أبدو ممتناً على إجماع الطلاب على شخصي الضعيف بما فيهم الإخوة الجنوبيون الذين دفعوا بي لأكون ممثلاً لهم.

المفاصلة والقرار الشجاع

إلى هنا تبدو مجريات الأحداث طبيعية، بل يستشف منها الاستقرار النفسي والأكاديمي، غير أن الرياح جاءت على عكس ما تشتهي سفني بعد مضي ثلاثة أشهر من التحاقي بهذه الجامعة، وذلك حينما قررت التوقف عن الدراسة والعودة إلى الخرطوم، وذلك لأن الكثير من الأشياء خاصة الأكاديمية لم تتسق مع رؤيتي، فاتخذت قراراً أعتقد أنه شجاع بغض النظر عن صحته من عدمه، لأن ترك الجامعة ليس بالأمر السهل.

رغم رجاءات زملائي إلا أنني حزمت أمري وحقائبي وعدت أدراجي إلى العاصمة الخرطوم، ولم أمكث طويلاً دون عمل، فقد التحقت في ذات العام 1977 بالهيئة العامة للكهرباء والمياه موظفاً بإدارات الامتدادات، ومن ثم الحسابات، ووقتها كانت الوظائف متوفرة، ولا أعتقد بوجود عاطلين عن العمل ، وبعد مرور ثلاثة أعوام من عملي موظفاً قررت مجدداً العودة إلى الدراسة الجامعية، فكان أن جلست في العام 1981 لامتحانات الشهادة السودانية، وكنت أكثر إصراراً علي دخول جامعة الخرطوم لسمعتها، ومكانتها، وريادتها، ليبتسم لي الحظ بعد إحرازي لنسبة نجاح عالية ويتم قبولي بكلية الاقتصاد بالجامعة التي تسمى الجميلة ومستحيلة وذلك في العام 1982 ، ورغم مضي خمسة أعوام على مفارقتي لقاعات الدرس إلا أنني لم أجد صعوبة في العودة إلى الأجواء الأكاديمية ، وهنا أشير إلى أنه أثناء عملي بالكهرباء طرحت الشركة العربية وظائف، وتم قبولي محاسباً بها، واخترتها لأن أجورها أعلى، وكانت تعمل في مجال الأعلاف، ولكن بعد قبولي بجامعة الخرطوم كان عليّ ترك العمل في الشركة الخاصة لأن مقرها كان بمدينة الباقير والعودة مجدداً إلى هيئة الكهرباء، حتى أتمكن من الدراسة والعمل في وقت واحد .

مهمة مزدوجة

ظللت أعمل موظفاً بالكهرباء وطالباً بجامعة الخرطوم التي تفتحت فيها عيناي على النشاط السياسي الذي كان في أوج حراكه وذروته، حيث كانت التنظيمات المعارضة لنظام مايو ذات وجود قوي ومؤثر ، ولم أدخر وقتاً حتى التحقت بهذا الحراك الطلابي الضخم، فكان أن تم استقطابي من قبل تنظيمات مختلفة منها الجبهة الديمقراطية، والإتجاه الاسلامي، وكانا من أكبر التنظميات السياسية، حيث كان أبرز قادة الأولى أبوبكر خليفة وهو الآن الأمين السياسي لحركة أركو مناوي، وحسن عبدالسلام، وناهد جبرالله، ومأمون والحاج وراق ، أما في الاتجاه الإسلامي فقد كان على رأسه حاج ماجد سوار، ومحمد إبراهيم الفكي، والوزير محمد المختار، ولكن اخترت الانضمام لمؤتمر الطلاب المستقلين لأسباب كثيرة منها أنه كان أقرب لتكويني النفسي السياسي، بالإضافة إلى مساحة الاستقلالية والحرية داخله، وكان أبرز نجومه أحمد القرشي، وعمر الدقير، والشيخ خالد، وعباس، وصلاح الفادني، والمنتصر بكلية الزراعة ، ونبيل، ونسبة لنشاطي السياسي تم اختياري رئيساً لرابطة طلاب كلية الاقتصاد، وقد كان وقتها مؤتمر الطلاب المستقلين في أوج مجده، وكان يقود كل الروابط بالكليات، وفاعلاً في النشاط السياسي، وفي أكتوبر من العام 1985 كان مؤتمر الطلاب المستقلين ممثلاً بعشرين عضواً في اتحاد طلاب الجامعة، وخمسة من اللجنة التنفيذية، وجاء هذا نتيجة لاكتساحنا انتخابات الجامعة، وأذكر أن حزب الأمة انسحب من هذه الانتخابات بسبب خلاف حول انصبة المقاعد، والوحيد الذي فاز من الاتجاه الاسلامي ميرغني أبكر،وهذا الاتحاد الذي كنت أحد أعضائه كان له دور محوري في الانتفاضة ضد نظام نميري، بل لعب دوراً مؤثراً في توحيد الحركة النقابية، وكان ملاذاً آمناً لكل الأحزاب السياسية، وعقدنا لقاءات مطولة مع النقابات، ومنها نقابة الأطباء التي كان على رأسها الدكتور سليمان حسين أبوصالح، وذلك للإعداد للانتفاضة، وكذلك جلسنا مع الجزولي دفع الله، وأيضاً كان للاتحاد دور مؤثر في التصدي للهجمة التي تعرض لها الجمهوريون عقب المقال الشهير لمحمود محمد طه: “هذا أو الطوفان”.

حراك سياسي مكثف

وبصفة عامة كان منبر الجامعة مفتوحاً أمام الجميع، ولأن الاتحاد كان يسبب إزعاجاً للسلطة تمت مهاجمة مكاتبه بقوة أمنية مسلحة، ومصادرة أجهزة الطباعة، وتم اعتقال ناهد جبرالله، وعمر الدقير، وساطع الحاج، حيث تم الزج بهم في سجني كوبر ودبك، وكان هذا في فبراير، وهو أحد أسباب الانتفاضة في مارس، ليتوج هذا النضال الكبير والتاريخي بتغيير نظام نميري، وكنا وقتها بوصفنا طلاباً في ريعان شبابنا سعداء بما أنجزناه من عمل وطني كبير، ولا زلت أذكر الجامعة عقب الانتفاضة وذهاب نظام نميري، فقد كانت الأجواء صاخبة بالفرحة، والأهازيج الوطنية، وتبادل التهاني ، لذا فأنا على الصعيد الشخصي أبدو سعيداً ومفاخراً بأن أكون ضمن تلك الكوكبة التي ناضلت واستماتت من أجل عودة الديمقراطية إلى البلاد، وبصفة عامة فإن فترة جامعة الخرطوم كانت مدرسة قائمة بذاتها في السياسية، والعمل الاجتماعي، والإنساني، والوطني، بالإضافة إلى الأكاديمي .

خارج أسوار الجامعة

في العام 1986 انتهت رحلتي الجامعية بتخرجي من كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم التي قضيت فيها أياما خالدات وزاهرات جعلتني أعتز باتخاذ ذلك القرار الجرئ بترك جامعة جوبا ،وبعد أن علقت شهادتي على جدار منزلنا لتزينه واصلت إقبالي على الحياة العملية بهيئة الكهرباء التي لم أتركها طوال سنوات الجامعة فقد كنت أعمل وأتلقى تعليمي في ذات الوقت،وظللت أعمل بها حتى العام 1993 وكنت من الناشطين في العمل النقابي حيث توليت منصب الأمين العام وكنت عضو اللجنة المركزية للنقابة العامة ،أما على الصعيد السياسي فقد نلت أيضا شرف تأسيس حزب المؤتمر السوداني الذي انبثق من مؤتمر الطلاب المستقلين وكان ذلك في العام 1986 وجاء ذلك عقب دعوة تاريخية لخريجي مؤتمر الطلاب المستقلين في كل الجامعات السودانية وبمصر وباكستان وانضمت إلينا مجموعات أخرى ناشطة في الانتفاضية وكان له دور مؤثر منهم خالد ياجي الذي كان في نقابة الأطباء وتم تكوين حزب المؤتمر السوداني والحزب بعد تكوينه لم يخض انتخابات الديمقراطية الثالثة ولكن دعم أفراداً في أحزاب متعددة كان يرى إمكانية تقديمهم ما يفيد البلاد وتركت حرية الدعم للأعضاء لمن يروه.

انقلاب الإنقاذ

واستمر حزب المؤتمر السوداني إلى أن جاء انقلاب الإنقاذ في العام 1989 وقد طالت الاعتقالات أعداداً كبيرة من قيادات الحزب وكان معهم عمر الدقير وأحيلت مجموعة كبيرة منهم للصالح العام الذي شربت من كأسه في العام 1993 والتأخير في الإحالة يعود بشكل مباشر إلى وجود الفقيد المهندس محمود مشرف الذي كان على رأس هيئة الكهرباء وقد رفض باستماتة بل قاوم رياح الصالح العام وفصل العاملين على أساس الانتماء السياسي رغم انتمائه لحكومة اللإنقاذ الذين لم يجدوا غير إبعاده عن المنصب حتى ينفذوا في هيئة الكهرباء الصالح العام وتولي هذه المهمة مدير موالٍ للنظام ثم جاء المهندس مكاوي محمد عوض الوزير الحالي وأكمل مهمة الفصل على أساس الانتماء السياسي فكنت ضمن المجموعة التي تمت إحالتها للصالح العام ووقتها كنت في الدرجة السابعة .

الحياة الزوجية

في عامي الأخير بالكهرباء كان قراري بدخول الحياة الزوجية واخترت يوم الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1992 موعداً لزواجي وذلك لأن هذا اليوم تاريخي وهو الذي شهد نهاية حكم عسكري وقد تعمدت ربط زواجي بثورة اكتوبر حتى يظل الحدث له علاقة بذكرى سنوية عطرة وقريبة من نفس كل سوداني، أما عن زواجي فلم يكن اختياري مرتباً فقد شاءت الأقدار أن والدة زوجتي كانت تعمل بقسم الكمبيوتر بالكهرباء وكانت ابنتها تأتي إليها فرأيتها وقررت الاقتران بها وإلى الآن بحمد الله ظلت شريكة حياتي ،وهنا أشير إلى أنه ومن الأشياء الجميلة أنه قبل فصلي من العمل كنت قد تقدمت بطلب إجازة لمدة عام وكان ذلك في 1992 حيث قررت وقتها ولوج العمل التجاري وفي فترتي الأخيرة تعاقدت شركة بولندية مع هيئة الكهرباء للتحديث وعملت معهم منسقاً متعاوناً وبعد نهاية عملهم كانت محصلتي ألف دولار نظير عملي معهم وكان هذا مدخلي إلى التجارة فقد كان مبلغا محترما وقتها

في السوق.

وأول تجاربي كانت بالسوق العربي حيث استأجرنا محلاً وكان معي طبيب الاسنان صابر عابدين حيث دخلنا في شراكة وكان معي في حزب المؤتمر السوداني واخترنا العمل في مجال البيع بالأقساط حيث كنا نشتري الأجهزة الكهربائية “ثلاجات ،غسالات،مكيفات ومراوح” ونبيعها للموظفين في هيئة الكهرباء بحكم زمالتي لهم وعلاقتي بهم وكان تجار بشارع الحرية يتعاملون معنا بإعطائنا الأجهزة الكهربائية ثم نسدد لهم لاحقا بعد البيع ،وظللنا نعمل في البيع بالتقسيط فترة من الزمن وبعد ذلك ولجنا مجال العطاءات لتوريد معدات وأجهزة لعدد من المؤسسات ومنها هيئة الكهرباء ،وفي العام 1993 قررت الانتقال إلى سوق السجانة للعمل في مجال مواد البناء وتم هذا الأمر بواسطة زميل الدراسة طارق محمود الذي كان يقطن معي بذات الغرفة في الداخلية حيث أفادني بوجود متجر في السجانة للإيجار وقد رتب اللقاء بيني وصاحب المتجر بشري محمد خير ووجدت أن موقف الدكان بسوق السجانة جيد حيث يطل على “شارعين” ولكن ظهرت معضلة صغيرة وذلك حينما أفادني التجار ان هذا المحل كل من استأجره قد ذهب إلى السجن أو أنه أعلن إفلاسه، وأكدوا أنه “مسكون بالجن” ، غير أنني لم أتوقف كثيرا في هذه الجزئية لعدم قناعتي بمثل هذه الأشياء التي لم تثر مخاوفي وتعاقدت مع صاحبه ومنذ ذلك الوقت ظللت أعمل فيه حتى اليوم حيث كنا نعمل في مجال توريد مواد البناء لعدد من الجهات منها هيئة الكهرباء وقد حقق لنا هذا العمل عائدات جيدة وحقق لي قدراً من رأس المال وقد مكنني من فتح دكان سوق السجانة والعمل مستقلا وقد قمت بشراء كميات مقدرة من مواد البناء وانطلقت في السوق.

العقار الابن البار

وبمرور الأيام انتقلنا إلى صناعة الحديد حيث أنشأنا مصنعاً للحديد ولكن نتيجة لبعض المشاكل توقف ولكن خضع للتأهيل للعودة إلى الإنتاج ،وفي ذات الوقت كنا نعمل في مجال العقارات حيث نشتري أرضاً ونشيد عليها عقارات لاستئجارها والتجار لديهم مقولة ثابة وهي أن “العقار هو الابن البار” لأنه نشاط اقتصادي يشهد استقراراً وفيه ضمان لرؤوس المال عكس التجارة والصناعة التي تعتبر عرضة للمخاطر ،وبحمد الله توفقنا في عملنا التجاري والصناعي وفي مجال العقارات ،إلى أن وصلنا مرحلة إنشاء أسواق نوعية بامدرمان والأرض كانت تتبع لجامعة القرآن الكريم وقد دخلت معهم في شراكة وأوكلت لي مهمة إكمال وتشييد السوق الذي تم إكماله على أحدث طراز وهو ما يسمي بـ(أسواق ام درمان) الذي توقعنا أن يكون بمثابة طفرة كبرى في مجال الأسواق بالبلاد ولكن جاءت الرياح على عكس ما نشتهي حيث لم يصيب النجاح المنشود ولم يلازمنا التوفيق لأسباب كثيرة تبدو بعضها معروفة للرأي العام ،وفي العام الماضي تم فض الشراكة وكل طرف نال نصيبه وكثيرون تساءلوا عن عدم اتجاهي للاستثمار خارج البلاد رغم التضييق الذي تعرضت له من النظام رغم أنه سؤال موضوعي ولكن اعتقد أن الانتماء للأوطان لا ينحصر في ظاهره عبر الشعارات بل بتجسيده على أرض الواقع فنقلي لأملاكي خارج البلاد يعني استفادة آخرين منها لذا فضلت الاستمرار رغم الرياح العاتية التي واجهتني وسلامة النية والمقصد هنا كان سبباً في استمراري حتى الآن.

العمل تحت الأرض

سياسيا فإن مشواري عقب قيام الانقاذ ظللنا نعمل حتى العام 1998 تحت الأرض بسبب حل الأحزاب والهجمة الشرسة من النظام على كوادرنا وعند قانون التوالي وحتى نعمل في العلن لم نجد غير تسجيل حزب المؤتمر السوداني للاستفادة من الأجواء المتاحة حتى نواصل مسيرتنا ،وخلال هذه الفترة تدرجت في صفوف الحزب بدءاً من الأمين السياسي إلى نائب الأمين العام ثم الأمين العام إلى أن تم اختياري في 2005 رئيسا للحزب وثم تم إعادة انتخابي في العام 2010 وقد بذلنا جهودا مقدرة خلال السنوات العشر لتحويله من حزب صفوي إلى جماهيري وقد خضنا انتخابات 2010 في دوائر مختلفة بعدد مقدر من ولايات البلاد ومحصلة هذه التجربة هي التي غيرت مسار الحزب 180 درجة من صفوي إلى جماهيري بعد أن تعرف عليه المواطنون كثيرا، ثم جاءت الاعتقالات الكثيرة التي تعرضنا لها والتي كانت بدايتها في أحداث سبتمبر 2013 وهذه الاعتقالات شكلت للحزب دفعة قوية إلى الإمام واسهمت في تنامي جماهيريته لاقتناع الكثيرون بصدق توجهاته ليصبح المؤتمر السوداني ملئ السمع والبصر ،كما لعبت المؤتمرات الثلاثة للحزب دوراً مؤثراً في إعادة بناء الحزب على أسس موضوعية ومؤسسية وجعلت له وجوداً في كل أنحاء البلاد. وفي المؤتمر الأخير ونزولا على لوائح الحزب كان عليّ أن أترجل بعد استنفاد فرصي في المنصب وقد أردنا التطبيق الفعلي للديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة وأردنا أن نرسل رسالة عملية لكل الأحزاب السياسية وأن نقدم نموذجا ضد الكنكشة في المناصب وأنه لابد من تمكين الشباب في الحزب وأهمية حدوث تبادل في إدارته وتواصلا للأجيال.

مائة يوم من الاعتقال

منذ العام 2013 الذي شهد انتفاضة سبتمبر فقد تعرضنا للكثير من الاعتقالات مروراً بانتقادنا لقوات الدعم السريع في ندوة أقيمت بمدينة النهود وقلنا يومها أن هذه القوات تشكل خطرا على البلاد فتم اعتقالي لفترة بلغت مائة يوم وطلب مني تقديم الاعتذار إلا أنني رفضت لتمر الأيام ويتأكد صدق حديثنا وذلك حينما اتجهت الحكومة إلى تقنين وضع قوات الدعم السريع وتسويرها بالتبعية للقوات المسلحة وهذا يعني اننا كنا على حق ،وهذا الاعتقال أيضا تفاعل معه الكثيرون من كافة شرائح المجتمع وأسهم في التعريف أكثر بالحزب ،وعلاقتي مع الاعتقالات لم تنتهي بما حدث لي في النهود وسجن الأبيض بل تواصلت عقب الدعوات للعصيان المدني حيث تم ايداعي مع كل قيادة الحزب المعتقل لخمسين يوماً وأيضا هذا الاعتقال كان أضافة لنا وللحزب.

ذكريات المحابس

ومع أن الاعتقال تريد منه الأجهزة الأمنية إضعاف إرادة السياسي المعارض وإلحاق الضرر بمعاشه حتى يعيد النظر في مشواره، إلا أنه يظل فرصة لمزيد من العزيمة. وبالنسبة لي فإن فترة السجن في النهود والأبيض كانت مختلفة تماما عن اعتقالاتنا بكوبر فالسجون تتاح فيها الزيارات والاطلاع على الصحف واستعمال الموبايل ومعرفة ما يدور خارجا ويوجد في السجون تعامل انساني ورحمة ومودة ولكن في معتقلات جهاز الأمن بكوبر يعزل المعتقل تماما عن العالم الخارجي ولا يعرف ما يدور فيه من أحداث وليس هذا وحسب بل حتى المعتقل لا يدرك تعاقب الأيام ولا يرى الشمس بل حتى أوقات الصلاة لا يعرفها وفي اعتقالنا الأول كثيراً ما كنا نؤدي صلاة الفجر عند الثانية عشر ظهراً أو الثالثة صباحاً لعدم سماعنا لنداء الآذان .

على باب الخروج

وختاما فإن علاقتي بالنهود ستظل حية ومتقدة، لأنها راسخة ولأنها مسقط رأسي ويوجد بها كل أهلي، فجدي والد أبي جاء إلى النهود من البرياب في الجزيرة وكان يعمل في تجارة المواشي والزراعة وجدي لأمي جاءها من الكرد بنهر النيل، وحتى أسرتي الصغيرة لها علاقة بالنهود وأنا لدي خمسة أبناء واثنين من البنات، إحداهن تدرس الطب وأخرى تدرس التسويق وابني خريج كلية الاقتصاد والآخران يتلقيان تعليمهما. وأبنائي لاعلاقة لهم بالعمل السياسي رغم تعاطفهم مع المؤتمر السوداني وهم على وعي بما يدور في الساحة ولكن ليس لديهم التزام حزبي.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..