
حقاً ماذا كان سيقول الشاعر القدير الراحل المقيم سيف الدِّين الدسوقي لو شاهد منظر هيجان النيل هذه الأيام وقسوته على البسطاء من أهل السودان ؟ هل كان سيردد قوله:
والنيل إن فاض أروتنا جداوله
وان تراجع جاد النخل بالرطب
لا أعتقد ذلك ،فالنيل الدفَّاق فاض وكشَّرعن أنيابه، وبلغ مرحلة الشباب وهو يقترب من مصبِه، يدِّمر ويبتلع كل من يعترض سبيله وطريقه !
قديما كنا ننشد في المدارس الابتدائية:
تدفق أيها النيل .. وفض بالخيرِ والرِّزق
وطفْ بالزرع عطشاناً.. وروِّي حقوله وأسقِ
جعلتَ بماءك الصحراء.. بعد الجدبِ بستانا
نعم النيل عندما يفيض يأتي بالخير والرزق الوفير، ولكن بشرط أن تكون هناك دولة يقظة حيَّة تتحسِّب لفيضانه الزائد سنوياً ، لأن الشئ عندما يفوت حده ينقلب الى ضده . ففي العام 1988م عندما فاض النيل وقضى علي الأخضر واليابس، ودمَّر المنازل والمحاصيل الزراعية والنخيل بمعظم القرى والمدن والجزر بالولاية الشمالية، وبأجزاء واسعة من الوطن ، قلنا فيضان هذا العام غير مسبوق! أي لم يشهد السودان فيضاناً مثل هذا من قبل.
وفي فيضانه بل هيجانه الحالي أصبحنا نردِّد ذات المقولة : فيضان هذا العام غير مسبوق ولم يحدث مثله منذ قرن من الزمان!!
حتى متى سنردِّد مثل هذه الأسطوانة المشروخة التي لا تترس النيل، ولا تحد من خطورته ؟ فمنذ فيضان عام 1988م وحتى الآن مرَّت ثلاث عقود ونيف ولم تهتم الحكومة، ولا وزارة الرَّي بعمل دراسة مستقبلية لظاهرة فيضان النيل السنوي المتزايد، الاستشعار عن بعد مهم جداً ، أين الخبراء في بلادي ؟
لماذا لم يتم عمل دراسة لظاهرة الفيضان الذي يهدِّدنا كل عام، ولماذا لم يتوقعوا مثل هذا الفيضان؟ ولماذا لم يوجهوا من يهمهم الأمر بعمل احتياطات كالمتاريس مثلاً أو بتوعية المواطنين سكان الضفاف بأن يرحلوا قبل وقتٍ كافٍ ؟ أسئلة كثيرة فهل من مجيب؟
في تقديري تهرُّب المسؤولين بحجة أن البلاد لم تشهد مثل هذا الفيضان منذ قرن، هذا مبرِّرٌ غير كاف، وعذر أقبح من الذنب!! الدراسات في الدول المتقدمة متقدِّمة عنّا بسنواتٍ ضوئية ،اذا كانت بلادنا تفتقر الى معاهد متخصصة أو مراكز أبحاث متخصصة عن النيل ، فعليها أن تبعث ذوي الإختصاص الى الدول التي تقوم بعمل دراسات استشعارية عن الفيضانات ، بكل تأكيد الأمريكان يعلمون علم اليقين ما اذا كان (المُسسبِّي) سيفيض عندهم، مثل ما فاض نيل السودان هذا العام ، وبكل تأكيد متحسبين لمثل هذه الكوارث، ولهذا تجدهم مستعدين بكل الاحتياطات والتحوطات اللازمة والممكنة.
على الدولة أن تفكر بجدِّية وتقوم بدراسة ظاهرة الفيضان والأنهار قد تغيِّر مجاريها بعكس السيول التي لا تغيِّر مجاريها ولو بعد ألف عام.
من المسؤول في منح المواطنين تصاريح البناء في مجري السيول؟ هم يعتقدون اذا انقعطت السيول لسنوات وكأنها لن تاتي مرة أخرى مدى الحياة! فيضان النيل المدمِّر يتكرر كل عام ، والسُيول الهادرة الجارفة تتكرر كل عام وتتكررمعها المآسي لاننا مصرين في بناء مساكننا بالقرب في مجري السيول وضفاف الانهار.
طال الزمن أم قصر سينحسر النيل، وستنجلي الكوارث التي خلّفتها السيول والفيضانات ، والمشكلة أن الناس ستنسى المآسي ،وسينصرفون لإعادة بناء ما تهدّم في ذات المكان دون حسيب ولا رقيب ، اذا لم تتدخل الدولة بكل جدية وتقوم بتعويض كل متضرر بمنحه قطعة أرض بعيداً عن ضفاف الانهار، ومجاري السيول لان المواطن لا حول له ولاقوة في أن يشتري قطعة أرض بديلة، ويتكفل ببنائها مرة أخرى.
ونحن بدورنا نثمِّن على جهود والية نهر النيل د/ آمنة المكِّي التي تعمل جاهدة في تعويض أهالي بعض القرى التي تهدمت بيوتها، بأراضٍٍ مع ترحيلهم بعيداً عن ضفاف النيل ومجاري السيول.
هذا الموضوع يستحق إستنفار عام من المواطن والحكومة، وعلى الأخيرة أن تفكِّر في إنشاء صندوق قومي لتعويض المتضررين الذين تهدمت بيوتهم، وأصبحوا يفترشون العراء دون مأوى.
افيقوا يا أهل الاختصاص، وأعملوا في فتح مراكز أبحاث خاصة بفيضان النيل، لتقوم بعمل دراسات كافية، وترفع توصياتها للحكومة. مع عمل حملات توعية مكثَّفة للمواطنين بعواقب الفيضانات والسيول القادمة قبل حدوثها، ليعملوا ترتيباتهم قبل وقت كاف ،وليرحلوا من المناطق التي تشكل خطورة على أرواحهم وممتلكاتهم.
اما لشاعرنا الراحل المقيم سيف الدسوقي فنقول له : نيلك فاض يا شاعرنا ومعه فاضت آلامنا ،أما نخيلنا التي من المفترض أن تجود بالرطب، فهي الأخرى تتنفَّس تحت مياه الفيضان.
والله المستعان
أ/ عوض كفي
[email protected]