أخبار السودان

بعد عامين من حرب السودان… تسوية محفوفة بالمخاطر

مع اكمال الحرب في السودان عامها الثاني من دون أفق واضح للحسم، تزايدت الدعوات الدولية لاستئناف مسار سياسي ينهي القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، وسط مخاوف متصاعدة من انهيار الدولة وتفاقم الأزمة الإنسانية.
وعُقد في العاصمة البريطانية لندن، الثلاثاء، مؤتمر دولي شارك فيه وزراء خارجية نحو 20 دولة وممثلون عن الأمم المتحدة والاتحادين الأوروبي والأفريقي، إلى جانب دول عربية بينها مصر والسعودية والإمارات. وناقش المؤتمر آليات استئناف التفاوض وسبل وقف إطلاق النار، إضافة إلى خطط لإعادة الإعمار وتقديم مساعدات إنسانية بقيمة 2.1 مليار دولار.
لكن المؤتمر طبقا لمراقبين فشل في تشكيل «مجموعة اتصال» تقود جهود الوساطة، بسبب تحفظات أبدتها المملكة العربية السعودية ومصر على البيان الختامي الذي لم يتل، في مؤشر على استمرار الانقسام الإقليمي حول الصراع.
وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إن «الحل العسكري في السودان لن ينجح»، مؤكداً أن بلاده تسعى لدفع أطراف النزاع نحو مفاوضات شاملة عبر منصة جدة أو أي إطار بديل يحظى بالقبول.

انقسامات سياسية وميدانية

في الميدان، لا يزال القتال محتدماً بين الجيش السوداني والدعم السريع، رغم إعلان الجيش استعادة بعض المواقع في العاصمة ومدينة نيالا جنوب دارفور. ولا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على أجزاء واسعة من إقليم دارفور وكردفان.
وقال المحلل السياسي عمار سعيد لـ«القدس العربي» إن تعدد الفصائل المسلحة، يصعّب الوصول إلى اتفاق يشمل الجميع، وما زاد الوضع تعقيداً إعلان قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، تشكيل «حكومة موازية» تحت مسمى «حكومة السلام والوحدة»، في تحدٍ مباشر للحكومة المؤيدة للجيش والمتمركزة في بورتسودان.
وقال حميدتي في خطاب متلفز إن حكومته الجديدة تستند إلى «ميثاق سياسي ودستور انتقالي»، داعياً الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي للاعتراف بها. ووصفت مصادر عسكرية سودانية الإعلان بأنه «انقلاب سياسي يهدد وحدة البلاد».
واعتبر والي ولاية وسط دارفور السابق أديب عبدالرحمن أن خطاب حميدتي يزيد من تعقيد المشهد، ويقود إلى الإفلات من العقاب وتفتيت البلاد كما يهدد عملية الحل السلمي، وينسف كل محاولات التسوية، بل يزيد من حدة الصراع.

خلافات حول خريطة الحل

وفي وقت تتواصل فيه الدعوات الدولية لوقف القتال، تتمسك الحكومة السودانية بخريطة طريق طرحتها في شباط/فبراير الماضي، تركز على تشكيل حكومة كفاءات وتعيين رئيس وزراء مدني، من دون التطرق لترتيبات أمنية أو تقاسم للسلطة.
ويقابل هذا الطرح مبادرة الاتحاد الأفريقي، التي دعت إلى وقف دائم لإطلاق النار، وسحب القوات من المدن، وتحويل الخرطوم إلى منطقة منزوعة السلاح، ونشر قوات أفريقية لحماية المنشآت الحيوية.
وقال المحلل السياسي عمار سعيد إن تباين الرؤى بين الأطراف الإقليمية والمحلية يعرقل أي تقدم سياسي. وأضاف أن «استمرار غياب قيادة مدنية موحدة يضعف فرص الوصول إلى تسوية ذات مصداقية».

تحذيرات من انهيار شامل

ورغم التحديات، ترى أطراف دولية أن التسوية السياسية لا تزال ممكنة، لكنها تعتمد على توفر إرادة حقيقية لدى الأطراف السودانية ودعم إقليمي موحد.
وقال القيادي سابقا في تجمع المهنيين عمار حسن إن «النافذة تضيق سريعاً، وإذا لم يتحقق اختراق سياسي قريب، فإن خطر الانهيار الكامل سيصبح واقعاً لا مفر منه».
وأشار أديب عبدالرحمن، إلى أن أكثر من 25 فصيلًا مسلحًا باتوا جزءًا من المشهد العسكري، بعضهم لم يكن جزءًا من اتفاق جوبا للسلام. وقال إن «أي تسوية تحتاج إلى ترتيبات أمنية معقّدة لتفادي تفكك الساحة إلى نزاعات جديدة».
من جهته، ذكر القيادي في الكتلة الديمقراطية مبارك أردول، في حديث مقتضب أن التسوية غير ممكنة في ظل استمرار المعارك وشدة الانتهاكات. على عكس ذلك يرى السفير السوداني السابق الصادق المقلي، أن هناك «إجماعًا إقليميًا ودوليًا غير مسبوق، حتى من دول كانت تُعد قريبة من أحد أطراف الصراع، مثل مصر وقطر، على ضرورة وقف فوري لإطلاق النار وتهيئة الظروف لاستعادة السلام». وأضاف في تصريح لـ«القدس العربي» أن بريطانيا دعت أيضًا إلى جلسة مغلقة في مجلس الأمن الدولي، وسط مساعٍ لتعبئة دعم مالي يصل إلى 6 مليارات دولار كمساعدات إنسانية عاجلة.
وعلى الرغم من المشهد القاتم، اعتبر نشطاء أن روح الثورة لا تزال حاضرة. وقال الناشط محجوب كناري إن «أي اتفاق يجب أن يُبنى على أسس ثورية، لا صفقة بين سلاحين».
ويرى مراقبون أن الضغط الدولي وتدهور الأوضاع المعيشية قد يفتح نافذة محدودة لإنجاز اختراق، رغم أن غياب قيادة مدنية موحدة وتعدد الفاعلين المسلحين ما زال يشكل عقبة كبيرة أمام الحل.
واعتبر عمار سعيد أن «التسوية باتت ضرورية لكنها محفوفة بالمخاطر، وما لم يتم التقاط الفرصة الآن، فقد يغرق السودان في فوضى طويلة الأمد».

الوقائع على الأرض: لا غالب ولا مغلوب

على الأرض، لا مؤشرات لاقتراب الحسم. فعلى الرغم من استعادة الجيش لبعض المناطق في الخرطوم ونيالا مؤخرًا، ما زالت قوات الدعم السريع تحتفظ بنفوذ واسع في دارفور وأجزاء من كردفان، هذا التوازن الهش، حسب المحلل السياسي عمار سعيد يجعل من «التسوية مخرجًا وحيدًا، ولو من باب الواقعية السياسية».

مخاطر التشظي

أديب، عبّر عن قلقه من تزايد الانقسامات داخل الحركات المسلحة، خاصة تلك التي انضمت إلى الدعم السريع أو حاولت الوقوف على الحياد. وقال لـ«القدس العربي» إن «أي اتفاق محتمل يحتاج إلى ترتيبات أمنية دقيقة تشمل أكثر من 25 فصيلاً مسلحًا». وأضاف: «تجربة اتفاق 2005 علّمتنا أهمية وجود طرفين رئيسيين. أما الآن، فالساحة مزدحمة بفاعلين يصعب احتواؤهم بسهولة».
كما حذر من أن تفكك التحالفات العسكرية في دارفور وكردفان قد يؤدي إلى بروز نزاعات داخلية جديدة، حتى بعد التوصل إلى اتفاق شامل. «نخشى من انزلاق الوضع إلى نموذج صومالي متمدد»، قال.

الجيش متمسك بالخيار العسكري

من جهته، لا يبدي الجيش السوداني استعدادًا حقيقيًا للتفاوض. القيادي في حزب المؤتمر الشعبي، عمار السجاد، يعتقد أن الجيش «تجاوز مرحلة الحوار»، مضيفًا أن «المؤسسة العسكرية الآن في وضع هجومي، وتستعد لتحرير كامل دارفور». ونوه إلى أن «هناك حركات إسلامية قاتلت إلى جانب الجيش، وتعتبر أن أي تسوية تتجاوزها ستكون مرفوضة».
واتهم السجاد الإمارات بإدخال منظومات دفاع جوي حديثة حيّدت الطيران الحربي السوداني، ما يؤشر إلى تعمّق التوترات الإقليمية، ويجعل من التفاوض رهينة بمواقف أطراف خارجية.

منصة جدة: هل تعود للحياة؟

منصة جدة، التي رعتها السعودية والولايات المتحدة، بدت في الأشهر الأخيرة وكأنها فقدت زخمها، لكن دبلوماسيين تحدثوا عن جهود لإحيائها عبر مسار أكثر شمولًا، يتضمن إشراك قوى مدنية، وتحسين شروط وقف إطلاق النار، وربط المساعدات الاقتصادية بالتزام فعلي من الأطراف المتصارعة.
عمار سعيد، قال لـ«القدس العربي» إن «هناك أفكارًا يتم تداولها بشأن توسيع منصة جدة، وربما استبدالها بمنصة إقليمية أوسع، على غرار مفاوضات نيفاشا في 2005». وأضاف أن «العقبة الكبرى هي غياب القيادة المدنية الموحدة القادرة على ملء الفراغ بين الطرفين العسكريين».

المجاعة تلوح في الأفق

بالنسبة للأمم المتحدة فإن التسوية ضرورية بالنظر إلى تزايد المعارك وتقلص حركة الإغاثة، وأطلقت تحذيرًا من أن السودان بات «قاب قوسين أو أدنى من مجاعة جماعية». الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع بأنه «أكبر أزمة نزوح في العالم»، مع فرار أكثر من 12 مليون شخص، بينهم 3.8 مليون عبروا الحدود إلى دول الجوار، وقال إن «نصف سكان السودان يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وهناك مجاعة فعلية في خمس مناطق على الأقل».
وأضاف: «إنهاء هذا الصراع العبثي هو السبيل الوحيد لحماية المدنيين». وتابع: «ما من حل عسكري لهذه الحرب، ولا منتصر في نهايتها. وحدها التسوية السياسية يمكن أن تعيد الأمل».

صمود متمسكة بالمحاسبة

وخلال مؤتمر لندن قدمت مجموعة صمود رؤيتها لوقف الحرب. وفي كلمات ممثلها خلال جلسات المؤتمر، طرحت «صمود» نفسها كقوة مدنية مستقلة، لا تنتمي لا إلى الجيش ولا إلى قوات الدعم السريع.
وقال عضو المجموعة سامي حسن في تصريح لـ«القدس العربي» إنهم يمثلون «المدنيين المتروكين في العراء»، ويسعون لإعادة تعريف العملية السياسية من منطلق شعبي ووطني.
وأكد أن أي حل سياسي لا يمكن أن يستند إلى شرعنة الأمر الواقع الذي فرضته الحرب، مشددا على ضرورة وقف إطلاق النار فورًا، وإطلاق عملية عدالة انتقالية لمحاسبة كل من تورّط في جرائم الحرب والانتهاكات.

الشارع متمسك بروح الثورة

رغم اليأس، لم تمت شعارات ثورة ديسمبر. الناشط السياسي محجوب كناري يرى أن «الوعي الشعبي الذي تشكل بفعل الحراك الثوري سيُفشل أي محاولة لإعادة إنتاج الاستبداد عبر التسويات «. ويضيف: «محاولات إجهاض الثورة ستفشل طالما ظل السودانيون متمسكين بشعارات الحرية والسلام والعدالة».
كناري يرى أن التسوية لا يجب أن تكون صفقة بين سلاحين، بل «مشروعًا وطنيًا جامعًا، يُعيد تموضع المدنيين في قيادة الدولة، ويُبعد السلاح عن السياسة». ويحذر من أن «أي حل يتجاهل قوى الثورة سيكون موقّتًا، وعرضة للانفجار لاحقًا».

بين الواقعية والمثالية

المحلل السياسي عمار سعيد يرى أن فرص التسوية قائمة، لكنها محاطة بالأشواك. ويقول: «ما يجعلها ممكنة هو استحالة الحسم العسكري، وضغط المعاناة الإنسانية، والرغبة الدولية في إنهاء الأزمة. وما يجعلها صعبة هو غياب الثقة، وتعدد القوى المسلحة، والتدخلات الإقليمية».
ويعدد سعيد أربعة عوامل تجعل التسوية ممكنة نظريًا: استحالة الحسم العسكري، الضغط الشعبي، الوساطة الدولية، وخوف النخب من تفكك الدولة. لكنه يضيف أربعة عوائق كبرى: انعدام الثقة، تغير موازين القوة، غياب قيادة مدنية جامعة، والتدخلات المتناقضة.

من يصوغ التسوية؟

هل يمكن إنجاز تسوية؟ بل من الذي يصوغها؟ ولصالح من؟ هل ستكون مجرد صفقة لإسكات البنادق، أم بداية لمسار حقيقي نحو بناء دولة سودانية جديدة؟
الإجابة عند كناري الذي يقول: «أي اتفاق قادم يجب أن يحتوي على ضمانات حقيقية، ومشاركة واسعة من المجتمع المدني، وتمثيل حقيقي للنساء والشباب». ويضيف: «لقد جرّبنا تسويات النخب، والنتيجة كانت كارثية. هذه المرة، لا بد أن تُصاغ التسوية من القاعدة إلى القمة».

الطريق الوحيد الممكن

رغم كل التعقيدات، يرى مراقبون أن الضغط الدولي المتصاعد، وتدهور الأوضاع الإنسانية، قد يشكلان نافذة ضيقة لإنجاز اختراق، شريطة أن تتمسك الأطراف بما تبقى من خيوط الحوار.
قد لا تكون التسوية السياسية وصفة مثالية، لكنها – في نظر كثيرين – الطريق الوحيد الممكن لإنقاذ ما تبقى من السودان، قبل أن يتحول إلى ساحة فوضى دائمة، ومجاعة ونزوح.
فرغم الانهيار المتسارع وتعدد اللاعبين وتضارب الأجندات، يظل الأمل – وإن كان ضئيلاً – قائماً على شرط واحد: إرادة حقيقية للحل.
التسوية السياسية، وإن لم تكن الحل الأمثل عند البعض إلا انها عند آخرين، تبقى الخيار الأقل ضرراً في واقع لم يعد يحتمل المزيد من المغامرات العسكرية أو التصلب السياسي. الفوضى ليست احتمالاً بعيداً، بل تلوح في الأفق مع تصاعد المجاعة واتساع النزوح، ما يعني أن التلكؤ في اغتنام فرص الحل سيكون بمثابة توقيع على شهادة وفاة الوطن.
السؤال الآن: هل تدرك الأطراف – ومن خلفها القوى الدولية أن النافذة قد لا تظل مفتوحة طويلاً؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..