رحيل فى السياق النوبى: الموت يغيب عالمة الآثار نيتى أدامز

محمد يوسف وردي
بمزيد من الحزن والأسى أنعى عالمة النوبيات المرموقة نيتى آدامز ، التى غابت شمسها فى لكسينغتون بولاية كنتاكى فى الحادى عشر من يونيو الجارى،بعد حياة حافلة توزعت سنواتها بين الأنثروبولوجيا والآثار واستأثر اهتمامها بالنوبة الجزء الأكبر منها.
جاءت نيتى إلى بلادنا فى نهاية الخمسينات برفقة زوجها العلامة وليام آدامز عندما اختارته اليونسكو رئيسا لحملتها لإنقاذ آثار النوبة ، وعملت إلى جوار زوجها فى جميع عمليات التنقيب الأركيولوجي فى مناطق وادى حلفا خاصة فى كولبنارتى ومينارتى وفرس وعبدالقادر ، كما رافقته أيضا فى عملهما الكبير المتمثل فى التنقيب فى قصر أبريم فى النوبة المصرية.
كان بينها وبين وليام عروة وثقى اسمها النوبة رافقتهما حتى الممات،وكانت نيتى مثل زوجها تصرح علنا بأنه وإن كان ماضى النوبة قد جذبها إلا ان إعجابها بإنسان النوبة البسيط الذى تعايشت معه جعل قلبها وعقلها يتعلقان بالحضارة النوبية .وكانت تقول إنهما ذهبا للنوبة للتصدى لمهمة مستعجلة حيث كان الجميع يسابق الزمن للحفاظ على الآثار المهددة بطوفان السد العالى ،لكنها وقعت من أول نظرة فى حب النوبة.
والشاهد أنها حتى بعد رحيل وليام آدامز قبل نحو خمسة أعوام ،كانت كلما اتصل بها تستدعى الصفحات القديمة من ذاكرتها وتطوف بى بين الحبل والنيل فى ربوع حلفا.
وكانت تتأسى على زمن حلفا الذى اختفت معه الطلاقة الريفية المترعة بالبساطة والإنسانيات.. وفى السنوات الأخيرة كانت نيتى تشكو من ضعف الذاكرة الذى يمنعها من الاسترسال فى استدعاء الصور والأماكن والوجوه التى تطل من مرايا الروح ، وكنت أشعر بها وقد انتابتها مسحة من الحزن لفشلها فى إيراد الأدلة اثناء الحديث وهى التى كرست حياتها بحثا عن الأدلة كعادتها ..لكن فى كل الأحوال لم تسقط الذاكرة سؤالها المتكرر لى إن كان النساء فى النوبة مازلن يحرصن على إرتداء الجرجار الذى كانت تلم بتاريخه وأصله وفصله وأشكاله وأنواعه وتفصيلاته إلماما تاما يحير أبرع خياطة فى نواحى عنيبة والجنينة والشباك.وعلى اعترف هنا بأنها أحست بضآلة معرفتى بالجرجار والأزياء والحلى النوبية واغدقت علي شخصى جرعاتها المعلوماتية الكبيرة.
وقالت لى مرة إن تفصيل الجرجار كان يستلزم أن يكون واسعا وفضفاضا وطويلاً من الخلف بحيث يغطى الأرجل تماما ويسحب معه التراب .وذلك ما دعاني لاستدعاء مقولة ذكرها لى عالمنا الفذ الهادى حسن احمد الذى كان منشغلا بنوبيات شاعر الشعب العملاق خليل فرح الذى طلب من محبوبته فى واحدة من قصائده النوبية أن ترفع الإزار عن الأرض قليلا، ما يمكن تفسيره بأنه كان يتوخى أن لا تمسح زوائد الجرجار الخلفية وقع أقدامها حتى يتسنى له اقتفاء آثارها!!!
برعت نيتى فى مجال المنسوجات النوبية القديمة بخاصة تلك التى تم العثور عليها ضمن الاكتشافات المهمة فى مقبرتين واحدة فى كولبنارتى وأخرى فى مقبرة مقابلة لها بالضفة الشرقية للنيل.وربما تكون نيتى اكثر علماء النوبيات اهتماما بالمنسوجات النوبية والأنثروبولوجيا الفيزيائية على الإطلاق .كتبت نيتى عن تداول السلع المصنعة الفاخرة فى النوبة.وعن البرونزيات والأواني الزجاجية والسجاد و أيضًا الحرير فى الفترة الكلاسيكية المتأخرة. وقد أوضحت أن تاريخ أقدم عينات الحرير التى عثروا عليها فى قسطل فى النوبة تعود لفترة ساحقة من التاريخ ،وتبين أنها من عدة الوان وعندما تم تحليل خيوط الحرير اتضح أنها من فراشة برية تنتج حريرا.
وشاركت نيتى زوجها فى عمليات التنقيب فى النوبة السودانية وعملت مديرة لموقع التنقيب فى قصر ابريم.
وكتبت نيتى عددا لا حصر له من أوراق البحث الخاصة بتاريخ وحضارة النوبة،واشتركت مع زوجها فى إصدار سلسلة مؤلفات بشأن أعمال التنقيب ونتائج الحفر فى قبور كولبنارتى التى نشرت بشأنها كتابين.قدم الأول أوصافا تفصيلية لأنواع القبور التى تقع ضمن سياقها النوبى فى العصور الوسطى والثانى عن القطع الأثرية،علاوة على كتابيهما المهمين عن قصر ابريم حيث كشفا فيهما السجل التاريخى لموقع قصر ابريم استنادا إلى المصادر الأرشيفية بالذات العثمانية.
لقد كان عملهما فى قصر ابريم تحوليا وكانت نتائجه يقينية من جهة كشف عبقرية الحضارة النوبية وإسكات من كانوا يثيرون الشكوك بشأنها. وطوال تاريخه الممتد كان قصر ابريم أهم مستوطنة نوبية،وخلال العصور الوسطى كانت ابريم عاصمة ادارية للنوبة ومركزا للعبادة المسيحية حيث تم العثور على ثروة غير مسبوقة من المواد الأثرية شملت الوثائق الادارية من مختلف العصور وكذلك الاشياء المصنوعة من الخشب والجلود والمنسوجات التى نادرا ما يتم الحفاظ عليها ، وجدت كلها محفوظة فى مكان واحد داخل القصر دليلا على ريادة الحضارة النوبية.كما تم حفظ مئات العينات من المواد المكتوبة بالعديد من اللغات المختلفة ومن بينها اللغة النوبية.ولا غرو فقد كان من بين الوثائق التى عثر عليها وليام ادامز وزوجته وثيقة البقط الأصلية الموقعة بين النوبة والعرب ،وكنت سألت ادامز عما جال بخاطره
لحظة اكتشاف إتفاقية البقط، وأذكر أنه نظر للأفق مليا ورد قائلا : محمد ابراهيم أبو سليم .
فى حياة نيتى وزوجها أغدقنا عليهما المديح لصنيعهما وكانا يسعدان عندما ننقل لهما تقدير النوبيين لأفضالهما، وكان الإثنان منغمسان حتى الممات فى الحلم النوبى.
و يقولان بانتظام إن الحفاظ على النوبة يبدا بالحفاظ على اللغة النوبية.
وسدرت نيتى فى ضحكة طويلة عندما قلت لها :،إن تمسك النوبيين بهويتهم سيستمر فى أسوأ الاحوال جيلا إثر جيل ..لأنكما كشفتما لهم ماضيهم الزاهى وهم أى شعب النوبة يبجل الماضى، لدرجة أنهم لا يقولون عندما يستيقظون فى الصباح صباح الخير مثل البشر،بل يقولون هل كانت ليلتك هانئة؟
واخيرًا كرمت جامعة كنتاكى ومقرها فى مدينة لكسينغتون الزوجين الراحلين بمنحة دراسية حملت اسميهما،بينما نحن للأسف ليس لدينا ما نقدمه لهما ردا للجميل لأننا أصبحنا بلا دولة ،
لقد فشلنا حتى فى تعليم أبنائنا كيفية التعامل بشكل كامل مع التفسيرات التاريخية وأخفقنا أيضا فى خلق قارىء نقدى ممتاز يفند الإدعاءات الكثيرة فى تاريخ البلاد وصولا للحقيقة التاريخية ،بخاصة عندما أصبح التاريخ أداة تضليل يطوعها البعض فى السودان بصورة قبلية شنيعة.
إن أفضل تكريم لنيتى وبيل هو قيام الشباب النوبى فى قرانا بالعمل من أجل جعل فكرة الحقيقة التاريخية مسألة شعبية لمواجهة الاستبداد والهمجية والجهل فى عصر ما بعد الحداثة ،ومن اجل ترسيخها فى عقول أطفالنا وهم يواجهون مستقبلا غامضا ومخيفا.
فى يوم رحيل نيتى يزداد حاجتنا إلى النوستالجيا حيث إشراقات التاريخ السابقة. فى ظل حاضر قاتم ومستقبل لا يبشر بشىء محسوس .