الاقتراض الخارجي.. مزيد من المرمطة!

من أكبر مشاكلنا في السودان ? وعلى كافة الأصعدة والمجالات والقطاعات ? أنّنا نهتم فقط بالـ(عَرَضْ)، ولا نبحث أو نهتم بالـ(مُسبٍّبْ)! على سبيل المثال، بقينا زماناً ليس قصيراً نتعالج بالـ(كلوروكوين) ضد الملاريا (حمى الله الجميع شرها)! ولم نبذل جهداً كافياً في المقابل لحسم الـ(مُتسبب) فيها، وهو الباعوض والبرك والمستنقعات التي تشكل سكناً وبيئةً مثالية لانتشاره ونموه! فأصبح الـ(كلوروكوين) غير فعال لمعالجة الملاريا التي انتشرت أكثر من ذي قبل، وازدادت قوتها، فلجأنا للـ(كينين)، ثم الـ(حُقَن) الزيتية وانتهينا لما يُعرف بالـ(راجمات)! وقد نستخدم الصواريخ أو القنابل، مع ازدياد واستفحال الملاريا التي أصبحت عالمياً من الأمراض التاريخية، والمصابين بها في الخارج يُفصلون و يُعزلون عن المجتمعات باعتباره مرضاً خطيراً و(متخلفاً) تم القضاء عليه من (جذوره) عقب حسم (أسباب) الإصابة به! وهذا ليس في الدول المتقدمة وحدها، وإنما في الدول القريبة منا، وما رشح من أخبار من مصر في اليومين الماضيين أكبر دليل وخير شاهد على صحة حديثنا، ونحن نؤيدهم في ما قاموا به لحماية شعوبهم ودولهم.
قادني لهذه المقدمة، تصريحات وزير الزراعة والري بشأن القرض السعودي ? الكويتي البالغ (150) مليون دولار لأغراض التنمية الزراعية، وفرحته الـ(عارمة) هو ? أي الوزير ? وآخرين بهذا القرض، حالهم كحال وزير المالية السابق الذي بشَّرنا مع بدايات عام 2012 بالقرض الصيني آنذاك! أو كحال الدولة بصفةٍ عامة مع كل منحة أو هبة أو قرض يأتينا من الخارج! البعض برَّر فرحته باعتبار أن هذا القرض مؤشر لـ(تحسُّن) العلاقات السودانية الخليجية التي شابها الفتور وبعض الضبابية في الفترة الماضية. ونحن السودانيون بالطبع، نسعد لتحسين صورتنا وعلاقاتنا مع كل دول العالم وبالتأكيد على رأسهم أخوتنا وأحبائنا في الخليج أو المنطقة العربية والإسلامية، وهذا موضوعٌ آخر قد نُفرد له مساحة خاصة، لكن الأهم هل الزراعة بحاجة إلى قروض خارجية لتنهض وتعود إلى سيرتها الأولى؟ وبصيغةٍ أخرى أكثر وضوحاً: ما هي أسباب تراجع الزراعة السودانية؟ أو العوامل التي أدت لعزوف المنتجين الزراعيين على اختلاف حيازاتهم (الصغيرة والمتوسطة والكبيرة) عن الزراعة؟!
الإجابة على هذا السؤال لن تكون غير الرسوم الحكومية المختلفة مقداراً وتنوعاً (مكانياً أو اسمياً) بأنها السبب الرئيسي بل الأوحد لنفور الناس أو المنتجين الزراعيين عن الإنتاج الزراعي، وبحمد الله لم يحدث لنا أي تغيرات بيئية أو طبيعية طيلة العقدين الماضيين، سواء جفاف أو تصحر أو ما شابه، والأمر الوحيد الذي تغير هم البشر وطريقة الإدارة والأداء والتوجه! وبالنسبة لطرق الزراعة، نجد بأن السودان يمارس الزراعات التقليدية، وهي مطلوبة لأكثر من سبب أولها أنها غير مكلفة، وبالتالي تصبح مُجزية اقتصادياً. وثانيها أن الزراعة التقليدية المطبقة في السودان تدعم متطلبات السلامة البيئية، سواء من حيث التقاوي التي يمكن إنتاجها محلياً (مع المحافظة على المصادر الوراثية) أو تقليل استخدامات المخصبات أو المغذيات أو المبيدات المستخدمة في الزراعات المتقدمة. بل وبالرجوع إلى ما يُطلق عليه البعض تقانات حديثة مصاحبة لأساليب وطرق الإنتاج الزراعي، نجدها تستخدم المبيدات أو بعض المواد المصنعة بكثافة، سواء قبل البذر أو بعده أو أثناء النمو وغيرها من مراحل الزراعة المختلفة، مما يُضعف مردودها الاقتصادي والتغذوي أو الصحي، حيث يتجه العالم بأسره نحو الزراعات العُضوية، وهي الأقرب للزراعة التقليدية السودانية الحالية التي وإن بدت بدائية إلا أنها تتسم بعناصر السلامة البيئية، ودونكم ما جرى في عملية القطن المحور وراثياً والخسارة التي نلناها، حيث فقدنا أفضل أصناف وأنواع القطن التي ظل يتميز بها السودان وهو القطن طويل التيلة، مع عدم الاستفادة من مخلفاته نتيجة لأضرار البذور المحورة، بينما كان هدف من قام بهذه الخطوة الكارثية هو زيادة الإنتاجية من القطن!
بالعودة لموضوعنا الأساسي الذي يدور حول السبب الذي أدى لتحجيم الإنتاج الزراعي بصفة عامة في السودان، وهو الرسوم الحكومية المختلفة المفروضة على هذا القطاع حاله كحال بقية القطاعات، إلا أن الفارق أن القطاع الزراعي هو محور اقتصاد السودان حيث كنا نغطي كافة احتياجات الدولة من عائدات هذا القطاع، وهو أمرٌ لا يخفى على القائمين بالأمر، ولا يحتاج لعبقرية لاكتشافه ومعرفته. وما تقوم به وزارة الزراعة أو الدولة بصفةٍ عامة لتخدير العامة والتحايل على الذات بأن الأمر سينتهي بقروض خارجية، إنما يشبه حالة الملاريا التي ما زالت موجودة في السودان كأحد الأمراض المتخلفة بل وزادت حدتها بعدما لم تعد تستجيب للعلاجات التقليدية لها وهو الـ(كلوروكوين)! فلجأ القائمون إلى علاجات أخرى قد تعالج الملاريا آنياً، لكنها تبقى موجودة مع تسبب هذه العلاجات في إحداث أمراض أخرى، وكان بالإمكان تلافي كل هذا إذا حسمنا أمر الـ(متسبب) فيها.
نقولها صريحة للسيد وزير الزراعة وللقائمين على أمر البلد، تجاوز أزمة الزراعة ومعالجة إحجام الناس عن الإنتاج الزراعي بعد لطف الله بين يديكم، ارفعوا الرسوم الإنتاجية المفروضة على القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وبكافة مسمياتها وأشكالها ومستوياتها (اتحادية أو ولائية)، مع مراقبة ومتابعة وتنفيذ هذا الأمر ومعاقبة كل من لا يلتزم بهذا التوجه مهما علا شأنه. ويكفي ما لحق بحال الزراعة من تردي ونحن وأنتم نتفرج! فالأمر لا يحتاج لخطب وأحاديث ولجان (وقومة وقعدة)، إنما لقرار واضح وصريح يلتزم به الجميع، وإلا فانذروا بمزيد من الفشل والتراجع والإحباط. أما القروض والهبات وما يقع في إطارها، فهي تهدر كرامتنا جميعاً (بلا استثناء)، ولا تعالج مشاكلنا، بل تزيدنا (مهانة) و(مرمطة)، وتعمّق أزمتنا الاقتصادية وتقودنا لمراحل متاخرة تنتهي بالعجز الكامل.. وللحديث بقية.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..